في كتابه الذي عده مجموعة قصصية توثيقية، كتب الروائي والقاص الراحل مكاوي سعيد في "مقتنيات وسط البلد" مجموعة من النصوص التي حاول فيها القبض على صور وشخصيات غابت عن شوارع ومباني منطقة وسط القاهرة وتكاد تغيب عن ذاكرتها والذاكرة الشعبية المصرية بأكملها.
في الوقت الذي نشر فيه سعيد كتابه مصحوبًا برسوم للفنان عمرو الكفراوي، في العام 2010، كانت منطقة وسط البلد لا تزال محتفظة بشخصيتها التي كونتها على مدار ما يزيد على قرن من الزمن منذ أنشأها الخديو إسماعيل كعاصمة جديدة تتمدد فيها القاهرة شرقاً وشمالاً، لتضحى بالتدريج قلب القاهرة النابض بالثقافة والتمرد والأصوات الداعية للحريات، ومطمع الحالمين بالاندماج في دوائر الثقافة والفن والسياسة للعاصمة. لكن بعد سنوات قليلة من تلك الصورة التي حاول سعيد القبض عليها بات لوسط القاهرة هوية أخرى، عمادها لفظ تلك الدوائر ولفظ المنتمين إليها مما طوردوا إلى خارج وسط البلد، بل وطورد بعضهم إلى خارج البلد كلها.
في الوقت الذي نشر فيه مكاوي سعيد "مقتنيات وسط البلد"، كانت وسط البلد لا تزال محتفظة بشخصيتها التي كونتها منذ أنشأها الخديو إسماعيل كعاصمة جديدة تتمدد فيها القاهرة شرقاً وشمالاً، لتضحى بالتدريج قلب القاهرة النابض بالثقافة والتمرد والأصوات الداعية للحريات، لكن تلك الصورة باتت الآن مهددة بالتلاشي إلى الأبد
آمن بلا أمان
في أعقاب إنهاء حكم الإخوان المسلمين في يونيو/ حزيران 2013، فرضت السلطات المصرية حظر تجوال طويل الأمد، كان أكثر مواضعه تشددًا منطقة وسط القاهرة والشوارع والأحياء القريبة المحيطة بها والمؤدية إليها. خففت السلطات المصرية لاحقًا من ساعات حظر التجوال إلى أن قننت أوضاع الإغلاق من خلال قرارات تنظيمية بلدية بغلق المحال في العاشرة مساءً في الشتاء والحادية عشرة صيفاً، وتسري هذه القواعد بشكل خاص على منطقة وسط القاهرة. في الوقت، بدأت السلطات غلق المقاهي الشهيرة التي اعتاد الناشطون سياسياً والفنانين قضاء أوقاتهم على مقاعدها وأشهرها منطقة البورصة بقرارات بلدية تنظيمية.
من وقتها وفي شهر يناير/ كانون الثاني من كل عام (الذي شهد ثورة 25 يناير) أو في كل مناسبة أخرى غير ثورية مثل رأس السنة، تتأهب عربات الأمن الرابضة في شوارع وسط القاهرة من دون انقطاع، ويزداد عدد سيارات وأفراد الشرطة بلباس مدني في ميدان التحرير والشوارع المحيطة به للتأكد من حفظ الأمن عبر تهديد الشعور بالأمان لدى المارة والسكان
تدريجياً أخذ شكل وسط القاهرة في التغير إلى أن بدأت السلطات مرحلة جديدة في إجراءاتها الهادفة لحفظ الأمن في منطقة وسط البلد التي يميزها أنها لصيقة بميدان التحرير فسجلت الصحف والمؤسسات الحقوقية في العام 2016 بدء حملات لمداهمة الشقق السكنية لا سيما المؤجرة منها لشباب من الفنانين والكتاب والعاملين في مؤسسات المجتمع المدني وتفتيشها والقبض على عدد من سكانها بتهم متنوعة إضافة إلى بدء حملات تفتيش الاجهزة الإلكترونية الشخصية وعلى رأسها الهواتف الخاصة بالسكان والمارة في منطقة وسط القاهرة.
من وقتها وفي شهر يناير/ كانون الثاني من كل عام (الذي شهد ثورة 25 يناير) أو في كل مناسبة أخرى غير ثورية مثل رأس السنة، تتأهب عربات الأمن الرابضة في شوارع وسط القاهرة من دون انقطاع، ويزداد عدد سيارات وأفراد الشرطة بلباس مدني في ميدان التحرير والشوارع المحيطة به للتأكد من حفظ الأمن عبر تهديد الشعور بالأمان لدى المارة والسكان.
تركوا بيوتهم إلى غير رجعة
يحكي محمود عبدالله* 37 سنة الذي يعمل صحفياً مستقلاً، أنه قرر ترك المنيرة التي عاش بها لمدة تزيد عن الثماني سنوات، والانتقال لمنطقة الدقي بالجيزة، بسبب التضييقات الأمنية المستمرة "أذكر البداية في يوم سمعت فيه طرقات شديدة على باب المسكن الذي أتشاركه مع مجموعة الصحفيين الآخرين، كان صوت تخبيط حكومة بوضوح. نظرت من العين السحرية، لأجد ثلاثة أشخاص لا أعرفهم يبدو أنهم من الأمن، لم أقو على فتح الباب، أصابني الخوف ومكثت في مكاني حتى انصرفوا" تذكر محمود في تلك اللحظة أصدقاء له تعرضت شقتهم في منطقة المنيرة القريبة من وسط البلد لتفتيش مماثل واقتيدوا إلى قسم الشرطة من دون سبب، وآخرين احتجزوا بسبب منشورات قديمة على حساباتهم على الشبكات الاجتماعية.
ظن محمود أن السبيل للخلاص من تلك الملاحقات المفاجئة أن ينتقل إلى الجهة الأخرى من شارع قصر العيني ليصير من سكان جاردن سيتي التي تبلغ أسعار الإيجارات فيها أضعاف السعر في منطقة المنيرة الواقعة على الرصيف المقابل، يسخر محمود أنه أصبح آمناً عندما قرر العيش على الرصيف الآخر وأن شارعاً واحداً يفصل بين الأمان والخوف. إلا أن أمانه الذي كلفه الكثير لم يدم كثيرًا لأن صاحب الشقة لم يجدد له العقد أكثر من سنة، واضطر إلى الرحيل مجدداً.
ظن محمود أن السبيل للخلاص من تلك الملاحقات المفاجئة أن ينتقل إلى الجهة الأخرى من شارع قصر العيني ليصير من سكان جاردن سيتي التي تبلغ أسعار الإيجارات فيها أضعاف السعر في منطقة المنيرة الواقعة على الرصيف المقابل
يقول محمود إن من أصدقائه من ترك مصر كلها وسافر، ومنهم من ترك وسط البلد مضطراً، أما هو فبالنسبة له لم تعد لوسط البلد مميزات، أو على حد قوله "فيه قلق وانت طالع ونازل، أصبح الأمن يؤرق كل من يعيش في هذه المنطقة في ذكرى الثورة، كأنه عقاب أبدي على ذنبٍ لم يقترفوه، أضف إلى ذلك أن الشقق باتت مستهلكة، وحالتها رديئة والإيجارات أيضاً باهظة وليست رخيصة".
عندما اختفى "ماصوني"
يرى محمود مثل عدد من الصحافيين والفنانيين الذين تحدثوا لرصيف22 وكانوا من السكان والمرتادين السابقين لوسط البلد أنها "مرحلة وانتهت" وأنها باتت تمثل بالنسبة للدولة ساحة لإعلان الانتصار على ثورة يناير وكل ما يتصل بها، "ولو الدولة حسباها كدا فهي انتصرت فعلاً وسط البلد بقت مكان مرعب". ما أكد قراره بحتمية الرحيل، كان واقعة اختفاء صديق لأصدقائه يدعى "مصطفى ماصوني" لا يزال مصيره مجهولاً منذ اختفائه في العام 2014 من منطقة وسط البلد حيث كان يسكن محمود.
يقول" مصطفي ماصوني اتاخد من المنيرة، كان نازل يشتري حاجات واختفى" شعر محمود بعدها بالخوف. وكان يتخيل دوماً مشهداً يلاقي فيه مصير ماصوني كلما نزل إلى الشارع ليشتري أي شيء "خلاص كسبوا الأرض والمكان دا معادش مكان الناس" يواصل: "أدركت أن علي الرحيل عن وسط البلد لأن كل لحظة تمر علي فيها أشعر بالهزيمة". لكن مع ذلك يرى أنه لا قواعد يمشي عليها للحماية حتى مع الابتعاد عن وسط البلد، "إنت وحظك، كما يقول أحمد فؤاد نجم: حد ضامن يمشي آمن، أو مآمن يمشي فين؟".
يعيش المثقف على مقهى ريش ومقاه أخرى لا نعرف أين راحت
كتب الراحل أحمد فؤاد نجم أيضاً في إحدى قصائده في هجاء المثقفين "يعيش المثقف على مقهى ريش"، ومقهى ريش بات الآن ملتقى للملتصقين بالثقافة من طبقات بعينها، أما الأماكن التي اعتاد عامة المثقفين أو فناني وسط البلد والشباب المنخرط في العمل السياسي أيضاً الجلوس بها وقت الثورة وما بعدها هي مقاهي البورصة، والبستان والتكعيبة. بعض هذه المقاهي انتهى وجودها كمجموعة مقاهي البورصة، أمّا المستمر منها في موضعه فتغيرت تركيبة روادها مع تغير تركيبة سكان ومرتادي وسط البلد التي لم تعد وجهة للمثقفين والكتاب والفنانين والناشطين سياسيًا، هذا ما يقوله الفنان التشكيلي مينا يعقوب* الذي اعتاد الجلوس في مقهى التكعيبة الذي عادة ما اجتمع عليه الفنانون التشكيليون ورسامي الكاريكاتير وفناني المسرح والرقص بحكم ملاصقته لجاليري التاون هاوس ومسرح روابط بمنطقة شامبليون بوسط البلد.
يحكي مينا عن تجربته مع وسط البلد كشاهد على تغير طبيعتها وطبيعة مرتاديها بفعل الظروف السياسية والاقتصادية أيضاً، ويقول "سكنت في جاردن سيتي بعد ثورة يناير وكان وقتها الايجار الشهري يبلغ 2000 جنيهاً، وهو مبلغ يعتبر مرتفع وقتها، في هذه الفترة هجر الأجانب جاردن سيتي هؤلاء بسبب الخوف من الانفلات الأمني. بعدها كان إيجار الشقة يتزايد سنوياً حتى وصل إلى 4 آلاف في عام 2019. حينها قرر صاحب الشقة أنه لن يكتفي بهذه الزيادة، وقرر تأجير الشقة إدارياً بسعر أعلى، وعدم تجديد العقد".
دفع هذا مينا إلى البحث عن شقة في قريبة من وسط البلد، مبتعدًا عن منطقة طلعت حرب التي حذره أصدقاؤه من السكن فيها (وحيث يقع مقهاه الأثير) بسبب المضايقات الأمنية. كان الخوف هو المسيطر على كل الأصدقاء الذين يسكنون في أماكن قريبة من ميدان التحرير والفلكي وقصر النيل وشارع شريف، أخبره أصدقاؤه أن "الأمن يقوم بتفتيش هذه الشقق باستمرار ومن دون موعد محدد". فاضطر للانتقال لمنطقة المنيرة، وهي منطقة شعبية بالنسبة لجاردن سيتي، يصعب فيها استقبال أصدقائه بحرية، وترصده عيون الجيران، ويبلغ إيجار غرفته في سكن مشترك في المنيرة، مبلغ 6 آلاف جنيه، أي تزيد عن إيجار شقة جاردن سيتي التي كان يسكنها في 2019، "الملاحظة الأخرى أن الأجانب قد غزوا منطقة المنيرة والسيدة زينب القريبة من المعهد الفرنسي، لانخفاض إيجارها بالنسبة لهم، لكنهم لا تترصدهم عيون الجيران والبوابين لأنهم قادمين من ثقافات أخرى ولأنهم أجانب يرى الجيران والبوابين أنهم سيذهبوا للجحيم في كل الحالات".
لكن أين ذهب السكان السابقين لوسط البلد؟
وسط البلد الجديدة
"المعادي أصبحت وسط البلد الجديدة" يقولها حسن محمود المسوِّق الإلكتروني الذي انتقل من السكن في وسط البلد إلى منطقة المعادي "هادية وبعيدة عن أماكن التروما الجماعية والكر والفر في شوارع وسط البلد".
جاء قرار حسن بالانتقال بعد تجارب يصفها بالـ"أليمة" في وسط البلد التي سكنها في الفترة من 2015 حتى 2016 وتعرض سكنه فيها لعدة مداهمات أمنية وتفتيش بلا سبب. رحل حسن إلى المعادي على الرغم من أن إيجارها أعلى من شقق وسط البلد، "لكنها أكثر أمناً ونظافة. لكن كانت الغرفة التي أسكن بها في وسط البلد لا تتجاوز ألف جنيه إيجار، أما في منطقة المعادي فبلغ إيجار الغرفة 2500 جنيه".
العيش في وسط البلد لم يكن سهلاً بالنسبة لحسن، فقد تنقل بين ثلاث شقق بسبب المخاوف والتضييقات الأمنية، "كانت أول حملة تفتيش لشقق وسط البلد في يناير 2016 مع الذكرى الخامسة للثورة، وقتها كانت الشقة التي أسكنها مع أصدقائي ضمن الشقق التي اختارها الأمن للتفتيش" وكان حسن ضمن المختارين للاحتجاز ليلة ظنها لن تنتهي في زنزانة قسم الشرطة، وخرج في اليوم التالي وقد قرر ترك هذه الشقة إلى أخرى، لكن الأمن لم يعد؛ فبعد "مظاهرات تيران وصنافير" تكررت المداهمات الأمنية والتفتيش العشوائي، فعزم على الرحيل مجدداً إلى مكان على أطراف وسط البلد، ليسكن مع صديق يعمل بالتصوير السينمائي، لم يكن يعلم أن كاميرا صديقه سوف تقوده للاحتجاز مرة أخرى. ففي إحدى الليالي قام الصديق بتجهيز الكاميرا والإضاءة ليصور القمر، والشارع، لكن الأمن لم يعجبه الأمر كثيراً واعتبر أن الصديق يقوم بتصوير مبان حيوية وقام باحتجاز ساكني الشقة، بعد خروجه قرر حسن أن يكتب النهاية للسكن في منطقة وسط البلد التي أحبها كثيراً لكنها أصبحت تضيق على أهلها "ممن يشبهون شباب الثورة".
خلال السنوات الاخيرة اتسعت الهجرات لأصحاب الفئة العمرية بين 25 إلى 40 عامًا ممن كان لهم ارتباط بالثورة ووسط القاهرة إلى خارج مصر، ومن لم يملك منهم الهجرة اختار النزوح بعيدًا عما يسميه حسن "أماكن التروما الجماعية القديمة" بعد صارت وسط القاهرة مساحة للأمن لا أمان فيها.
--------------------------------
اسم مستعار حفاظاً على الأمان الشخصي للمصدر
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...