شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
عندما تركت الفاونديشن الخاص بي ليتشقّق

عندما تركت الفاونديشن الخاص بي ليتشقّق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 19 فبراير 202412:54 م

مازلنا ندعوه حتى اليوم "كريم أساس"، نحن جيل الثمانينيات ، هكذا كان قبل أن يصبح اسمه "فاونديشن" أو "فوندتان". أحتفل اليوم بمرور عام على تحرّري من الماكياج، والشعور الأقرب لما أشعر به الآن هو الخفّة.

بدأت مسيرتي مع الماكياج في منتصف عمر المراهقة، كأغلب بنات جيلي، عندما كنت في الصف الثالث الثانوي احتفظت بمرآة صغيرة وقلم (كحلة مايعة) على طاولة الدراسة، لأتدرّب يومياً على طريقة رسم ذاك الخط الساحر فوق جفني، حتى دخلت سنتي الجامعية الأولى لأبهر صديقاتي بخط الكحل المرسوم بمهارة فوق عيني.

أذكر أن أول الأشياء التي اشتريتها قبل أن أشتري كتب الجامعة، وقبل أن أشتري حقيبة كتف تليق بطالبة في سنتها الأولى، كان عدة ماكياج كاملة، من كريم الأساس إلى بودرة مانهاتن ذات اللصاقة الليزرية التي تدل على أنها "أوريجنال"، والتي لم تكن تعلم أنها ستنجب أحفاداً وأحفاداً ينقسمون إلى "كومباكت باودر" و"لوس باودر".

 واشتريت علبة ظل بأربعة وعشرين لوناً، كنا نسميها "علبة ظلّ" نحن، وأصحاب المحال، وتجار الجملة، وحتى طالبات فرع اللغة الإنكليزية كن يقلن علبة ظل وليس "باليت" أو "آي شادو"، وعلبة ماسكرا، الماسكرا العظيمة التي أشعر بانتصارها لأنها حافظت على اسمها حتى اليوم، كما اشتريت قلمي حمرة، واحد بلون بني فاتح والآخر "سحري"، ذاك الذي كان يأتي بلون أخضر، وعند وضعه عل الشفاه يتحول إلى لون زهر فاقع لا يمكن مسحه مهما دعكته بمنديل.

لم يكن حينها ثمة شيء اسمه "هايلايتر"، وانما كنا نشتري علبة "بهرجان" نضع مسحة منها فوق أعيننا ومسحة أخرى فوق شفاهنا في الحفلات فقط، إذا ما أردنا أن نرفع إضاءة وجوهنا ولمعانها

اشتريت أيضاً علبة حمرة خدود، حمرة خدود وليس "بلاشر" وقلم كحل (الجرس) ذا السواد الفاحم الذي كان شرطاً لازماً في حقيبة ماكياج كل امرأة سورية، وقلم تحديد شفاه، كنا نسميه "قلم تخطيط" قبل أن يصبح اسمه "ليب لاينر".

لم يكن حينها ثمة شيء اسمه "هايلايتر"، وانما كنا نشتري علبة "بهرجان" نضع مسحة منها فوق أعيننا ومسحة أخرى فوق شفاهنا في الحفلات فقط، إذا ما أردنا أن نرفع إضاءة وجوهنا ولمعانها.

لم نكن نخفي عيوب وجوهنا "بالبرايمر" ولا "الكونسيلر"، وإنما كان كريم الأساس يفعل كل شيء وحده، واضعاً حجر الأساس لما سيبنى فوقه من خرائط، ولم تكن وجناتنا وأنوفنا تحتاج إلى "كونتور" لرفعها وتصغيرها.

كان "الظل" وقتها أصلياً، يبقى ثابتاً إلى أن نغسله بصابونة غار، ولم يكن يحتاج إلى "برايمر" خاص به يثبته فوق العين.

أنظر اليوم إلى قلم تعليم الحواجب الذي أستعمله لملء فراغاتٍ صنعها تقدمي في العمر، وأشعر بأسى فقدانه هيبته عندما أسموه "آي برو بنسل". لا أتخيل نفسي قادرة على الدخول إلى متجر لأقول له اعطني "آي برو بنسل" لون بني مثلاً.

اشتريت كل ذلك، ثم قمت بثلاث أو أربع بروفات لوضع ماكياجي الكامل، قبل دوامي في أول يوم جامعي. 

لم يكن الماكياج ووسائل التجميل المؤقتة والدائمة اختراعات حديثة ولا قريبة إلى الحداثة حتى، فتاريخ الماكياج الدائم بالإبر و"الديرما بن" وتوريد الشفاه ووشم الحواجب وغيرها يعود لآلاف السنين، حيث كانت تقنيات التجميل المستخدمة من قبل النساء في جميع أنحاء العالم تشمل استخدام الألوان والرسومات على الوجه والجسم.

ففي مصر القديمة استخدمت المرأة الماكياج الدائم لتجميل عيونها وشفتيها باستخدام الألوان الطبيعية مثل الحناء والأكاسيد المعدنية، وفي الهند القديمة كانت النساء تستخدم الحناء والمكونات الطبيعية الأخرى لصنع الألوان والرسومات على وجوههن وأجسادهن.

وفي القرن العشرين، عادت تقنيات الماكياج الدائم بالإبر والديرما بن وتاتو الحواجب وغيرها لتنتشر وتتطور، حيث تم استخدام الإبر الدقيقة والأدوات الحديثة لإجراء عمليات الحقن والتلوين الدائم، على اعتبار أن هذه الطرق توفر الجمال الدائم والمتجدّد بسهولة وتعزّز ثقة المرأة بنفسها.

في ذكرى بعيدة لا تفارقني، كان الشارع مرصوفاً بحجارة سوداء كحجارة دمشق القديمة، وكان المطر ينهمر بغزارة تكاد تمنعك من فتح عينيك، كان مطر أواخر الصيف وبدايات الشتاء، وكنا خمسة مجانين، طلاب علم وسعادة، ندق كعوب الحجارة تلك بكعوب أقدامنا، مغنين، راقصين، ضاحكين ملء قلوبنا، تحتضننا أعين سكان حي أرمني في مدينة غريبة. لم تكترث الإناث منا للكحل الذي رسم طريقه مع الماء من أعيننا إلى أسفل خدودهن، وللألوان الكثيرة التي اختلطت ببعضها لترسم على وجوهنا سمات المهرجين.

كانت تلك السعادة الحقيقية يومها ترمي بحرصنا على وجوب التجمّل أمام رفاقنا الشباب في كل حاوية قمامة نمر بجانبها.

في ذكرى قريبة، عندما تخليت عن الماكياج، تخيّلت الرجل الذي أحبه يقف مكان رشدي أباظة، عندما قال لمريم فخر الدين: "انتي لوحدك حلوة بلا مكياج"، لكنه لم يلاحظ أنني بلا مكياج، وإنما بدأ فقط يلاحظ أنني مرتاحة أكثر وأن نفسيتي تصبح أجمل.

بدأت أشعر بالغباء لقضاء نصف ساعة من وقتي صباحاً في طلاء وجهي بمواد أخذت تُظهر مع الوقت أن تجاعيدي تبدو أعمق.

في الماضي كنت أقضي الوقت بالقلق من أن الكحل قد شطّ تحت عيني، أو أن الروج اختفى من على شفتي وحان وقت تجديده، وكنت أثقل حقيبتي بمرآة وأقلام كحل وحمرة، كان وزناً إضافياً يزيد من ألم كتفي المرتبط بديسك الرقبة لدي.

تخلصت من قلقي وتوتري هذا، وحصلت على حقيبة كتف خفيفة أكثر.

جميعنا نتساءل: لماذا تستيقظ الممثلات الأجنبيات في أي فيلم أو مسلسل بوجوه طبيعية كوجوهنا الحقيقية عندما نستيقظ من النوم، وتستيقظ ممثلاتنا العربيات في مسلسلاتنا بطلائهن الكامل كأنما سيسقطن من السرير إلى حفلة عرس؟ ثم  نعزو ذلك إلى ثقتهن بأنفسهن وتصالحهن مع ذواتهن أكثر منا، الممثلات الأجنبيات بالطبع أقصد.

بدأت أشعر بالغباء لقضاء نصف ساعة من وقتي صباحاً،  في طلاء وجهي بمواد أخذت تُظهر مع الوقت أن تجاعيدي تبدو أعمق

لا أختلف مع الدراسات التي تقول إن وضع الماكياج قد يزيد من جاذبية المرأة ويرفع مستوى ثقتها بنفسها قليلاً، لكنني أضحك من تلك التي تقول إن امتناعها عن وضعه علامة على التكاسل في الاهتمام بنفسها وعدم مواكبتها الموضة.

ما نراه اليوم من التحديات بين المشاهير للظهور دون ماكياج يثير تهكمي، يثير لديّ أسئلة غريبة من نوع: هل لأن الحياة أثقلتنا بأعبائها حتى صرنا نرى ما كنا نراه مهمّاً في السابق، سخيفاً اليوم؟

عادة الحزن في بلادنا العربية أن يمسح عن النساء ألوانهن من الوجه حتى أخمص القدمين، حيث يتّشحن بالسواد ويمتنعن عن وضع الماكياج في دلالة على الحداد، وعادة النساء أن يتناولن بالنميمة أي امرأة متبرّجة، حاضرة في مجلس عزاء، حتى وإن كان بلون خفيف يغطي شحوبها، بالموازاة مع عادتهن بتناول أي امرأة غير متبرّجة في أيامها العادية، خارج أوقات الحزن. عادة نسائنا النميمة أينما حضرن لذلك. كوني كما تحبين أن تكوني، برطل من الماكياج أو من دونه، ضعيه لنفسك إن أرادته وليس لتنالي رضا الآخرين.

منذ مدة كنت مدعوة لحضور مناسبة فرح في زمن شحّت فيه أفراح الناس، فتذكرت علبة كريم الأساس ذي اللون البرونزي المرمية في درج منذ عام، فتحتها لأجدها متشققة كأرض شديدة الجفاف، استخدمت حيلة قديمة لأعيد لها حياتها، بأن وضعت فوقها بضع قطرات من ماء الورد، ومزجتها بالكريم الجاف حتى عاد طرياً، ثم دهنت وجهي به مغلقة كل مسام فيه.

كان الشعور غريباً، مزعجاً، ثقيلاً، ولم أعد أشبهني، لدرجة أن بناتي طلبن مني أن أمسحه فوراً لأن منظري أصبح مريعاً، فقمت من فوري لأغسل وجهي وأعود فأتبرّج بالقليل من البودرة وحمرة الخدود وخط الكحل الساحر الذي طالما برعت في رسمه فوق عيني.

شكرتني مسام وجهي كثيراً وأنا أرقص يومها في الحفل كفراشة خفيفة الأجنحة.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image