نماذج متعددة شكلاً، لكن مضمونها واحد. وكلّ نموذج منها وجه من وجوه فن المسرحِ الإيراني. داخل مسرح طهران، أيقونة الفن في العاصمة الإيرانية منذ تأسيسه قبل نصف قرن ونيف إلى اليوم، يقف الجمهور في انتظار أن يقرع مسؤول الدخول الجرسَ إيذاناً لهم بالسماح في ولوج قاعة العرض بعد أن يأخذ الممثلون والممثلات مواقعهم على خشبة المسرح.
يؤدي الممثلون أدوارهم في مسرحية "هاملت الصامت، الصامت"، وهي اقتباس إيراني من مسرحية "هاملت" للأديب البريطاني وليام شكسبير. الانتقام واضح في محور أحداث المسرحية التي أضيفت إليها شخصية تجسّد الموت لتذكّر بأنه أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد. أداء نجح في فرض صمت مطبق على القاعة ذات الستمئة مقعد.
تؤكد لنا الممثلة عاطفة تَنْ دِلْ، أن المسرحية التي استغرقت تسعین دقيقةً، واستلهمت فكرتها من شكسبير، كانت قد أوصلت رسالتها بلغة بسيطة يدركها الجميع وتتمتع بالكثير من الصراحة، "مع الحفاظ على أسس الفن المسرحي".
يقول الإيرانيون إنه يمكن العثور على الظواهر التمثيلية في بلادهم، منذ الألفية الأولى قبل الميلاد خلال الاحتفالات والطقوس الدينية، بيد أنهم لا يختلفون في أن المسرح الحديث دخل بلادهم كباقي المظاهر الغربية التي أمر بها ناصر الدين الشاه القاجاري
"كان الحضور لافتاً للغاية. نحن نستمد قوتنا من الجمهور، والتمثيل أمام المئات في هذه القاعة-النوستاليجيا بالنسبة للمسرحين، له طعم مختلف"؛ تقول بطلة المسرحية ساناز إمامي، صاحبة الخبرة الطويلة في التمثيل، والتي تتخطى العقدين من الزمن. وبعيداً عن فكرة المسرحية، تروي لرصيف22 حبّها لهذا الفن، فتضيف: "لدي طفل يداوم يومياً في المدرسة في مدينة الأهواز جنوب غرب إيران، تركته وحيداً مع أبيه كي أمارس مهنتي المقدسة".
يمكن لنا أن نتخيل حجم التضحية التي تقوم بها الممثلة ساناز من أجل هوايتها، خاصةً إذا كان العرض في أهم قاعات المسرح الإيرانية، فذلك مغرٍ جداً.
نص واحد ومسرحيات عدة
دخلت بصعوبة قاعةً أخرى صغيرةً. لم يكن عليّ إلا أن أقف عند مدخلها لمشاهدة عرض مسرحي في سبعين دقيقةً. صمتٌ أمامي على خشبة المسرح، وخلفي ضجيج عشرات الأفراد الذين يحاولون الدخول من دون تذاكر. بيد أن القاعة لا تتسع ولا حتى لواحد منهم. يخرج مساعد المخرج ويعِد المحتجين بوجود عرض آخر في الفترة المسائية، لكي يؤمّن الهدوء لطاقم التمثيل الذي ينتظره أداء صعب.
يبدأ طلاب كلية الفنون بعرض مسرحية للسينمائي والمسرحي المخضرم بَهرام بَيضائي، الذي يُنسب إليه الفضل في تطوير المسرح الإيراني. "كارنامه بُندار بيدَخش" عنوان مسرحية مختارة من الأدب الدرامي الفارسي مقدمة في إطار تمثيلي جميل يحاول تجسيد اللغة الأدبية الرفيعة التي كُتبت بها إحدى أشهر الأساطير المحلية".
كثافة الجمهور يعود سببها إلى وجود اسم الأستاذ بيضائي في دعاية المسرحية، فمعظم من حضروا إلى هنا جاؤوا لينصتوا إلى سموّ النص الأدبي مرةً أخرى"؛ هذا ما قاله المخرج سامان شكيبا.
يتعامل المسرحيون مع نصوص الفنان بهرام بيضائي، الذي يعيش في المنفى منذ سنوات، كآيات مقدسة يمكن أن تكون لها معانٍ وتفاسير متعددة، فالمسرحية التي أخرجها سامان لم تكن تُعرض للمرة الأولى، بل كانت هذه المرة السابعة خلال العقدين الماضيين، لكن بأداء وإخراج مختلفين في كل مرة، وأول المخرجين كان الكاتب نفسه.
يمكن لنا الآن أن نتفهم مدى حرص الجمهور، ومعظمه من طلاب كلية الفنون، على مشاهدة واحد من أشهر الأعمال المسرحية لفنانهم الذي حُرموا من تواجده وحضوره لعقود.
تدور القصة حول الوزير "بُندار"، في الأدب الفارسي القديم، الذي قام بتعليم الملك كلَّ العلوم، لكن الأخير قضى عليه وأودعه السجن الذي كان قد شيّده بمشورة الوزير.
"كنت أتمنى أن أُخرج هذه المسرحية منذ سنوات، وبعد عامين من التدريب مع الممثلين، في كل حصة تدريب كنا نكتشف معاني جديدةً في النص، كان فهمه صعباً للغاية، ولكن في النهاية استطعنا كفريق واحد تمثيل المسرحية"؛ يقول المخرج سامان، أحد أشهر المسرحيين الشباب في إيران، وهو ما تؤكده لنا أيضاً الممثلة فاطمة زَيْنَلي (22 عاماً)، قائلةً: "كان التمثيل في هذا العمل تحدياً كبيراً بالنسبة لي أنا التي التحقت بفن المسرح حديثاً بعد أن دخلت كلية الفنون المسرحية قبل عامين".
أوكرانيات يبحثن عن آمالهن في طهران
بجانب تلك القاعة، يُقدَّم عرض آخر مميز، "السعادة في أودسا"، تؤديه ثلاث ممثلات بعد أشهر طويلة من التدريب، وقد نجحن في لفت الأنظار إليهن وهن يجسدن أدوار أفراد أسرة أوكرانية فقيرة من القرون الوسطى.
حول موضوع المسرحية ذات الأجواء الكوميدية والعائلية، والتي حصدت جوائز محليةً وتم عرضها في ثلاث مدن إيرانية، صرّح الكاتب والمخرج رضا شاه كرمي: "بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، انخفض عدد الرجال في روسيا إلى درجة اضطربت فيها النسبة بين الرجال والنساء هناك. في مدينة أوديسا في أوكرانيا، تعيش عائلة جارتها سيدة عجوزة. وبعد وفاتها وصلت رسالة، استلمتها الأخوات الثلاثة، وبدأن يعشن أحلامهنّ على ضوء محتوى الرسالة".
تتشكل القصة الرئيسية حول التفاعلات الإنسانية والاجتماعية مع مصاعب الحياة. وعلى الرغم من أن الكاتب الإيراني، مهتم جداً بأعمال الأديب الروسي أنطون تشيخوف، وتذكّرنا مسرحيته أيضاً بمسرحية "الأخوات الثلاث" للأخير، إلا أنه لا يوجد أي اقتباس منها حسب قوله.
أما بطلة المسرحية پِگاه موسوي (30 عاماً)، فأشارت إلى هوايتها الفنية: "أنا أعمل في متجر في مدينة بعيدة عن العاصمة، لكن شوقي إلى التمثيل على خشبة المسرح جعلني أتحمل كل تلك الصعاب لأشارك في هذا العرض، وآمل أن توفر الحكومة المزيد من المرافق الفنية خارج طهران".
مهزلة!
غير بعيد عن مسرح طهران، تعجّ قاعة "وحدت" بالجمهور، وهي إحدى قاعات العروض المسرحية في العاصمة الإيرانية التي تُعرض فيها يومياً نحو مئة وعشر مسرحيات، لتكشف عن صنوف عديدة لفن المسرح الإيراني المستمد من أدب عريق يقدَّم في قالب معاصر.
لم تلقَ المسرحيات كلها، ترحیباً جماهيرياً حتى وإن امتلأت القاعات، فثمة من يخرج قبل أن ينتهي العرض. هكذا كان الحال في مسرحية "الصدمة" في قاعة "وحدت".
خرج المشاهدون واحداً تلو الآخر، وبعد ربع ساعة من العرض خرجت مجموعة من الأصدقاء والصديقات، وقالت إحداهن باستهزاء واستغراب: "ما هذه؟"، فردّ عليها آخر ضاحكاً: "مهزلة!".
مسرح الشارع
خارج القاعات، ثمة من فرش الأرض بأدواته، وجمع المارة من حوله ليقدّم عرضه التمثيلي في الشارع، أسوة بحال ممثلي المسرح عند دخول هذا الفن، بصيغته الغربية، بلاد فارس في القرن التاسع عشر.
لكن هذا النمط المسرحي، بات يقتصر على مهرجانات المسرح التي تقام سنوياً، كمهرجان مسرح "فجر" الذي أقيم في كانون الثاني/يناير الماضي، بعدما كان جزءاً لا يتجزء من العرض المسرحي اليومي في البلاد.
يقول الإيرانيون إنه يمكن العثور على الظواهر التمثيلية في بلادهم، منذ الألفية الأولى قبل الميلاد خلال الاحتفالات والطقوس الدينية، بيد أنهم لا يختلفون في أن المسرح الحديث دخل بلادهم كباقي المظاهر الغربية التي أمر بها ناصر الدين الشاه القاجاري، أحد أهم ملوك الفرس ومن أكثرهم إثارةً للجدل في التاريخ.
أشكال المسرح الإيراني
ومن أهم أشكال المسرح الإيراني في الماضي:
أ- "خيمه شَبْ بَازي"؛ ويعني مسرح دمى الماريونيت، ويعتقد الإيرانيون أن هذا النمط من التمثيل نابع من الحضارة الفارسية.
ب- "سِياه بَازي"؛ ويعني القصة المصوّرة أو الكوميكس، ويعود إلى فترة الدولة الصفوية في القرن السادس عشر الميلادي.
ت- "رُو حُوضِي"؛ من خصائص البيوت الإيرانية القديمة، أن فيها بركة ماء وسط ساحة المنزل، لها استخدامات عديدة، منها أن الأهالي يقومون في المناسبات بوضع لوحة خشبية عليها كي تتحول إلى خشبة مسرحية، ويقوم الممثلون بتقديم عرض كوميدي عليها للحاضرين.
ث- "تعزية"؛ دراما مسرحية وجدت جذورها في إيران، ويتسم هذا النمط المسرحي بأهمية كبيرة حيث يروي قصة استشهاد الإمام الحسين في معركة كربلاء عام 61 هـ.
ج- "نقالي"، وفيه يقف رجل وسط الميدان ليروي الملاحم والأساطير الإيرانية على هيئة أشعار وعادةً ما يحمل بيده عصا.
على غرار السينما، تُمنع في الأعمال المسرحية في إيران منذ تأسيس النظام الإسلامي عام 1979، منعاً باتاً أي مشاهد للتلامس الجسدي بين الممثلين والممثلات حتى في الأدوار العائلية، ناهيك عن العناق والقبلات، بالإضافة إلى فرض الحجاب على الممثلات، ومنع التطرق إلى المواضيع الحميمية بين الزوجين
عن مكانة المسرح الإيراني ومستواه الفني، يقول المخرج المسرحي أحمد سليماني: "كثرة الكوادر الفنية بسبب توافر المعاهد التدريبية، ووجود أدب درامي راقٍ من خلال طباعة مئات الكتب سنوياً، جعلا المسرح الإيراني في موقع جيد وقادر على المنافسة العالمية".
شغف جامح بالتمثيل
ولشغف الإيرانيين بالتمثيل ودخولهم عالم المسرح والسينما حكاية طويلة، عنها يقول المدرّس المسرحي أيوب آقاخاني: "لدينا إفراط شديد في دخول عالم المسرح من قبل الشباب، هناك اهتمام جامح بالتمثيل ولا بد من تنظيمه وإدارته للاستفادة منه ضمن إطار صحيح يقوّي المسرح الإيراني على الصعيد العالمي، لا أن نتركه في الساحة وحيداً".
وكغيره من الفنون، لم يسلم المسرح من تدخلات الحكومة، وهذا ما أزعج كثيرين: "لسنا بخير، إنهم يتدخلون في كل شيء. ليست لنا حرية في التطرق إلى المواضيع كافة. هناك رقابة شديدة على الأعمال الفنية، وهذا ما يخيّب ظنوننا. انظروا إلى أعمال مهرجان فجر، كلها تتحدث عن الحرب والشهادة وقيم الحكومة الإسلامية"؛ يقول المخرج المسرحي الشاب أحمد دهقان.
وعلى غرار السينما، تُمنع في الأعمال المسرحية في إيران منذ تأسيس النظام الإسلامي عام 1979، منعاً باتاً أي مشاهد للتلامس الجسدي بين الممثلين والممثلات حتى في الأدوار العائلية، ناهيك عن العناق والقبلات، بالإضافة إلى فرض الحجاب على الممثلات، ومنع التطرق إلى المواضيع الحميمية بين الزوجين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون