خرج كريم (12 عاماً) من حمّامه منادياً أمه بعد أن توقف عن الاستحمام، لأن "البالوعة" طردت المياه، حاولت الأم استخدام أدوات التسليك ولكن دون جدوى، أخيراً تأكدت أن الخزان "الترانش" امتلأ وعليهم طلب سيارة "الشفط". طار الصغير فرحاً لأنه سيكسر القواعد ويسمح له باللهو حتى الصباح. وما إن اقتربت الساعة من الحادية عشرة مساء، حتى تعالى صوت السيارة المتهالكة وتصاعدت رائحة الكيروسين المختلطة بروائح كريهة.
هرع الصغير ورفاقه نحوها فرحين وبدأت مرحلة الاستكشاف بعدما رفعت الطبقة الأولى من الأرض حيث غطاء الخزان، وانتشرت حشرات وزواحف مختلفة الأشكال. أخذ الجميع يصرخون بفزع واستمتاع، ولم يلتفتوا للرائحة الكريهة التي غمرت الشارع الضيق الذي لا يتجاوز عرضه ثلاثة أمتار. بدأ صوت الشفط يرتفع فغطى على أصوات الحاضرين، وهو ما أثار رغبة الأطفال في الصراخ والمزيد من اللهو دون أن ينزعجوا من تلطخ ملابسهم بفضلات الخزان.
وخلال رحلة التفريغ، كان الاختيار للمكان الذي ستلقى فيه الفضلات بين قطعة أرض فارغة والترعة ومخر السيل.
بعد أن يئس السكان من شفط المياه الجوفية هجروا أراضيهم والأدوار السفلى من المنازل.
بينما ظلت الأم مع عدد من جاراتها يساعدنها في تنظيف المنزل، وعمل الأب وعدد من شباب القرية يعاونونه على تغطية فوهة الخزان باللوح الخرساني وتثبيته بالإسمنت.
غياب للخدمات
هذا الحال في قرية الإقواز مركز الصف جنوب محافظة الجيزة المصرية، حيث يرتفع منسوب مياه الصرف الصحي عن مستوى الأرض بسبب تسرب سوائل خزانات الصرف في التربة. وبعد أن يئس السكان من شفط المياه الجوفية هجروا أراضيهم والأدوار السفلى من المنازل، حتى انتشرت فيها النباتات العشوائية وسكنتها الحشرات. وهو حال لا يختلف عن كثير من القرى المصرية التي تغيب فيها حتى اليوم خدمات الصرف الصحي المناسبة التي تأخذ بعين الاعتبار المعايير الصحية والبيئية.
وعلى مدار عقود، لم تنظر الحكومة المصرية للمخاوف المتعلقة بعدم توافر الخدمات الهامة مثل شبكة الصرف الصحي في الأحياء العشوائية والقرى، باعتبارها "رفاهية" لا تستوجب الاقتطاع من ميزانية الدولة. ولكن مع الزحام السكاني والمخاوف المرتبطة بالصحة العامة والبيئة بدأ الاتجاه نحو توصيل شبكة الصرف الصحي للمناطق التي تغيب عنها.
ففي تموز/ يوليو 2021، صرح وزير الإسكان والمرافق العمرانية عاصم الجزار، حول "تخصيص ميزانية لمنظومة مياه الشرب والصرف الصحي في محافظة الجيزة بلغت 17 ملياراً و400 مليون جنيه منذ 2014 حتى 2021"، وخلال القمة العالمية لتكنولوجيا ابتكار المياه المقامة في شباط/ فبراير 2022 أشار نائب وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية لشؤون البنية الأساسية سيد اسماعيل، إلى أن مصر غطّت نحو 66% من توصيل شبكة الصرف الصحي، وتستهدف الوصول إلى 100% من خلال المبادرة الرئاسية "حياة كريمة".
وكانت الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية أشارت في اجتماع بمجلس الشيوخ في أيار/ مايو الماضي إلى أن العام المالي 2023 - 2024 يستهدف الانتهاء من 73 مشروعاً لمحطات مياه الشرب والصرف الصحي من إجمالي 650 مشروع جاري العمل بها، علاوة على 1441 محطة رفع صرف صحي، وزيادة نسبة تغطية الصرف الصحي في القرى من 20% إلى 90%.
إنقاذ عاجل
بحسب الدكتور عباس شراقي أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية في جامعة القاهرة، فإن معظم القرى المصرية لا تسمح بإمداد شبكة جيدة للصرف الصحي بسبب ضعف البنى التحتية مقارنة بتلك الموجودة في المدينة، لكن مع تكدس السكان والزحف نحو الأرض الزراعية، أصبحت الحاجة أكثر إلحاحاً بضرورة توصيل شبكة الصرف الصحي، لأن قرب المنازل من الأراضي يعني زيادة في التلوث والإضرار بالبيئة، مع تلك الخزانات التي حولت المشهد إلى حياة غير آدمية وتنذر بكوارث.
الاعتماد على "الترانشات" أو خزانات الصرف الصحي يؤدي لمشاكل أولها إلقاء الملوثات في أقرب نقطة سواء في المياه أو الأراضي، وهو ما يضر السكان الذين يستخدمون المياه للاستعمالات الشخصية أو الري، وكذلك تتأثر الكائنات على اختلافها ويختل التنوع البيولوجي
ويزيد في حديثه لرصيف22: "الكثير من القرى لم تصلها المياه أيضاً، وتعتمد على حفر الآبار الجوفية والمضخات اليدوية لاستخراج المياه، ويتم الحفر لها على عمق 10 أمتار ما يعني اختلاط المياه الجوفية بمخلفات خزانات الصرف الصحي، مع الإشارة إلى أنه لا يتم تبطين الخزان، ويتعمد أن تكون مساماته مفتوحه بفتحات كبيرة تسمح بتسريب المخلفات بهدف تقليل عدد مرات الامتلاء، ما يعني زيادة احتمالية انتشار الأمراض".
أيضاً، فإن بعض المزارعين يعتمدون على العناصر الصلبة ضمن مخلفات الصرف الصحي في تسميد الأراضي الزراعية، باعتبارها سماداً طبيعياً يعمل على نمو النباتات سريعاً وزيادة حجمها، لكن دون معالجتها بالطريقة الصحيحة، وذلك يحد من قدرة مصر على تصدير المحاصيل لأن تلك "الأسمدة" تحمل مواد ضارة بالخضروات والفاكهة وهي المحاصيل الأكثر تأثراً بالملوثات.
وشدد عباس على أن "الأزمة الآن تكمن في عدم الاعتراف بأن البنية التحتية في بعض القرى والأحياء لا تسمح بتوصيل شبكات للصرف الصحي، لذلك يتم اللجوء لحلول بديلة بتوفير سيارات شفط تابعة للبلديات المحلية ومحطات لتفريغ المخلفات".
مع ارتفاع درجات الحرارة والاختلاط بالمبيدات الزراعية ومخلفات الأدوية، تصبح هذه البقايا أشبه بقنبلة صحية.
أمراض ومشكلات بيئية
يرى الدكتور محمود عمر مؤسس المركز القومي للسموم في كلية طب القصر العيني وأستاذ الطب المهني والبيئي، أن اختلاط البقايا العضوية الناتجة عن "الترانشات" يتسبب في تلوث كيماوي ومسرطنات تستوطن في التربة، ولا تتمكن من التخلص منها خاصة مع استمرار تشبعها بها.
ومع العوامل الجوية من ارتفاع درجات الحرارة والاختلاط بالمبيدات الزراعية ومخلفات الأدوية، تصبح هذه البقايا أشبه بقنبلة صحية تهدد بأمراض على رأسها السرطانات والفشل الكلوي والالتهاب الكبدي وأمراض الجهاز الهضي والتنفسي، فضلاً عن الأمراض الجلدية والرمد.
ويضيف عمر في حديثه لرصيف22 أن المواطنين يتعاملون مع النيل والترع باعتبارها "سلة قمامة"، بينما لا تستطيع المياه العذبة تطهير نفسها، كما أن اعتماد سكان القرى على مياه الآبار الخالية من الكلور يعني أنهم يستخدمون مياهاً تحتوي بنسبة كبيرة على مخلفات عضوية.
وضمن هذا السياق يرى السكان الذين قابلهم رصيف22 في قرى الجيزة أن مشكلة انتشار الأمراض خاصة بين الأطفال وكبار السن سببها غياب منظومة الصرف الصحي وانتشار التلوث في الشوارع.
تقول رانيا جمال وهي ربة منزل ثلاثينية: "ننام على صوت سيارة الشفط، ونستيقظ على رائحة كريهة وكومة كبيرة متراكمة بين الأراضي الزراعية والمصارف، تتجمع حولها الحشرات والذباب حتى تجف تماماً". وتشير إلى أن النساء هن الأكثر معاناة، بداية من امتلاء الخزان وطفح البالوعة حتى الشفط وتناثر المخلفات، كما أن الأطفال يعانون من الرائحة والحشرات، وتنتشر الأمراض الجلدية وأمراض العيون بين الصغار خاصة في فصل الصيف، وتضيف: "أصيب صغيري بالجدري الكاذب، وطلب الطبيب نقله إلى مكان خالٍ من التلوث، بينما تعاني ابنتي الكبرى من حساسية في الجهاز التنفسي".
أما ريمون سامي (38 عاماً)، وهو موظف في محطة تحلية مياه، فيشير إلى إن "إلقاء المخلفات في مخر السيل المنتهي عند النيل كارثة صحية، وري الأراضي الزراعية بمياه ملوثة أو وصول المياه الجوفية بالملوثات للنباتات سيؤثر على المواطنين في نهاية المطاف"، وينوه لرصيف22 إلى أنه "ليس لدينا بديل عن التخلص من المخلفات في الترع والمصارف، لأن الحكومة لم توفر مكاناً مخصصاً لذلك، وهي تعلم ضمنياً مصيرها".
ووفقاً للدكتور عبد المسيح سمعان أستاذ العلوم البيئية في جامعة عين شمس، فإن الاعتماد على "الترانشات" يؤدي لمشاكل أولها إلقاء الملوثات في أقرب نقطة سواء في المياه أو الأراضي، وهو ما يضر السكان الذين يستخدمون المياه للاستعمالات الشخصية أو الري، وكذلك تتأثر الكائنات على اختلافها ويختل التنوع البيولوجي، وقد رأينا اختفاء الطيور التي تسمى صديقة الفلاح مثل أبو قردان وأبو فصادة وغيرها، وتالياً انتشار الحشرات، ما أدى بالتبعية للإفراط في استخدام المبيدات والمزيد من إفساد التربة وتلوث المحاصيل بالكيماويات".
معظم القرى المصرية لا تسمح بإمداد شبكة جيدة للصرف الصحي بسبب ضعف البنى التحتية مقارنة بتلك الموجودة في المدينة، لكن مع تكدس السكان والزحف نحو الأرض الزراعية، أصبحت الحاجة أكثر إلحاحاً
تعاون حكومي تنموي
مؤخراً بدأت الحكومة المصرية بتوصيل شبكة الصرف الصحي للمناطق الفقيرة، وهو ما أكده الدكتور ولاء جاد الكريم مدير الوحدة المركزية لمبادرة حياة كريمة، إذ يقول لرصيف22: "لدينا خطة تقتضي بالوصول إلى نسبة تغطية 100% في شبكة الصرف الصحي للقرى على مستوى 20 محافظة باستثناء المحافظات الحضرية وشمال وجنوب سيناء والبحر الأحمر، ويبلغ عددها 4500 قرية، قسمت على ثلاث مراحل، في كل مرحلة قرابة 1788 قرية، ويمتد المشروع على عامين ليتم الانتهاء منه والدخول في المرحلة التالية".
ويضيف: "نتحمل تكلفة إنشاء محطات الرفع والمعالجة والتوصيلات الرئيسية، وتتولى مؤسسات التحالف الوطني للعمل الأهلي دعم تكاليف التوصيلات الداخلية واشتراكات المواطنين من الفئات غير القادرة على تحمل هذه التكاليف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...