بحسرة كبيرة وعيون يملؤها الألم، ينظر محمد أحمد الرجل إلى أسماك اللوت الطافية فوق سطح الماء بدون حركة، وتحجب ضوء الشمس عن التغلغل إلى قاع مزرعته، متذكراً بأسى فرحته العارمة هو وأولاده قبل نحو شهرين مع بداية الدورة الجديدة من زريعة الأسماك التي كانت تتراقص وتتلاعب في مزرعته السمكية بقرية الجرابعة الواقعة غربي محافظة بورسعيد المصرية.
على مدار 3 سنوات، خسر محمد آلاف الجنيهات، جراء استمرار إلقاء مخلفات الصرفين الصحي والصناعي في بحيرة المنزلة التي تستمد منها مزرعته مياهها، هو وغيره من الصيادين المستأجرين لتلك المزارع من الدولة.
لم يختلف حال هاني السيد كثيراً، فبداخل غرفة مليئة بشباك الصيد يجلس الصياد السبعيني يرتشف كوباً من الشاي، ويتحسر على تدهور الحال في مزرعته السمكية التي استأجرها لأكثر من 40 عاماً، وكانت مصدراً للخير قبل أن تصبح سبباً لخسارة آلاف الجنيهات. فقبل 6 سنوات خسر وشريكه 60 ألف جنيه (1950 دولاراً أمريكياً بحسب سعر الصرف الرسمي) اشتروا بها زريعة لأسماك الدنيس والقاروص قبل أن تموت جميعها جراء التلوث المستمر في البحيرة.
تفاءلوا خيراً عندما أعلنت الدولة في مايو/ أيار 2017، عن خطة قومية لتطوير البحيرات الطبيعية المصرية (عددها 14 بحيرة معظمها من البحيرات المالحة) ومن بينها بحيرة المنزلة التي تتصل بها وتعتمد عليها مزارعهم، وبالفعل أتمت الدولة خطتها لتطوير البحيرة من خلال التعميق وإزالة الحشائش وتطهير الشواطئ والجزر. لكن التطوير الذي خُصص له 2 مليار دولار، بحسب تصريحات رئيس الوزراء المصري، وأنفق عليه فعلا 12 مليار جنيه بحسب تصريحات محافظ بورسعيد؛ لم يُعنى بخلق حل جذري لمشكلة إلقاء الصرفين الصحي والصناعي بالبحيرة، ما يعني تجدد المشكلات التي دعت للتطوير، واستمرار نزيف الخسائر بالنسبة للصيادين إضافة إلى الكوارث البيئية والصحية الناجمة عن صيد وبيع الأسماك الملوثة بمخلفات الصرف وانهيار بيئة البحيرة.
تفاءلوا خيراً عندما أعلنت الدولة في مايو/ أيار 2017، عن خطة قومية لتطوير البحيرات الطبيعية ومنها بحيرة المنزلة التي تتصل بها وتعتمد عليها مزارعهم، وبالفعل أتمت الدولة خطتها لتطوير البحيرة بميزانية بلغت 2 مليار دولار، بحسب تصريحات رئيس الوزراء المصري، أو 12 مليار جنيه حسب تصريحات محافظ بورسعيد؛ لكنها لم تلتفت إلى خلق حل جذري لمشكلة إلقاء الصرفين الصحي والصناعي بالبحيرة
التلوث مستمر
بخلاف محمد وهاني، يحيط ببحيرة المنزلة قرابة 65 مزرعة أسماك هجرها أصحابها بسبب خسائرهم المتتالية الناتجة عن مخلفات الصرف الصحي والصناعي المُلقاة في المناطق القريبة من شواطئها وداخل مياهها. إذ لم يتوقف إلقاء الصرف رغم انتهاء المشروع القومي لتطوير البحيرة، الذي كان مناطاً به القضاء على مصادر التلوث الصحي والصناعي ووقف التعديات، ما دفع آلاف الصيادين لهجر مزارعهم والهجرة لمناطق أخرى بحثاً عن سبل العيش.
المنزلة واحدة من أكبر البحيرات العذبة في مصر، تقع شمال شرق دلتا نهر النيل، وتصل بين 3 محافظات: بورسعيد والدقهلية ودمياط، ورغم إطلاق الحكومة مشروعاً قومياً لتطويرها يشمل القضاء على مصادر التلوث الصحي والصناعي ومراجعة وزارة البيئة للمصانع التي تلقي بمخلفاتها في البحيرة، ووقف التعديات عليها، إلا أننا رصدنا استمرار إلقاء مخلفات الصرف الصحي والصناعي في البحيرة في كل من محافظتي الدقهلية وبورسعيد خلال الأشهر الماضية.
بلغت تكلفة مشروع تطوير البحيرة 12 مليار جنيه وفقاً لتصريحات اللواء عادل الغضبان محافظ بورسعيد، لكن جولة ميدانية لمعدة التحقيق تضمنت لقاءات مع 20 صياداً بمحافظتي بورسعيد والدقهلية، وثقت استمرار عمليات صب مخلفات الصرف الصحي والصناعي في البحيرة رغم انتهاء عملية التطوير العام الماضي 2023.
يحيط ببحيرة المنزلة قرابة 65 مزرعة أسماك هجرها أصحابها بسبب خسائرهم المتتالية الناتجة عن مخلفات الصرف الصحي والصناعي المُلقاة في المناطق القريبة من شواطئها وداخل مياهها
صرف صحي وصناعي
رصد رصيف22 مجموعة مصارف صحية وصناعية تستمر في إلقاء مخلفاتها داخل البحيرة، بينها مصرف بحر البقر، محطة الصرف الصحي التابعة لقرية الجرابعة، مصنع برسيل في بورسعيد، مصنع سيمنار ببورسعيد، ومخلفات الصرف الصحي بمنطقة القابوطي والمنطقة الصناعية في بورسعيد. يشير الرصد الميداني لعدم تحقيق مشروع تطوير البحيرة أهدافه فيما يتعلق بوقف مصادر تلويث البحيرة.
إلقاء المخلفات في البحيرة يخالف المادة 28 من قانون البيئة لعام 2009 التي تنص على "يحظر القيام بأعمال من شأنها تدمير الموائل الطبيعية للبيئة البحرية أو تغيير خواصها الطبيعية أو موائلها أو إتلاف أوكارها أو إعدام بيضها أو نتاجها".
مشروع التطوير الذي بدأ منذ عام 2017 اشتمل على مرحلتين أساسيتين وهما مرحلتي التطهير والتكريك، والتي اشتملت على تطهير القنوات الشعاعية وقنوات الرطمة والصفارة والبط، وتكريك المنطقة الممتدة جنوب بوغاز مثلث الديبة، وإنشاء الألسنة ببوغازي الجميل وبوغاز الصفارة.
وسط مياه سوداء ترسو مجموعة كبيرة من مراكب الصيد على أحد شواطئ البحيرة في القابوطي، يجلس إلى جوارها صيادون ينسجون خيوط شباكهم، ويتسامرون مُطلقين العنان لضحكاتهم، مُتناسين الضرر الواقع عليهم بسبب مخلفات مصنع سيمنار التي يُلقيها على مرأى منهم في القناة
أسماك تسبب المرض
يقول الدكتور محمود حنفي، أستاذ البيئة البحرية بكلية العلوم جامعة قناة السويس، إن التلوث الناتج عن الصرف الصناعي المحمل بالمواد الكيميائية يُركز العناصر شديدة السمية في لحوم الأسماك وعضلاتها، ما ينتج عنه الإصابة بأمراض مثل الفشل الكلوي والكبدي والسرطانات، والتأثير على قدرة الأطفال العقلية جراء زيادة عنصري الكادميوم والرصاص، مؤكداً أن زيادة نسبة التلوث عن حد معين يقتل اليرقات.
يضيف حنفي: يعمل الصرف الصحي على زيادة المادة العضوية الموجودة في المياه والتربة والتي تعمل على استهلاك كميات كبيرة من الأكسجين من أجل عملية التحلل، ما يقلل من مستوياته ويؤدي إلى نفوق الأسماك.
مخلفات قاتلة
يقول عصام محمد الذي يعمل بمهنة الصيد مذ كان عمره 8 سنوات، إنه لم يتبق من زريعة الجمبري التي كانت تملأ مزرعته العام الماضي غير هياكلها، وخسر على إثرها 70 ألف جنيه (2270 دولاراً) . يتابع: ورثنا هذه المزرعة أنا وإخوتي الخمسة قبل 10 سنوات، وكانت تعج بكل أنواع الأسماك، في البداية كانت إنتاجيتها مبشرة بالخير ولكن نتيجة للتلوث الناتج عن مياه الصرف الصحي والصناعي غير المعالج، تراجعت الإنتاجية بشكل كبير وأدت إلى نفوق جماعي للأسماك، مشيراً إلى أن خسارتهم بلغت ملايين الجنيهات، وترك على إثرها أحد أشقائه المزرعة تماماً.
جودة المياه أمر بالغ الأهمية لصحة مصايد الأسماك، لتأثيرها على حجم الأسماك وإنتاجيتها، وتشكل مياه الصرف الصحي الحجم الأكبر من النفايات التي تُلقى في البيئة البحرية والساحلية، وتحتوي على كميات كبيرة من مواد عضوية وبكتيريا وفيروسات وطفيليات ومواد بلاستيكية وكيميائية صناعية ومعادن ثقيلة، ما يشكل تهديدات كبيرة لمصايد الأسماك القريبة من الشواطئ وصحتها.
وفقاً لدراسة حديثة نشرت عام 2023، لتقييم جودة المياه ببحيرات شمال مصر وُجد أن بحيرة المنزلة غير صالحة للاستهلاك الآدمي، نظراً لاحتوائها على نسب عالية من التلوث مقارنة ببحيرتي البردويل والبرلس، ووفقاً لتقرير الأمم المتحدة لتنمية المياه حول العالم لعام 2017 فإن أكثر من 80% من مياه الصرف الصحي على مستوى العالم، وأكثر من 95% في البلدان النامية، تُطلق مباشرة إلى البيئة بدون معالجة، ما ينتج عنه عواقب سلبية على البيئة البحرية.
قتل التنوع البيولوجي
وعن التأثير البيئي لإلقاء المخلفات في البحيرة، يؤكد أستاذ البيئة البحرية بكلية العلوم جامعة قناة السويس محمود حنفي، أنه يؤثر على التنوع البيولوجي بقدر كبير، فبعض الكائنات لا تستطيع تحمل نسب التلوث المرتفعة فتموت وتنقرض من هذه البيئة، وتستمر الكائنات التي تستطيع تحمل هذه النسب، وبعض هذه الكائنات سامة بالفعل ما يؤثر على التوازن داخل البيئة البحرية، ويقتل التنوع البيولوجي.
وسط مياه سوداء ترسو مجموعة كبيرة من مراكب الصيد على أحد شواطئ البحيرة في القابوطي، يجلس إلى جوارها مجدي محمود (56 عاما) ينسج خيوط شباكه برفقة مجموعة من الصيادين، يتسامرون مُطلقين العنان لضحكاتهم، مُتناسين الضرر الواقع عليهم بسبب مخلفات مصنع سيمنار التي يُلقيها على مرأى منهم في قناة القابوطي (الرسوة)، في منطقة فاصلة بين البحر المتوسط وبحيرة المنزلة. يؤكد مجدي ورفقته أن المخلفات الكيماوية التي يلقيها المصنع دمرت الثروة السمكية في المكان بأكمله وبخلت عليهم البحيرة بخيرها ما يهدد مصدر رزقهم الوحيد، وهاجر كثير من الصيادين للعمل في البحر الأحمر، وبحث آخرين عن مهنة أخرى غير الصيد.
مقاومة المضادات الحيوية
وفقاً لدراسة حديثة نشرت عام 2021 بالمجلة الدولية لأمراض الاضطرابات الهضمية، بعنوان "البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية في الماء والأسماك خطر على صحة الإنسان"، والتي درست التلوث الميكروبي لبحيرة المنزلة في 4 مناطق مختلفة، هي: القابوطي والمطرية وبشتير والجميل، وجدت أن السلالات البكتيرية كانت مقاومة لأكثر من 20 نوعاً من المضادات الحيوية في الأسماك المتواجدة داخل بحيرة المنزلة، والذي يعد مؤشراً لوجود خطر على صحة الإنسان في المجتمعات المحيطة ببحيرة المنزلة، من مسببات الأمراض البكتيرية، التي تعيش في بيئة ملوثة.
يقول الدكتور أحمد سامي، باحث ميكروبيولوجى بكلية العلوم جامعة طنطا وأحد المشاركين بالدراسة، إن البكتيريا الموجودة في الأسماك تنتقل إلي الإنسان بعد تناولها، ما ينتج عنه عدم فعالية بعض المضادات الحيوية التي يتناولها الإنسان لاحقاً، وبالتالي تفشل الأخيرة في علاجه من بعض الأمراض. وعن أسباب انتشار مقاومة المضادات الحيوية يقول إن البكتيريا تنتقل مع مياه الصرف الصحي ونتيجة سوء استخدام الإنسان للمضادات الحيوية فإن البكتيريا تطور بعض الجينات التي تفرز مركبات كيميائية تُكسر المضادات الحيوية، ما يشكل خطراً على صحة الإنسان.
مليارات بلا طائل
مشروع تطوير بحيرة المنزلة و2 مليار دولار وقانون البيئة.. جميعها لم تؤتي ثمارها في وقف مخلفات الصرف الصحي والصناعي التي تلقى في بحيرة المنزلة، وفشلت أيضاً العقوبة التي أقرها قانون حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية رقم 146 لسنة 2021، بمعاقبة مخالفي أحكام المادة 28 الخاصة بـ"حظر إلقاء أو تصريف المواد السامة أو الكيميائية أو البترولية، أو فضلات المصانع أو مياه الصرف الصحي غير المعالجة" بالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن 3 سنوات، وبغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه (3243 دولاراً) ولا تزيد عن 500 ألف جنيه (16245 دولاراً).
يؤكد الدكتور محمود عثمان، أستاذ الاستزراع السمكي بالمعمل المركزى لبحوث الثروة السمكية، أن بحيرة المنزلة من البحيرات عالية التلوث بفعل تراكم العناصر الثقيلة التي يحملها الصرف الصحي والصناعي، التي تتركز بدورها في لحوم الأسماك مما يجعل المستهلك أكثر عرضة للإصابة بأمراض الفشل الكبدي والكلوي.
يضيف عثمان: تتأقلم بعض أنواع الأسماك على نسب معينة من التلوث كالبلطي، لكن هناك أنواع أخرى لا يمكنها المقاومة أو التأقلم فتموت في النهاية، لافتا إلى أن انتشار التلوث يؤثر على التنوع البيولوجي ويؤدي إلى انقراض أنواع كثيرة من الأسماك والكائنات البحرية.
تواصلنا مع الدكتور صلاح مصيلحي رئيس جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية للرد على ما ورد في التحقيق، وقال إن الجهاز يتتبع مصادر التلوث، والتحليل الدوري لمياه البحيرة، وتقصي مواصفات صرف المصانع الواقعة على نطاق البحيرة بالتعاون مع جهات أخرى مثل جهاز شؤون البيئة ومعهد علوم البحار والمصايد والمعمل المركزي لبحوث الثروة السمكية، مشيراً إلى أنه يتم اتخاذ جميع الإجراءات القانونية تجاه أي مخالفات.
وأضاف مصيلحي: تم إنشاء محطات لتنقية المياه الواردة للبحيرة، وتكريك البواغيز (فتحات البحيرة) وفتح قنوات جديدة لزيادة نسبة ومنسوب المياه البحرية بالبحيرة، وذلك من أجل زيادة التنوع البيولوجي داخل البحيرة.
هاني ومحمد وعصام ومئات غيرهم هجروا مزراعهم السمكية، ويعملون على متن قوارب صيد وسط البحيرة، علها تجود عليهم بما يكفي لسد رمقهم هم وأولادهم أو ما استطاعوا إليه سبيلاً.
------------------------------------------------
* الأسماء الواردة في التحقيق مستعارة بناءً على رغبة أصحابها.
- أنجز هذا التحقيق بدعم منCIJ- بالتعاون مع موقع "المناخ بالعربي" ضمن زمالة الصحافة الإستقصائية للمناخ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم