شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
التعويم يزعج أخي الصغير

التعويم يزعج أخي الصغير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات العامة

الجمعة 16 فبراير 202411:08 ص

كل المواضيع محرّمة، والقضايا جاهزة ومعدّة من قبل لتضمن لك إقامة فسيحة في السجون. ليست فسيحة على وجه الدقة، ولكن إن شاؤوا ستسع المئة مليون، أو على الأقل بعيداً عن المبالغة، لن تضيق بي، وسوط الجلاد منتبه، وأنا ضعيف. لست أقوى على كل هذا. أنا لست حتى بطموح، ولكنني آمل في حياة هادئة طبيعية، و لست بجبان، فمن أراد السلامة ليس جباناً، ولكن هذا لا يمنع أنني خائف.

وحتى إن كنت جباناً، فأنا متأكد تماماً أنني لست "معرّصاً"، فلو كنت "معرّصاً" لما أُغلقت في وجهي كل المواضيع التي يختنق بها صدري، لوجدت براحاً من الكتابة عن الأمل والمستقبل والإنجازات. أنا لا أبيع الوهم، ولكنني لا أأمن بطش صانع الوهم، وفي نفس الوقت سأموت إن لم أكتب، ولهذا قرّرت ألا أكتب عن هذا أو ذاك، وأكتب عن أخي الصغير، فمن قد يزعجه الحديث عن أخي الصغير؟

لم يكمل أخي الرابعة عشر بعد، وكعادة الأطفال في سنّه،  يكونون كثيري الأسئلة، وأتذكر جيداً تلك المرة، حين جاء و سألني كيف يمكنه شراء حقيبة مدرسة جديدة، والتي أذكر جيداً أن أبي قد وعده بواحدة جديدة في بداية العام، لكن في آخر لحظة طلب منه أن يستمر فصلاً دراسياً آخر بحقيبته القديمة، ولهذا عزم أخي أن يدبّرها هو لنفسه، وأخذ يدّخر لمدة ثلاثة شهور حتى يشتريها، ولكنه فوجئ بأن سعرها أصبح ثلاثة أضعاف السعر الذي رآه أول مرة، ورغم خيبة أمله التي ارتسمت على شكل ابتسامة حزينة وهو ينظر للمال الذي ادخره، وقيمته الحالية الثلث، واسى نفسه معلناً أنه على الأقل سيعيش في بحر من الحلوى لمدة أسبوع بتلك الفلوس.

علّق قائلاً: "يعني التعويم هو السبب؟". من الواضح أنه شخصن الموضوع بينه وبين التعويم، وها هو التعويم يزعج أخي الصغير

جاءني تلك المرة مبتهجاً وهو يريني نفس السمّاعة بسعر زهيد مقارنة بالسعر الأصلي، وبعد تدقيق أخبرته أن هذا الموقع يقوم باستيرادها من الخارج، والأسعار لا تشمل الجمارك والضرائب التي ستضاعف السعر، وحتى في حالة إن أراد الشراء متحملاً التكاليف الزيادة ، فلن يعرف نظراً لأنه غير مسموح الشراء بالدولار إلا لأصحاب بطاقات الائتمان، و حتى هؤلاء مسموح لهم بحد، وكل هذا بسبب أزمة العملة الصعبة، ومشاكل التعويم، وهيمنة السوق السوداء.

فجأة لاحظت تغير ملامح وجهه إلى اليأس. ربما لم يفهمني ولكنه أدرك أنه لا يوجد حل. ووقفت محاولاً استدراك لماذا كان على شرح كل تلك التعقيدات التي فهمتها أنا على كبر -هذا على افتراض أنني فهمتها من الأساس- لطفل، ومما أكد لي أنه لم يفهم أي شيء مما قلته، أنه لم يدرك من كلامي سوى كلمة "تعويم"، وعلّق قائلاً: "يعني التعويم هو السبب؟". من الواضح أنه شخصن الموضوع بينه وبين التعويم، وها هو التعويم يزعج أخي الصغير.

نظرة اليأس تلك التي لمحتها على وجهه لم تكن أول مرة أراها، لكنني لم أتذكر حينها متى رأيتها من قبل، حتى توالت الأيام ورأيتها على وجهه وهو  في حضن أمي، وتذكرت حينها أنني رأيتها من قبل وهو أيضاً في حضن أمي، وقد ساقني الفضول لأعلم السبب، فجلست بجانبها وبدأت هي بالاسترسال في حديثها شبه الأسبوعي كيف ازدادت الأسعار بشكل جنوني، وكيف نجحت في الحصول على لتر لبن أرخص بخمس جنيهات، بعدما اكتشفت أحد المحلات التي تقدم عروضاً، وكيف أرهقها مشوار السوق البعيد، ولكنهم "مش حرامية ولاد كلب زي اللي هنا"، فكيلو الكوسا هناك أرخص، ثم تتحسّر على تلك الأيام التي كانت تشتري فيه البيض كسلعة عادية ضمن مشتريات البيت الأسبوعية، أما الآن فالبيض يأتي بالطلب فقط إذا استحكمت الوجبة، وتحدثني عن قطعة الشوكولا تلك التي اشترتها، وأنها تشعر ببعض تأنيب الضمير ولكن ليكون ما يكون: "مرة من نفسي في الشهر مش هتخسر". هكذا تذيل حديثها.

لا أستطيع أن أحبك يا وطني وأنا محروم، وعاجز وحزين، وقريباً سأكرهك حين أجوع وأعوز

بعد أن انتهت من حديثها بدأت أدخل في نوبة هلع. لا أود سماع تلك الأحاديث. إنها تحاوطني كل يوم وفي كل مكان، في المواصلات، وفي الجامعة، وفي العمل، وحتى في سهرة الخميس مع أصدقائي، أما الآن فأنا أريد هذا الشيء الذي يستحيل أن أجده في أي مكان في العالم، أريد حضن أمي الدافئ المطمئن.

ارتميت في حضنها، ولأول مرة لم يكن حضن أمي دافئاً.

انسحبت على غرفتي مخدراً، أنظر للسقف. اليوم فهمت شعور عدم الأمان، تذكرت خيبتي حين كتبت من سنة عن حب الوطن، كتبت أنني أحب وطني لا ممثليه، أحب الناس والشوارع، الروائح والمباهج، الآثار والمعالم التي أتجوّل فيها بمنتهى الاستمتاع، لكن كل هذا اختفى الآن، الناس كئيبة، الشوارع قبيحة، الهواء ملوث، المباهج مكلفة، حتى ما كنت استمتع به تشوّه.

فأي وطن أحب الآن؟ هل أحب وطن انتزع السعادة من أخي، سلب الدفء من أمي، سرق عمر أبي ونصب عينيه على عمري؟

لا أستطيع أن أحبك يا وطني وأنا محروم، وعاجز وحزين، وقريباً سأكرهك حين أجوع وأعوز.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard