شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
فتنة الإخوان الأولى... أحمد رفعت وطريق الانقلاب ثم الموت في فلسطين

فتنة الإخوان الأولى... أحمد رفعت وطريق الانقلاب ثم الموت في فلسطين

سياسة نحن والتاريخ

الأربعاء 14 يونيو 202312:25 م

عصفت بجماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتها على يد مؤسسها ومرشدها الأول حسن البنا عام 1928، العديد من المحن والأزمات، وقد تكون أشد وقعاً وأثراً تلك التي تأتي من الداخل، وهو ما حدث مع المؤسس، ابن محافظة البحيرة، حينما خرج عليه أحمد رفعت منتقداً سياساته، في ما عُرف بـ"فتنة الإخوان الأولى".

كيف بدأت الأزمة؟

عندما انتقل حسن البنا (1906-1948)، بدعوته من الإسماعيلية إلى القاهرة، بدأت الجماعة تزدهر رويداً رويداً، وكثر عدد التابعين لها، لكن في هذه الأثناء خرج أحدهم معترضاً على كل ما تتخذه الدعوة من أساليب، داعياً الإخوان إلى أخرى.

في البداية، لم يجد الإخوان في اعتراض رفعت ما يلفت النظر، بحكم أن لكل شخص داخل الجماعة الحق في نقد ما يرى أنه يستحق النقد، وإن كان في الواقع، وما عُرف عن "الإخوان" على مدار تاريخها، أنه لن يكون في النهاية إلا رأي الجماعة لا الأشخاص، حتى وإن كان الصواب يجانبهم.

يقول الراوي محمود عبد الحليم، مؤرخ الإخوان، وعضو الهيئة التأسيسية للجماعة، في الجزء الأول من كتابه المعنون بـ"الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ": "حين أخذنا في مناقشة أحمد رأيناه جانحاً على غير عادته إلى التعصب لرأيه، رافضاً الاستماع إلى حجج من يناقشه، ثم رأينا مجموعةً من حوله تتعصب له، وتكاد تهدد من يعارضه، وبدا لنا أحمد في من حوله كأنما هو شيخ حول مريديه، يأمر فيهم وينهي وهم يسارعون في مراضاته".

ازداد الوضع داخل الجماعة سوءاً، عندما بدأ بعض الأشخاص في التسلل من جوار حسن البنا، والالتحاق بركب أحمد رفعت، ولم يترك الأخير ومجموعته اجتماعاً عاماً أو خاصاً ينعقد في دار الإخوان، إلا وفرضوا أنفسهم عليه، وتحدث فيه رفعت بأسلوبه ورؤيته المخالفة لما عليه المرشد الأول، فتعطلت بذلك الاجتماعات والدروس، حتى محاضرة الثلاثاء لحسن البنا، والتي كانت تُسمّى "حديث الثلاثاء... دروس متتابعة في الثقافة العامة"، وكانت تُعقد في دار الإخوان المسلمين في ميدان الحلمية الجديدة، بعد صلاة العشاء من كل يوم الثلاثاء.

البنا في موقف حرج!

تسبب هذا الأمر، في غمّ وحزن كبيرين لدى البنا. يقول محمود عبد الحليم: "رأيت الأستاذ المرشد مهموماً، وحاولت مواساته فطلب إليّ أن أحاول إقناع أحمد رفعت، لأنه كان يعلم أن لي مكانةً خاصةً في نفس أحمد، فجلست إليه وحاولت إقناعه، لكنني لاحظت أنه يعاملني كأنما لم يعرفني من قبل، بل أحسست كأن المجموعة التي حوله تحاول التحرش بي، فأخبرت الأستاذ المرشد بما كان من أمره معي، فزاد هماً وحزناً، وطلب إليّ لأول مرة منذ بايعته أن أكون إلى جانبه في هذه المحنة".

"حين أخذنا في مناقشة أحمد رأيناه جانحاً على غير عادته إلى التعصب لرأيه، رافضاً الاستماع إلى حجج من يناقشه، وبدا كأنه شيخ حول مريديه، يأمر فيهم وينهي، وهم يسارعون في مراضاته

وأطلق الإخوان على ما حدث؛ "الفتنة الأولى"، خاصةً أن لا أشدّ على دعوة ما أو مجتمع كذلك، من فتنة تنشأ من داخله، لأنها تُعدّ الخطر المدمّر الفتاك، وكان هذا السبب الرئيس في حزن البنا، الذي تفاجأ على عكس ما كان يتوقع، بأن دعوة أحمد رفعت وجدت من كثر من الإخوان آذاناً صاغيةً واستجابةً سريعةً، ربما لحجة الأخير وبراعته في الإقناع، أو لأن مرشد الجماعة آنذاك كان يطبّق نظاماً تربوياً عنيفاً، فما أن جاءت تلك الدعوة الجديدة، حتى ارتبطوا بها، وكأن مجيئها كان خلاصاً لهم مما احتبس في صدورهم.

ما الذي أراده رفعت؟

كان لا بد من معرفة آراء أحمد ومطالبه، حتى يعرف حسن البنا الحل، ويتمكن من إنقاذ جماعته، ما جعله يعقد جلسةً، ضمت صفوة الإخوان، ودعا إليها رفعت لكي يحدد اعتراضاته على الجماعة ومطالبه التي يريدها، والتي جاءت في ثلاثة بنود:

أولها: أنه يرى أن الإخوان تجامل الحكومة، وتتّبع معها سياسة اللف والدوران، ويجب عليهم أن يواجهوها بالحقيقة التي قررها القرآن في قول الله تعالى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".

ثانيها: موضوع المرأة وإلزامها حدود الإسلام في عدم التبرج والاحتشام؛ إذ إن أحمد رفعت رأى أن الإخوان لم يتخذوا أي إجراء في هذا الأمر، واكتفوا بدعوة المرأة إلى ذلك بالنصيحة، والكلام من دون العمل.

وكانت رؤية أحمد، وفقاً لما نقل مؤرخ الجماعة محمود عبد الحليم، أن يسلك الإخوان بصدد هذا الأمر الخطير مسلكاً عملياً، فيتوزعوا في شوارع القاهرة، ومع كل منهم زجاجة حبر، وكلما مرت أمامه فتاة أو امرأة متبرجة ألقى عليها هذا الحبر، حتى يلطخ ملابسها فيكون هذا رادعاً لها.

ثالثها: موضوع فلسطين، إذ يرى أحمد أن وقوف الإخوان في مساعدة مجاهدي فلسطين عند حد الدعاية وجمع المال لهم، يُعدّ تقصيراً في حق هذه القضية، وقعوداً عن الجهاد، وتخلفاً عن المعركة، وعلى أعضاء الجماعة أن يتركوا أعمالهم، ويتطوعوا في صفوفهم، وإلا كانوا من الخائفين.

الرد على رفعت

كانت مطالب أحمد غير منطقية، وإذا كانت كذلك، فلا يصح تطبيقها، إذ كيف لجماعة في مهدها أن تواجه الحكومة؟ وكيف يكون الاعتراض على "التبرج" بتلك الطريقة التي تثير الذعر في القلوب، وتنفر الناس من الدعوة والإسلام بشكل عام؟

من هذا المنطلق، تصدى بعض الحاضرين في الجلسة للرد على أحمد في الاعتراضين الأوليين، فقالوا: إن مواجهة الحكومة يجب ألا تكون إلا بعد توافر عاملين؛ توعية الشعب بالحقائق الإسلامية، واكتساب الدعوة قوةً شعبيةً تستند إليها إذا ما أرادت مواجهة الحكومة، خاصةً أنها آنذاك كانت وليدةً وما زالت في حاجة إلى تثبيت دعائهما.

أراد رفعت إلزام المرأة حدود الإسلام في عدم التبرج والاحتشام؛ إذ رأى أن الإخوان لم يتخذوا أي إجراء في هذا الأمر، وأراد أن يرمي أعضاء الجماعة كل امرأة متبرجة في الشارع، بالحبر، ليكون رادعاً لها!

وبالفعل، ربما إذا انحازت الجماعة إلى آراء أحمد، فربما كانت كتبت السطر الأخير في روايتها مبكراً بأيدي أعضائها، لأن مواجهة الحكومة بغير ما سبق، لن تكون سوى انتحار لا نتيجة من ورائه ولا جدوى، كما أن موضوع المرأة كان سيتسبب في إلقاء القبض على جميع الإخوان وإيداعهم السجون، وتعطيل الشباب عن الدراسة، والقضاء على مستقبلهم بأحكام الحبس والغرامات، وبعد كل ذلك لن يكون هذا ردعاً لمن يراهنّ أحمد رفعت "متبرجات".

لكن في النقطة الثالثة التي تخص فلسطين، ربما كان أحمد رفعت محقاً، خاصةً أن الجماعة طوال تاريخها في مرمى الاتهامات بسبب جمع الأموال للمجاهدين في الأقصى، من دون المشاركة في الجهاد بالنفس، ويتساءل الكثيرون عن المكان الحقيقي الذي تذهب إليه هذه الأموال، في ظل أنباء كثيرة عن أنها لا تصل في الأساس!

وهنا يبرر عبد الحليم الأمر بقوله: "أما موضوع فلسطين، فكان الأستاذ المرشد قد اتصل في شأنه بالسيد أمين الحسيني، مفتي فلسطين، فرد عليه بخطاب قرأه علينا في الاجتماع، وفيه يقول المفتي: إن المجهود الذي يبذله الإخوان في الدعاية لقضية فلسطين في مصر، هو القدر المطلوب والذي نحن في أمس الحاجة إليه ولا يستطيعه غيرهم، ولسنا في حاجة إلى متطوعين".

مفاجأة لمؤيدي البنا

كانت المفاجأة بعد هذا الاجتماع، أن بعضاً ممن كان البنا يتوسم فيهم العقل، بدأوا بالتحدث تأييداً لموقف رفعت، فازداد عدد مؤيديه، ما جعل الغرور يتسرب إلى الأخير، وبدأ يتحدى مرشد الجماعة ومؤسسها بشكل مباشر.

وهنا يروي مؤلف كتاب "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ"، أن أحمد رفعت كان "يوجه ألفاظاً نابيةً إلى حسن البنا، ويخاطبه بأسلوب لا يليق به، ثم ازدادوا تطرفاً فصار هو وشيعته يسبون الأستاذ المرشد، ويوجهون إليه الشتائم، مما أثارنا وأخرجنا عن طورنا وحاولنا مواجهتهم بشيء من العنف، لكن الأستاذ المرشد غضب وحال بيننا وبين ما نريد".

ومنذ ذلك الحين، بدأت جماعة رفعت بالحضور بشكل مكثف إلى دار جماعة الإخوان، وعندما يأتي أي فرد، عليه أن يلتزم بفكرهم، وإلا يسمع ما يكره من سبّه وسبّ المرشد، فكَرِه الأعضاء أن يحضروا إلى المركز العام، حتى خلا لأتباع رفعت، ولم يبقَ سوى حسن البنا وبعض المقربين منه.

خارج المركز العام

وبناءً على ذلك، توقف كل شيء في المركز العام لجماعة الإخوان، فلم تعد تُعقد جلسات للهيئات الإدارية ولا اجتماعات وكذلك محاضرات الثلاثاء التي اعتاد "البنا" أن يلقيها أسبوعياً، وبدأ بعض المقربين إلى المرشد الأول في التفكير بطريقة للخروج من هذه الأزمة، فاقترح أحدهم أن ينقطع المؤسس الأول تماماً عن المركز العام.

قَبِل البنا بالاقتراح، وتفرد أتباع أحمد رفعت بالمركز العام دون مقاومة، واكتسبوا في كل يوم أعضاء جدداً من حديثي العهد بدعوة الإخوان.

يؤكد محمود عبد الحليم: "كل ذلك كان مغرياً لهم بالتمادي في ضلالهم، والتغالي في انحرافهم، حتى وصل بهم الغرور إلى الحد الذي أدعى فيه أحمد رفعت أنه يتلقى تعليمات وأوامر تلقياً مباشراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ادّعى أولاً أنه عليه الصلاة والسلام يأتيه في الرؤيا ويوجه إليه أوامره، وقد وجد من يصدّقه في ذلك".

رفض أحمد طلب حسن البنا بعدم الذهاب إلى فلسطين من دون تنسيق، لكنّه أصرّ على الذهاب وحده، وذهب فعلاً، ولقي مصرعه على "أيدي المجاهدين"، كيف ولماذا؟

ويشير مؤرخ الإخوان إلى أنه "كانت هذه الأوامر والتعليمات كلها منصبةً على أن الإخوان المسلمين قد تخاذلوا عن القيام بدعوتهم، وأنهم خانوا الدعوة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختار أحمد رفعت للقيام بأعباء الدعوة بالطريقة التي شرح لنا طرفاً منها، ثم تعاظم به الغرور فادعى أنه يتلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، جهاراً نهاراً في تمام اليقظة، ثم ادّعى أنه صلى الله عليه وسلم يحضر معه الغداء ويتناول معه الطعام، ويتلقى منه الأوامر والتعليمات على المائدة".

هل تصمت الجماعة؟

عندما قَبِل حسن البنا بالانقطاع التام عن المركز العام، اتفق من بقوا إلى جانبه، على أن يحضر كل فرد منهم إلى المركز ليلةً واحدةً، وتعهدوا بعدم مس أحد من مجموعة أحمد رفعت بأي نوع من الإيذاء، ومقاطعته ومجموعته بشكل تام، وصولاً إلى عدم إلقاء السلام عليهم أو الرد عليهم، أو التحدث معهم إذا وجهوا إليه حديثاً.

ويكشف محمود عبد الحليم عما حدث عقب ذلك، بقوله: "كانوا يجلسون في وجوهنا لا نتحدث إليهم ولا يتحدثون معنا، ويبحثون عن الأستاذ المرشد فلا يجدون له أثراً، وتكرر هذا نحو 3 أسابيع، حتى شعر هؤلاء الخارجون بأنهم قد عُزلوا عزلاً كاملاً عن المجتمع بل عن الحياة نفسها".

تسببت هذه المقاطعة في انفضاض البعض عن أحمد رفعت، ولم يبقَ حوله إلا قلة ممن اتبعوه، وبدأوا بالانقطاع عن المركز العام، حتى رقّ قلب حسن البنا لهم، فبعث إليهم يعرض عليهم الصلح، على أن يرجعوا عن أفكارهم، فاختلفت إجاباتهم، لكن القائد أحمد رفعت قرر السفر إلى فلسطين لينضم إلى المجاهدين في محاربة الإنكليز واليهود.

نهاية أحمد رفعت!

عندما علم البنا بعزم أحمد رفعت على السفر إلى فلسطين، أرسل إليه وطلب منه الحضور ليجهزه بالمال والسلاح، ويسلّمه إلى مجموعة من المجاهدين الفلسطينيين الذين كانوا يتصلون بالجماعة حتى يؤمنوا له الطريق.

ويوضح عبد الحليم أن السبب وراء ذلك أن المجاهدين كانوا يشكّون في كل من يرونه في طريقهم، ما داموا لا يعرفونه، ويعدّونه جاسوساً عليهم ويقتلونه، موضحاً: "رفض أحمد طلب الأستاذ المرشد وأصرّ على الذهاب وحده، وذهب فعلاً، ولقي مصرعه كما كنا نتوقع على أيدي المجاهدين".

وبرغم موت أحمد، لم تخرج الجماعة من هذه المحنة، التي أسموها "الفتنة الكبرى"، سالمةً، لكن خسر الإخوان عدداً كبيراً من الصفوة، بالإضافة إلى مجلة "النذير"، التي كانت تصدر عن الجماعة؛ لأن صاحب امتيازها محمود أبو زيد تخلّف عن الركب.

كان المركز العام للإخوان المسلمين صاحب الامتياز الحقيقي لمجلة "النذير"، ولم يكن أبو زيد إلا مجرد اسم اختير لأنه كان محامياً ولتتم الصورة الرسمية لإصدار الترخيص للمجلة، لكن رأى المرشد ترك المجلة له حين رآه متمسكاً بالحقوق الرسمية.

ومن ضمن الأسماء التي خسرتها الجماعة، شخص كانوا يعدّونه من خيرتهم ويُدعى محمد المغلاوي، الذي أسس تكويناً جديداً سمّاه "شباب محمد"، وانضمت إليه مجموعة من الإخوان، وكان ذلك عام 1939، وعُرف هذا بأنه أول انشقاق حدث في تاريخ الجماعة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard