شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
المثقف بديلاً للكاهن... أو

المثقف بديلاً للكاهن... أو "يا الله ما إلنا غيرك"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الخميس 22 فبراير 202405:41 ص

لكي تعيش في فلسطين، أو حول فلسطين، عليك أن تكون وطنياً لا مواطناً. والوطنية هنا ليست بمعناها العميق المشتقّ من إيمانك ببلدك كفكرة تاريخية وثقافية ممتدة في الزمن، بل بمعناها السطحي المغرق في المواقف، وأقول المواقف وليس الرؤى. وهي بالتأكيد ليست بمعناها المستمد من الفخر القومي أو حتى التعريفات الرومانسية للتعلق العاطفي، بل بالمعنى الحرفي للشعارات السطحية والهتاف الفصائلي.

فشروط أن تكون فلسطينياً في زمن الحرب، أي حرب، وأقصد هنا شروط أن تحظى بهذا التعريف من قِبل أصحاب الشعارات، هي أن تمتلك القدرة على الاصطفاف لا على المخالفة. لا يجوز لك أن تنتقد تصرفاً هنا أو صورةً هناك، ولا يحق لك أن تبدي رأيك لا في الحلفاء وجدواهم، ولا في الأعداء ومكامن ضعفهم أو قوتهم.
يحق لك فقط أن تهتف مع الجماعة، والجماعة الحالية أو المقصودة هي أولئك الأشخاص الذين أكسبهم التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي قدرةً عجيبةً على الإفتاء في كل شاردة وواردة. القدرة ذاتها التي تكتسب مشروعيتها لا من البرهان أو التجربة والخطأ، بل من كثرة الصارخين بها وثقتهم العالية بأنفسهم. لا يعني هؤلاء كل المقولات الناتجة عن تجارب الجنس البشري بأكملها، والتي تؤكد أن الإجماع لا يعني الحقيقة بالضرورة، ولا حتى الاقتراب منها في كثير من الحالات والأحيان.

أن تكون فلسطينياً في زمن الحرب، أي حرب، يعطيك فحسب حقّ أن تهتف مع الجماعة، والجماعة الحالية أو المقصودة هي أولئك الأشخاص الذين أكسبهم التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي قدرةً عجيبةً على الإفتاء في كل شاردة وواردة

من أين يستمد الشخص ثقته بفكرته؟ في العادة يتم ذلك من خلال البرهان. والبرهان هنا ليس نظرياً خالصاً كما هو في مسائل الرياضيات المجردة، بل هو نتيجة لعوامل عدة أهمها التجارب الشبيهة السابقة، أو القياس على تجارب في أماكن أخرى بمعطيات قريبة. وهو نتيجة أيضاً لقياس القدرات الذاتية وقدرات الآخرين، وأخيراً مدى الاستفادة من تراكم المعرفة.

لكن حين تتم الاستعاضة عن كل ما سبق بثقافة سماعية شفهية، فإن النتيجة هي تكرار المسموع والاطمئنان إلى صحته ما دام يصدر عن الأكثرية.

ولأن الجهل ليس قلة المعرفة أو انعدامها، كما يقول الصادق النيهوم، بل هو المعرفة الخطأ، فإن كل من يكتسب مجموعةً من المعارف المغلوطة يشعر بالامتلاء الفكري والمعرفي، ويمتلك الثقة تالياً لبث هذه المعارف وترويجها. فما بالك إن امتلك هذا الشخص منبراً لمخاطبة الجماهير؟ وما بالك إن امتلك فوق ذلك ما يمكن أن نطلق عليه مسمى "الجماهير" الجاهزة بحكم قلة معارفها لاستقبال أي كلام يدغدغ المشاعر؟

المشاعر هي ما يقود الجماهير وليس العقل. وهذا القول لا يقتصر على فلسطين وحدها، بل هو سمة عامة للجماهير وتحركاتها مع أو ضد أي قضية. المختلف هو أن الجماهير في أي بقعة جغرافية ناجحة من العالم يتم تحريكها من قبل عقل فوقي، أو لنطلق عليه مسمى "نخبة" سياسيةً كانت أو اقتصاديةً أو اجتماعيةً. هذه النخبة تستطيع من خلال بث رؤيتها، عبر الإعلام أو أي وسيلة أخرى، أن تقود الجماهير لما فيه مصلحتها هي، أو مصلحة الوطن، أو مصلحة الأمة. النخب في العادة هي إفراز لمنظومة تعليم جيدة، ولتربية وطنية محددة المعالم وواضحة العناصر الهوياتية، ولثقافة ذات فاعلية وانعكاس اجتماعيين. الفرد في هذه النخبة هو البديل العصري للكاهن؛ فبينما وظيفة الكاهن أو الشيخ هي الإجابة عن الأسئلة التي تخص الله، فإن وظيفة النخبة الحديثة، أو ما نطلق عليه لقب المثقف، هي الإجابة عن أسئلة الناس، أو لنقل: الإجابة عن أسئلة الحياة في الحقول السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.

هكذا، وبهذه السهولة، تطورت الأمم واكتسبت مواقعها وأهميتها. وهكذا انتقلت من عصور الظلام إلى عصور التقدم والرفاه. وبلا شك، لا يستطيع أحد أن ينفي ما جرى ويجري من تفاعلات سيئة وغير جديرة بالاحترام، إن شئنا استخدام لغة جازمة، من قبيل الاستعمار والحروب الظالمة ونهب خيرات الأمم الضعيفة... إلخ، مما رافق حركة التطور المقصودة. لكن كل ذلك لا ينفي أن العالم مقسوم إلى دول متقدمة وأخرى متخلفة. هذا الوصف يخص مؤشرات التنمية، ومؤشرات التعليم والاقتصاد والصحة، وهو لا يتطرق لا إلى القيم، ولا إلى الثقافات بمعناها الفلكلوري، ولا للعادات والتقاليد، وبالتأكيد ولا لكثرة الشعراء أو الروائيين أيضاً.

لكن لنتخيل أن المثقف في بلاد ما هو نفسه الكاهن أو الشيخ. أو لنتخيل أن المثقف الحقيقي لا يجرؤ على قول ما في جعبته خوفاً من أو مجاملة للجماهير. أو أن هذا المثقف يتم شراء صوته مقابل المال أو مقابل الشهرة أو الامتيازات، أو حتى مقابل عدد الإعجابات من مراهقي أو مراهقات المواقع. لنتخيل صمت المثقف، واعتقاد صاحب المعرفة الخاطئة أن رأيه هو الصواب طالما لم يحتج عليه أحد. هنا ستنشأ لدينا نخبة جديدة، من أولئك الذين اكتسبوا أهميتهم لا من منظومة التعليم، ولا من منظومة التربية الوطنية، بل من عدد المعجبين والمعجبات، وقلة، بل انعدام المعارضين والمعارضات. وكل واحد من هؤلاء سوف ينال قوة إضافية لحجته من الشعارات الأخرى التي تصدر عن أولئك الذين يشبهونه، وستصبح لدينا أكثرية من أصحاب المعرفة المغلوطة، لكن المطمئنة لصوابيتها، ما دامت هي الوحيدة التي يتم تداولها في السوق.

لنتخيل أن المثقف في بلادٍ ما، هو نفسه الكاهن أو الشيخ، أو لنتخيل أن المثقف الحقيقي لا يجرؤ على قول ما في جعبته خوفاً من الجماهير أو مجاملةً لها، أو أن هذا المثقف يتم شراء صوته مقابل المال أو مقابل الشهرة أو الامتيازات، أو حتى مقابل عدد الإعجابات من مراهقي المواقع أو مراهقاتها. لنتخيل صمت المثقف، واعتقاد صاحب المعرفة المغلوطة بأن رأيه هو الصواب طالما لم يحتجّ عليه أحد. هنا ستنشأ لدينا نخبة جديدة
وعندما يمتلئ السوق بأناس يتحدثون كيفما اتفق، وبأناس يوافقون على ما اتفق، ينقضّ الكاهن المثقف أو المثقف الكاهن على هذه الجموع ويستخدمها لمصلحته ولبرنامجه. إنه لا يعارضها في البداية، كما يفعل المثقف البديل للكاهن، بل يستخدم لغتها ومفاهيمها، وربما يصفّق لها هنا ويشجعها هناك. ثم يبدأ بتصويبها في نقطة معينة، وتعديل مفهوم ما مغلوط. ومع قليل من المديح، وقليل من الثناء، يستطيع جرّ هذه النخب لتتبنى فكرته المتماسكة، والتي تبدو وكأنها خلاصة المعرفة الإلهية والبشرية معاً. من يستطيع القول غير ذلك حين يضاف إلى كل هذا الخليط إعلام مدعوم بالمال الوفير، ومزين بالتكنولوجيا. هيا انطق بكلمة أيها المخالف، أسمعنا صوتك إن كنت تجرؤ.

ولأن مفاهيم الكاهن لم تعد ملائمةً لمنطق العالم الحديث، ولا لتعقيداته السياسية والاقتصادية، تتفاجأ الجماهير عند المحكّات الكبرى، بأنها لم تحصل على إجابات عن أسئلتها الدنيوية، ولا على حلول لمآسيها على الأرض، فلا يكون أمامها إلا الشعار الختامي الذي يرضيها في الآخرة، ويرضي كاهنها، وهو: "يا الله ما إلنا غيرك".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard