أيقظني صوت التلفاز-أخبار متعدّدة عن سرعة تبدل المناخ وتدهور البيئة تنبئ بنهاية الحياة- بعد أن زارني جدي في الحلم تلك الليلة، بدأت أقتنع أكثر باستنتاجاتي السابقة: نحن نموت كل ليلة حين ننام، وهذا سبب رؤيتنا للموتى في الحلم، لأننا حينها نكون في عالمهم.
في الحلم، كنت طفلة متبدّلة الأعمار والأشكال، ووجه جدي ثابت، صادق الملامح، يحاول أن يخبرني بشيء ما، ولكني لا أفهم.
أردت أن أخبر أمي عن الحلم وأطلب منها أن تضيء شمعة لراحة روحه. حركت يدي تجاه الطاولة بجانب السرير وعيوني نصف مغمضة، لكن الطاولة ليست هناك، كدت أقع. لم أكن على سرير. أنا معلقة في الهواء.
أين هاتفي؟ حاولت أن أصرخ، لكن لا صوت لي. هاتفي غير مرئي، لكنني رأيت ضوءاً لمع أمام عيني. ضغطت على الضوء ليقول بدأ يومك الافتراضي في عالم "ميتا فيرس" بتاريخ 1 كانون الثاني من عام 2222.
الصوت متقطع والصورة مشوّشة. حاولت أن "أقرص" نفسي لأنهي هذا الحلم السخيف، لكن شيئاً ما تحت جلدي أجاب: "علاماتك الحيوية جيدة، لكن يرجى الانتباه، فوفقاً للبيانات التي تمت معالجتها خلال الليل، لن يكون هناك حبّ في هذا العام، فقد تغير المناخ، وتم تثبيت الكراهية والوحدة بشكل لا رجعة فيه".
الأشخاص الذين نحبهم، ويحبوننا، عندما يتركون أجسادهم، يتحولون إلى طاقة من الحب، فنحن إن عرفنا الحب واختبرناه سيكون الحب الذي نشعّه فريداً وأبدياً، هذه تكون الجنة
قرّرت أن أنام مجدداً علّي أستيقظ، لكنني رأيت شاشة جديدة تقول لي: "مرحباً في عالم الأموات. من تريدين أن تقابلي؟"، فقلت بلهفة: "جدي أبو حبيب".
حضر جدي بشعره الرمادي وطلته المهيبة، ووجهه الذي يشع بالوقار. كنت معه فتاة صغيرة وخائفة. قلت: "جدي، ابقَ معي إلى الأبد. عيوني مليئة بالحياة والحب، في مواجهة الكره المتزايد في الخارج".
شعرت بأنه متعب. "جدي ما الأمر؟"، قال: "الحياة ستنتهي، ألم تسمعي؟".
- "نعم، بسبب الاحتباس الحراري بالطبع".
- "العالم سينتهي بسبب "الاحتباس الكراهي". قالها بأسى، وجذبني من يدي وصولاً إلى غرفة القعدة، حيث اعتاد أن يجلس ليصنع القهوة، وبدأ بطحن بذور القهوة العربية بمهباجه القديم.
لطالما أحببت ذاك الإيقاع الناتج عن ارتطام عصا المهباج الخشبية بجدرانه، ورأيت غبار قشر القهوة المتناثر في بهو الدار، لتعبق برائحة البنّ كل لحظة من ذاك الحلم، وشممت رائحة البنّ المحمّص، شممتها حقاً، غير مكترثة لحقيقة أنني خسرت حاسة الشم منذ قرابة السنة بسبب الكوفيد اللعين، لكن ذاكرة الشم قوية، فاستطعت شمّ الذكريات.
لن يكون هناك حبّ في هذا العام، فقد تغير المناخ، وتم تثبيت الكراهية والوحدة بشكل لا رجعة فيه
ومع الإيقاع ظهرت الصورة أمامنا كما أذكر تماماً: جدّي يتوسّط الغرفة، متربعاً على قطعة من صوف الخروف، ونحن، أحفاده، نتزاحم حوله، أطفال عطاش بانتظار ما سيروي ظمأ فضولهم. نعم إنها حكايا جدي الساحرة.
"هيا يا أولاد، أخبروني هل تخافون من الموت؟". صدمنا سؤال جدي، ولم يجب أي منا. فأضاف: "لا داعي للخوف. والآن أريد أن أعرف ما الموت برأيكم؟".
قال مأمون: "هو أن نذهب إلى السماء". قالت كارمن: "لا يعقل. هل سنصبح طيوراً حين نموت؟"، أضاف ميشو: "إذن جوجو (عصفور الكناري خاصّته) هو ميت؟"، فضحكت ميوش الصغيرة، وأنا بقيت صامتة.
ضحك جدي: "ماذا إن قلت لكم إن الإنسان لا يموت".
اتّسعت عيوننا واستدارت، وتدلت شفاهنا السفلية وبات الانتظار حارقاً: "نعم، وأريدكم أن تتذكروا ما سأقوله لكم اليوم فهو سر الأسرار وفيه الخلاص".
- "هيا جدي أكمل القصة": نطقت أخيراً، فقال ضاحكاً: "لولي (كما كان يناديني) نفذ صبرها".
- "الإنسان حين يموت، كما نقول، يخسر جسده. لكن من قال إن خسارة الجسد هي الموت؟ علينا أولاً أن نعرف من نحن خارج أجسادنا؟ ما الذي يمكننا فعله في هذه الحياة بمعزل عن الجسد وهمومه ومتطلباته! نمضي حياتنا في الحفاظ على صحة ولياقة أجسادنا، وعندما يتوقف الجسم عن العمل، نعتبر أن تلك نهايتنا. ننام ونستيقظ ونأكل ونشرب ونمارس الرياضة، وكل ما نفعله هو إشباع لحاجات هذا الجسد. يتحكم بنا كما تتحكم الأوامر والتعليمات بالإنسان الآلي".
- "جدي، ما الفرق بين الإنسان والإنسان الآلي؟". سألت ميوش، فأجابت كارمن: "الإنسان بيحسّ". قبّلها جدي على جبينها: "نعم هذا ما يميزنا، ما نحمله من مشاعر، وتحديداً الحب والكره".
"أنا بحب "أختاتي": قالها ميشو (قاصداً أخواته) فضحكنا كلنا. قال جديي: "علينا أن نحب كثيراً لنتغلب على الكره الكبير، ألا ترون أن الحروب والمجاعات في تزايد مستمر؟ بالتأكيد ليس كل ذلك نتيجة للحب".
"العالم سينتهي بسبب "الاحتباس الكراهي". قالها بأسى، وجذبني من يدي وصولاً إلى غرفة القعدة، حيث اعتاد أن يجلس ليصنع القهوة
الأشخاص الذين نحبهم، ويحبوننا، عندما يتركون أجسادهم، يتحولون إلى طاقة من الحب، فنحن إن عرفنا الحب واختبرناه سيكون الحب الذي نشعّه فريداً وأبدياً، هذه تكون الجنة.
أما أولئك الذين لا يشعون الكثير من الحب، هم من يساهمون في تفاقم (الاحتباس الكراهي) الذي سيقضي علينا جميعاً، وهذا فقط ما يمكن تسميته الجحيم".
قال جدي: "نعم، الجنة والجحيم في داخلنا. نطلقهما عندما نترك أجسادنا. فخارج الجسد، نحن مجرد طاقة من الحب والكراهية، مكونان كبيران يتغذيان على مشاعر كل منا. نعيش جميعاً إن بقي الحب وسنموت جميعاً إن غلبه الكره".
عاد جدي يطرق بمهباجه، إيقاعاً مميزاً للمرة الأولى وغبار القهوة المتطاير جعلني أعطس.
وجدت نفسي في تلك الغرفة الغريبة، التلفاز يعد ببدء عصر جديد من الحياة الافتراضية "نيو ميتا فيرس"، تكنولوجيا توفر لنا مزيداً من الوحدة والغربة عن الحب. سكنني الخوف. نهايتنا قريبة ومحتّمة، فما يغذي الحياة يختفي بسرعة. إنه الحبّ، هو ما يجعل الأرض تدور... ذلك ما أكدّه لي جدي.
حاولت التهرّب من حقيقة أن الأرض ستتوقف عن الدوران قريباً، وقد تكون هذه آخر مرة أرى فيها جدي. لكن سبقني الوقت وقال الصوت: "انتهت اللعبة، ليس هناك رصيدٌ كافٍ من الحبّ".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين