لا بد وأنكم سمعتم بمصحف صدام حسين "مصحف الدم" الذي كتبه الخطاط العراقي عباس شاكر جودي، بسبع وعشرين ليتراً من دم الرئيس العراقي، في أواخر التسعينيات، لكن هل تعلمون قصته؟
لقد كان نذراً من الرئيس، بعد أن تعرض نجله عديّ لمحاولة اغتيال، نقل إثرها إلى مستشفى ابن سينا، في العاصمة العراقية بغداد، نذر صدام أن يكتب القرآن بدمه إذا ما شفي عدي، فكان ذلك. نجا عدي وكُتب القرآن، مستهلكاً عامين من العمل وجزءاً كبيراً من نظر الخطاط العراقي، والكثير الكثير من دماء الرئيس، ليحفظ فيما بعد في مسجد أم القرى، ويسجّل على أنه من أغرب النذور في العالم.
حكاية أم صالح
يحكى عنها أنها أخذت ابنتها السليمة وابنها المريض، فوضعتهما أمام مقام أحد الأولياء، وقالت: نذرت لك ابنتي يا الله مقابل أن تشفي ابني... خذها وأعده لي سليماً معافى. وفي صباح اليوم التالي ماتت الفتاة وشُفي الصبي.
كانت هذه القصة هي الأكثر بثاً للرعب في نفوسنا عن أم صالح "شحّادة الحي"، لذلك ما إن تستوقفنا في الطريق لتتسوّل ثمن نذورها، حتى نهرع للدفع بما تيسر. إلى أن جاء اليوم الذي كوّنتُ فيه صورةً خاصةً بي عن الله الذي يبعد كل البعد عن إلههم الذي يخافون، فصرخت بوجه أم صالح في الطريق: "أي إله بدّو ياكي تشحدي حق النذر، مين قلك الآلهة بتحب تذلّنا؟"، ومضيت في طريقي.
لا بد وأنكم سمعتم بمصحف صدام حسين "مصحف الدم" الذي كتبه الخطاط العراقي عباس شاكر جودي، بسبع وعشرين ليتراً من دم الرئيس العراقي، في أواخر التسعينيات، لكن هل تعلمون قصته؟
أم صالح هذه مثال عن أناس كثر يبتدعون نذوراً ما أنزل الله بها من سلطان، حاولوا أن تسألوا أي جماعة من الناس على سبيل الدردشة: ما أغرب النذور التي سمعتم بها؟ أنا واثقة ستسمعون العجب العجاب.
عادات قديمة
عُرّف النذر لغةً بأنه إلزام النفس بشيء غير مفروض على الإنسان، من صدقة أو عبادة أو ذبيحة ونحوهم، وذُكرت النذور في جميع الكتب السماوية.
ولم تختلف الديانات على وجوب النذور، لا بل كثرت فيها قصصها، فمن نذر قابيل وهابيل إلى نذر ابراهيم ونذر يعقوب ونذر بولس الرسول، واستفاضت الديانات، خصوصاً الإبراهيمية، في وضع أحكام للنذور التي أطلقت عليها أسماء عدة وقسمتها إلى أنواع، فمنها ما وجب الوفاء به ومنها ما هو مكروه ولا يجب على صاحبه الوفاء به، كالنذر المباح، والنذر المطلق، ونذر اللجاج والغضب، والنذر الحرام كعقوق الوالدين أو قتل الولد، وأجازت التكفير عنها اذا ما نُذرت.
لكن من أين نشأت النذور وأين ولدت؟
النذور هي محاكاة للقرابين التي كانت تعتبر تقرّباً من الإله وإنقاذاً للإنسان من الشرور وغضب الطبيعة، وقد عرفتها حضارات وشعوب قديمة، كالحضارة السومرية والبابلية والفينيقية والرومانية والمصرية وشعوب الأنكا وغيرها.
وللعرب في الجاهلية حصة كبيرة من تقديم النذور والقرابين للآلهة الكثيرة التي كانوا يعبدونها، فقد قدموا لها من مزروعاتهم وحيواناتهم، وفي بعض الأحيان كانوا يقدمون لها أولادهم ظناً منهم أن أحب القرابين إليها وأكثرها فاعلية هي القرابين البشرية.
لعل أول المشاهد المتعلقة بتقديم القرابين البشرية، كان مشهد النبي إبراهيم وهو يكاد يذبح ابنه إسماعيل، ولعل افتداءه بالكبش كان تعبيراً للإله عن تفضيله لحوم الحيوانات على لحوم البشر، ومحاولة منه لدحض الخرافة المتوارثة عن الشعوب القديمة، كشعب الأزتك في المكسيك والذي كان يعبد إله الشمس، ويعتقد أن الدم البشري هو قوة الحياة المقدسة التي يجب أن تقدم لهذا الإله، وأن أكثر ما قد يغري الآلهة لترضى عنهم هو القربان البشري لطيبة لحمه وقداسة دمه.
رأى ويل ديورانت في "قصة الحضارة" أن الإنسان القديم، في وقت الحاجة وشُحّ الكلأ، لجأ لأكل أخيه الإنسان فاستساغه جداً، بل ظن أن لحم الإنسان هو قمة أطايب الطعام، وظل ذلك التصور لدى القبائل الآكلة للحوم البشر. وبما أن القربان في شكله الأبسط هو طعام للآلهة، فربما رأى الإنسان أن أفضل ما يقدم للإله المعبود من الطعام هو الإنسان ذات نفسه، وهو أعلى مرتبة في الأضاحي أو الأطعمة، وبذلك ظهر مفهوم الأضحية البشرية، ولأن الطقوس الدينية تبقى لسنوات طوال، حتى بعد تغير العادات والتقاليد، ظلت فكرة الأضحية البشرية متلازمة مع الأضحية الحيوانية، على الرغم من أن البشر كفّوا عن أكل بعضهم البعض، بالمعنى الحرفي لا المجازي، إلا أن الخرافة لا تزال تسكن العالم إلى اليوم.
ما هي أغرب النذور التي سمعتم بها؟
فالإنسان بحسب علماء النفس، لا يزال يستخدم 70% من فكره بطريقة تقوم على الأسطورة، في حين أن الجزء الذي يفكر منطقياً لا يتعدّى 30%، وبناء على ما نعتقد فقد تفنّنا في اختراع النذور وتسابقنا في من يقدم نذراً أصعب ، فجارتي تنذر أن تصوم عن الكلام لثلاثة أيام إن تحقق مرادها، وكأنما ثرثرتها تهمّ أحداً في العالم أو تشغل بال الإله لتضحي بالتوقف عنها، أو ربما توقف النساء عن الكلام ثلاثة أيام هو تضحية كبرى فعلاً.
نذور مبتكرة
المشي حافية، وتسوّل ثمن النذر، وتسوّل ثياب المولود، والصيام عن طعام يحبه، ما هو إلا إمعان في إذلال النفس، ولا أدري من أين جاء الإنسان بفكرة أن الإله يستمتع بإذلال العباد، وأم صالح تلك التي نذرت ابنتها، هل كانت ذكورية أم كانت تتقرّب من الإله بقربان شهي؟
ما إن تذكر مسلسل الخوالي أمام أي سوري حتى ترن في أذنه جملة نصّار ابن عريبي الشهيرة: "تحرم عليي شوفة ميمتي طول ما جواد مكموش"، إذ نذر نصّار حرمان نفسه من أغلى الأشياء على قلبه وهي رؤية أمه، مقابل أمنية.
غالباً ما تبع نوع النذور ثقافةً وموروثاً مجتمعياً، فالطفل الذي يرى والديه ينذران أن يذبحا خروفاً لأجل قضاء حاجة معينة سيذبح خرافاً كثيرة عندما يكبر، والمرأة التي تأخرت في الإنجاب، ستنذر أن تتسوّل ثياب طفلها المولود إذا ما حملت، تبعاً لنصائح الجارات العارفات. لم يقتصر تقديم النذور للآلهة فقط وإنما صار الناس ينذرون للأولياء والقديسين، و قسموا قدرات هؤلاء الأولياء إلى تخصصات، فهذا الولي مختصّ بعلاج العقم، وذاك مختصّ بشفاء أمراض العيون، والثالث لعلاج آلام الظهر، والرابع لعلاج العقم، وواحد لطرد الأرواح الشريرة وآخر لجلب الحبيب.
وغالى الناس في معتقداتهم، ربما نتيجة اليأس العام، فوصل بهم الأمر إلى كتابة الرسائل الورقية لهؤلاء الأولياء وتركها في مقاماتهم، ليتسنى للولي أن يتذكّر صاحب الشكوى ويحل له مشكلته، كالرسائل التي تكتب إلى يومنا هذا للشهيد مارجرجس وللإمام الشافعي.
أيضاً رغبة الإنسان وتفضيله الحصول على حلول سهلة لمشكلاته تلعب دوراً في توجهه إلى الايمان بالخرافات وتعليل النفس بالآمال المزيفة، فطالما ذاك الولي أجاب طلب فلان فلا شك قد يجيب طلبي أيضاً.
الفقير الذي لا يملك ثمن معاينة الطبيب وما سيصفه له من أدوية، سيفضل التوجّه إلى الأولياء بالنذور التي سيعينه الله على وفائها إذا ما شفي
في مسح سريع، نجد أن عدد أضرحة الأولياء وقبابهم تفوق عدد أي مبان عامة أخرى، كالجامعات والمدارس والمشافي، علماً أن بناءها هو مجهود شعبي بحت غالباً، ولا علاقة لأي طرف حكومي في ذلك. عرّف المفهوم الشعبي الضريح على أنه رمز للتقوى ومكان لالتماس البركة والخير والدعاء المستجاب، وقسموا الأضرحة إلى أنواع، فمنها ما يضم رفات صاحبه (الشيخ فلان)، ومنها أضرحة الرؤيا، وهي التي تشيّد بعد رؤية (الشيخ فلان) في المنام في موقع معين، لذلك نجد عدة أضرحة لشخص واحد في أماكن متفرقة، تعلوها القباب، وكل قبة تسمى باسم صاحبها، وقد درج الناس على عدم المغالاة في شكل وتصميم عمارة الأضرحة في إشارة إلى زهد وترفّع صاحب هذا الضريح عن بهارج وملذات الدنيا.
الأولياء
منذ زمن قديم، كان يطلق اسم الولي على الإنسان العارف بالله، المواظب على طاعته، المجتنب لمعاصيه، المحافظ على دينه، الزاهد بدنيته، صاحب كرامة ما.
أما الكرامة فهي ما يشبه المعجزة، أي الفعل الخارق للعادة، كالقصص التي نسمعها عن الولي الذي شفى فلان من الجذام، والولي الذي قرأ على مُقعد فمشى، والولي الذي وضع يده على بطن عاقر فحملت، وهلّم جرّ من قصص تصدق ولا تصدق، حاكها الناس بإتقان لتبدو محاكاة لمعجزات الأنبياء، وكان عدد هؤلاء محدوداً، تتواجد أضرحتهم في أماكن متفرقة من البلاد، أما اليوم فنجد في كل قرية وفي كل مدينة، لا بل يكاد في كل حي ضريح لولي، ولا أعلم هل مردّ هذا إلى الواسطات والمحسوبيات، أم ازدياد حاجة الناس إلى التعلق بالغيبيات في ظل انتشار الأوبئة والحروب والكوارث الطبيعية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع