شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
تسجيل ما حدث على أنه لم يحدث

تسجيل ما حدث على أنه لم يحدث

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

منذ بدء عمليات طوفان الأقصى، التي تزامنت مع فترة ما قبل الانتخابات الرئاسية في مصر، وأنا أحاول مقاومة ما يحدث بطرق مختلفة: الذهاب لبعض التظاهرات الداعمة لفلسطين، مقاطعة المنتجات التي تدعم الاحتلال، محاولة تحليل ما يحدث داخل مصر وخارجها بكتابة بعض المقالات، لكن باءت محاولاتي كلها بالفشل.

انتشرت حملات الاعتقال، وقلّلت حدّة الأحداث من تركيزي في الكتابة، حتى عجزت عن إخراج سطر واحد سليم. زاد هذا من الإحباط المتراكم عندي أصلاً مما يدور من أحداث مؤسفة، فقرّرت التركيز على بعض الكتابة الذاتية، قلت لنفسي: ربما إذا أفرغت بعضاً من الطاقة المخزّنة بالبطارية، يفسح هذا بشكل ما المساحة لاستقبال طاقة كتابية جديدة، تخلو من الأخطاء وسوء التحليل.

حاولت تدوين ما يدور بيني وبين أصدقائي في بلاد مختلفة، منهم فلسطينيون، أهلهم في غزة أطمأن عليهم كل يوم، ومنهم مصريون، أهلهم في مصر، يعانون من الظروف المعيشية والتضييق الأمني، ومنهم من ليسوا عرباً لكن يحاولون الدفاع عن القضية، لكن حتى هؤلاء لم يسلموا من أشكال الأذى المختلفة، بدءاً بالفصل من العمل إلى الضرب المبرّح من الشرطة. بعد عدة أيام، وبين الأحداث في غزة وحملات الاعتقال الواسعة في مصر، أصبحت المواكبة صعبة. آثرت التركيز على ما يحدث في فلسطين، بالرغم من أن اختفاء الأصدقاء النشطاء، أو حتى غير النشطاء، محزن، لكن على الأقل هؤلاء نعلم أنهم أحياء.

كيف أصبحت كلمة بسيطة مثل: "كيفك"، بهذا الثقل؟ أشارك إحدى صديقاتي شعوري بالخجل والغباء حين أسأل، لكن كيف يبدأ المرء محادثة؟

ما ننسى، أو ربما نتجاهل تشاركه

لاحظت أن أغلب السطور تنتهي بأسئلة، كيف أصبحت كلمة بسيطة مثل: "كيفك"، بهذا الثقل؟ وإذا تجاهلت السؤال عن أحوال أصدقائي واتجهت مباشرة للسؤال عن أهلهم، أكتشف أن سؤال: "كيف أهلك؟"، أصبح أثقل من كل ما سبق. أشارك إحدى صديقاتي شعوري بالخجل والغباء حين أسأل، لكن كيف يبدأ المرء محادثة؟

خياراتنا محدودة، خاصة مع اختفاء كل التحيات التي تنتهي "بـخير" من القاموس. تؤكد لي صديقتي أن هذا ما تشعر به هي الأخرى عندما ترسل لأهلها رسالة للاطمئنان عنهم. تحت الحرب والحصار والقصف وبين الجوع والعطش والتشرّد في الخيام، تصبح أسئلة عادية وبسيطة شديدة الثقل و الغباء، لكن كيف نطمئن على من نحب؟ و كيف أصبحت أقصى أمانينا في الحياة رسالة تخبرنا أنهم مازالوا أحياء؟

شعرت بثقل تدوين الحاضر فعدت للماضي القريب. قبل العيد بقليل، أرسلت والدة صديقتي نفسها علبة من الكعك من غزة، استلمتها هنا وأخذتها معي في رحلة للبلد الذي تدرس فيه. كنت أمرّ بأزمة صحية فيها أغلب الطعام يؤذي معدتي، لكن صديقتي أصرت على تقاسم الكعكات معي، بالرغم من خصوصيتها في غربتها التي تصعب مغادرتها، لأنها لا تستطيع ضمان عودتها مرة أخرى.

كان أطيب ما تذوقت في حياتي من كعك. سألت أمها عن الوصفة، أخبرتنا بها ثم عادت وقالت إنها مكلفة وصنعها مجهد، وأضافت: "إذا كان الكعك خفيفاً على معدتك، انتظري قليلاً ريثما أعد دفعة أخرى أكبر أرسلها لك". تأثرت وقتها من كرمها. اليوم تسكن عائلة صديقتي كلها خيمة واحدة، ولا يستطيع العالم أجمع، بكل ما فيه من بنوك ومؤسسات ومنظمات دولية، توفير أبسط أساسيات الحياة من خبز وماء ودواء لهم.

بعد عدة أيام من التدوين المتأخر، ظهرت خطوط ملونة في جزء صغير من الشاشة، نصحني أحد الأصدقاء بالتعامل معها بحذر لحين حلّ المشكلة عند مختص، ثم جلس بالخطأ على الجهاز الموضوع على الكرسي. راح نصف الشاشة نتيجة لذلك الحادث المؤسف. لم أستسلم وأكملت ما بدأته من كتابة، بعد ساعات قليلة أصبح خليط الألوان المختلفة مع سواد الشاشة وبعض الومضات البيضاء في الأركان مؤلماً للعين، أعلنت ساعتها الاستسلام تماماً. فكرت أنها يمكن أن تكون علامة غيبية تأمرني بالتوقف عن الكتابة، أو أن "الكار ده مش كاري"، ربما لست الشخص المناسب للاستمرار في الحديث أو تسجيل وتدوين كل ما يحدث، وبدلاً عن الانغماس في الكتابة، انغمست في سريري، أنام لساعات طويلة تمتدّ في أحيان كثيرة لأيام.

"حد ضامن يمشي آمن، أو مآمن يمشي فين؟"

من بعد قرار الاعتزال وأنا في قمة مجدي الذي لا يعلمه ولم يره أحد، لم أذكر الكتابة إلا بسبب صديق لي، يسألني كل يومين: "هل من جديد؟ اكتبي حتى خواطرـ أقرأها وأخبرك عن رأيي". رفضت الموضوع رفضاً قاطعاً، حاولت العثور على هوايات أخرى أعبر فيها عن نفسي. أخرجت ريشة الرسم والألوان محاولة رسم لوحة. نجح "الاسكتش" الأول في الوصول لآخر الطريق والخروج بمظهر لائق، لكن فقدت الشغف، ولم تر تلك اللوحة ألواناً أو نوراً مرةً أخرى من وقتها. يعود صديقي بعدها بيومين يسأل: "هل أنجزتِ شيئاً في اللوحة؟ هل كتبت؟ هل عزفت؟"، وتستمر الإجابة "لا" عن كل سؤال. 

اليوم صباحاً، رأيت خبر وفاة أحد الناشطين الذي سُجن سابقاً في مصر. توفي "باسم جاير" في ماليزيا بعد أن أجبرته الظروف على النجاة بنفسه من الملاحقات الأمنية. لم يكن باسم أول من رحلوا ودُفنوا بعيداً عن أرضهم، عن الأصدقاء والعائلة، من قبله سارة حجازي ومحمد أبو الغيط، وآخرون كثيرون ربما لن تكفي عشرات المقالات لسرد أسمائهم واحداً تلو الآخر وواحدة تلو الأخرى، بعضهم معروفون بالفعل، والبعض الآخر لم تعرف قصته أو يتذكره إلا بعض العائلة والأصدقاء.

مساءً، وصلني خبر اعتقال صديقي الذي يسأل عني وعن كتاباتي المجهولة، بعد أن اختفى لثلاثة أيام، ولم تصله رسالتي الأخيرة حتى لحظة كتابة هذه الكلمات. لم أندهش، ربما اعتدت؟ هل أكون التالية؟ هل سيخرج صديقي؟ بعد أن يخرج، هل سيرحل أم سيبقى؟ وبرغم التساؤلات، أظن أنه ربما فقد جزء مني الشعور بالدهشة والقلق والخوف من الإجابات المحتملة لتلك الأسئلة.

أكتب فقط لأقول للعالم إني مررت من هنا، أني رأيت الكثير وما زلت أحاول تسجيل كل ما أرى

أردت تسجيل ما حدث اليوم. شعرت أنه إذا أجبت على رسالة صديقي متأخرة، فأقل ما يمكنني فعله هو ألا أتأخر في تنفيذ نصائحه. عدت لما تبقى من شاشتي الصغيرة، محملة بحزن أحاول إنكاره، كطفلة أو مراهقة قرّرت الخروج من بيت أهلها غضباً منهم، وعادت بعد ساعة لمّا لم تجد ملجأً في الخارج. أريد أن أكمل تدوين ما جرى من أحداث فلا تضيع مثل تلك السجلات، سواء احتفظت بها أم قررت مشاركتها مع العالم.

أثناء محاولتي لتشغيل الجهاز، فكرت أنه ربما أصابني عطب مثلما أصاب الشاشة حين أثقلتها بسطور كثيرة كتبت في ساعات طويلة. يزداد هذا العطب كل يوم مع زيادة محاولاتي للتهرب، اعتقدت أنه ربما إذا استمرّ انقطاعي عن الكتابة أستطيع الهروب مما يحدث، على أمل أن يقل الألم وتزداد قدرتي على مواجهة العالم لاحقاً، لكن كيف أواجه العالم وأنا لا أستطيع مواجهة نفسي؟

تفاجأت وقت أضاءت، فبرغم كل تلك الخطوط التي تدل على احتراق أغلب مصابيحها أو أسلاكها الداخلية، لازالت قادرة على العمل بشكل نسبي، أقله بما يكفي لإنجاز ما يجب إنجازه. ولو أن هذا يبدو لي كأحد كليشيهات الأفلام، لكن أعتقد أن الشاشة بجزأيها، الأبيض والأسود، تمثل ما يدور أيضاً بداخلي من صوت يسعى للكمال، يمنعني عن الكتابة في كل مرة أريد فيها التعبير. يقول إن كل ما أكتب من كلمات هو أسوأ ما سُطّر من كلمات في تاريخ الكتابة، وصوت آخر يردّ بأنه لا ضرورة للكمال هنا، فأنا أكتب فقط لأقول للعالم إني مررت من هنا، أني رأيت الكثير وما زلت أحاول تسجيل كل ما أرى، أن لا مشكلة عندي إذا لم يتذكرني العالم بعد رحيلي، لكن ليتذكر ما رأيت، أو يستمر في ذكر ما حدث، وذكر الآخرين، ممن لم يتسنّ لهم إخبار قصصهم. ربما تنفع تلك الذكرى في إنهاء دائرة الألم والقمع المفرغة التي دارت فيها أجيال من قبلنا، وما زلنا نحن أيضاً ندور فيها بلا هوادة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard