ثلاثون عاماً عاشتها نهال محمد (اسم مستعار)، بقناعة ثابتة حول ما قد يصيب الإنسان من أمراض، فالأمر قد يبدأ من نزلات البرد الخفيفة حتى السرطان الذي لم تجرؤ يوماً على النطق باسمه، فهو كما تردد والدتها ونساء محيطها "المرض الوحش" أو يكتفين بالقول: "الله أكبر".
غير أن نظرتها تغيّرت بعد دخولها في أزمة مرضية لم تظهر أسبابها في البداية، لتكتشف تليّفاً جزئياً في عدد من الأجهزة الحيوية في الجسم كانت بدايتها في الرئة، ونصحها طبيب بالتوجه إلى متخصص في أمراض المناعة الذاتية.
بين الإنكار والجهل بطبيعة مرضها "الساركويد"، قضت نهال الأشهر الأولى وافتقدت خلالها الدعم النفسي من الأسرة فلم يفهم أي من أفراد أسرتها ما تعانيه من فقدان قوتها الجسدية والنفسية في آن واحد ودون سابق إنذار، فقررت خوض التجربة وبدء العلاج الدوائي ومقاومة الاكتئاب ودعم أي شخص يمر بتجربة مشابهة.
ازدياد أمراض المناعة الذاتية
نشرت الغارديان البريطانية، تصريحات للعالم جيمس لي، يوضح فيها ارتفاع نسبة الإصابة بأمراض المناعة الذاتية في الغرب منذ 40 عاماً تقريباً، ومؤخراً بدأت تنتشر في الشرق الأوسط في بلاد لم تكن تعاني من هذه الأمراض من قبل.
"خرجت مُحملةً بأفكار كثيرة جميعها سلبية مفادها أنني لن أتمكن من عيش حياتي بشكل طبيعي فضلاً عن الخوف من أي خطوة أو تصرف قد يعيدانني إلى هذه التجربة مرةً أخرى"
وفي دراسة حديثة لكلية طب جامعة ستانفورد الأمريكية، حول أمراض المناعة الذاتية، توصل الباحثون إلى أن النساء أكثر عرضةً للإصابة بأمراض المناعة الذاتية من الرجال، وهو ما توصلت إليه الأبحاث السابقة حسب جمعية أمراض المناعة الذاتية الأمريكية.
أصبحت مُقيّدةً بالمرض
بعد خروجها من قفص حديدي قضت فيه 17 عاماً، ومحاولة انفصال دامت أشهر طويلة غُلّفت بالضغوط النفسية، لم تتمكن نهى من التقاط أنفاسها. لأيام قليلة اعتقدت أنها ستبدأ حياةً جديدةً بصحبة طفليها وجلّ ما قد يواجهها فيها هو البحث عن عمل تتكسب منه نفقات معيشتها. لم تكد تنتقل من بيت أسرتها إلى شقة مستقلة حتى أصيبت بغيبوبة كبدية ولم تفهم ماذا يحدث لها أو بماذا تمر.
تخيلت نهى (38 عاماً)، في بداية الأمر، أن ما أصابها حالة عرضية تنتهي بعد فترة من الوقت ولم تدرك أنها ستلازمها لبقية العمر. تقول لرصيف22، إنها اكتشف إصابتها بالمرض قبل حصولها على الطلاق بشهرين ولم تفهم حينها مدى صعوبته، فأخبرها الطبيب بأنها مُصابة بالتهاب مناعي في الكبد يُهاجم فيه الكبد نفسه، وبأن كل ما يتطلبه الأمر تناول جرعات العلاج، ولم يشرح لها مدى خطورة إهمالها لأي من الجرعات.
رفض عقلها تقبّل فكرة المرض، فكانت تنتظر الحصول على الطلاق لبدء حياة جديدة خالية من الصعاب، فرسمت صورةً ملونةً لحياة في بيت جديد وأنشطة كثيرة تشاركها مع أطفالها لتعوضهم ما عاشوه من حرمان طوال السنوات الماضية. بعد الطلاق مباشرةً، وقبل عام من اليوم، أهملت جرعة الكورتيزون دون قصد، مما تسبب في دخولها العناية المركزة لـ10 أيام. قبلها قضت أياماً في المستشفى بعيدةً عن أطفالها ما ضاعف عذابها.
تقول نهى لرصيف22، إنها عاشت فترةً مليئةً بالخوف، فكانت على وشك أن تفقد حياتها، ووجدت نفسها بين يوم وليلة في غرفة العناية المركزة. سعى إخوتها إلى التواصل مع طبيبة نفسية أرشدتهم إلى الحديث معها حتى في لحظات الغيبوبة ليمدّوها بالأمل والعودة إلى الحياة مرةً أخرى.
تصف نهى معاناتها النفسية حتى بعد عودتها إلى الحياة مرةً أخرى: "خرجت مُحملةً بأفكار كثيرة جميعها سلبية مفادها أنني لن أتمكن من عيش حياتي بشكل طبيعي فضلاً عن الخوف من أي خطوة أو تصرف قد يعيدانني إلى هذه التجربة مرةً أخرى، وتتكرر المشاهد ذاتها التي أرغب في محوها من ذاكرتي"، موضحةً أن الخوف سيطر على حياتها فالمرض ألزمها بنظام غذائي محدد وحذّرها الطبيب من المجهود البدني وهي أم لطفلين يحتاجان إليها في كل صغيرة وكبيرة.
برغم تحسن حالتها الصحية بعد التزامها بالعلاج والنظام الغذائي، لم تتمكن نهى من السيطرة على قلقها، غير أنها تبحث عن عمل يساعدها على الاستقلال بحياتها وتجنب الاعتماد على النفقة الشهرية، لكن مرضها يفرض عليها شكلاً محدداً للعمل فلا يمكنها بذل مجهود بدني كبير.
لم أعد ألبس سوى اللون الأسود
قبل 6 سنوات، وفي عمر الـ37، فوجئت هند سامي (اسم مستعار)، بآلام شديدة في البطن إثر اصطدامها بطفلتها الصغيرة في أثناء اللعب. لم تتحمل الألم فسارعت إلى إجراء فحص طبي بالسونار، ليتبين وجود مياه في جدار البطن على غير مكانها الطبيعي. خلق ذلك علامات استفهام كثيرةً لدى هند وأسرتها.
بدأت هند رحلةً جديدةً لاستكشاف ما يدور داخل جسدها، فتنقلت بين عيادة طبيب وآخر، ولازمها في خطواتها ثقل نفسي شديد. تقول لرصيف22، إن ما كان يشغلها في تلك الفترة فهم طبيعة حالتها ومدى تأثيرها على حياة طفلتيها خاصةً أنهما في سن صغيرة وفي أشد الاحتياج إليها.
برغم الدعم النفسي الذي تلقته من أسرتها ومن زوجها، إلا أن خوفها من المجهول كان أكبر من أي دعم: "حالتي النفسية في تلك الفترة كانت صفراً، لم أتمكن من السيطرة على حالة البكاء المستمرة التي لازمتني حتى قررت طبيبة أمراض المناعة إجراء عملية جراحية، وسحب عيّنة من العقد الليمفاوية لتحليلها".
كانت فترة انتظار التشخيص أصعب ما عاشته هند في المرحلة الأولى، لتبدأ المرحلة الثانية بعد اكتشاف إصابتها بمرض لم تسمع به من قبل، ولا تعرف طبيعته، يُسمّى "ساركودوز".
"حالتي النفسية في تلك الفترة كانت صفراً، لم أتمكن من السيطرة على حالة البكاء المستمرة التي لازمتني"
كغيره من أمراض المناعة، تعتمد الخطة العلاجية له على عقار الكورتيزون الذي يسبب آثاراً جانبيةً مع الجرعات الكبيرة في بداية العلاج، للسيطرة على مهاجمة أعضاء الجسد لنفسها، فيعمل على زيادة الوزن: "في الوقت ده بضطر إني ألبس تي شيرتات سوداء بس لأن كل ما حد يشوفني بيسأل إذا كنت حامل أو لا".
لم تستلم هند لوضع الصدمة الأولى، فقررت الالتزام بالعلاج والتعايش مع أعراض المرض، موضحةً لرصيف22، أن جل خوفها من عودة نشاطه مرةً أخرى فالأمراض المناعية تسلك الطريق ذاته بين الخمول وعودة النشاط.
الدعم النفسي
يرى الطبيب النفسي الدكتور أحمد السعدني، أن الضغوط النفسية تُمثل بيئةً خصبةً لنشاط أمراض المناعة الذاتية، موضحاً في حديثه إلى رصيف22، أن الجهاز المناعي يتكون من خلايا تدافع عن أجهزة الجسم ضد الأجسام الغريبة، وفي حالة التعرض للضغوط العصبية يُفرز الجسم أنواعاً محددةً من الهرمونات والناقلات العصبية أكبر من المعدل الطبيعي، ويكون لها تأثير مباشر على الخلايا المناعية، فقد تزيد من تصنيع هذه الخلايا أو تضعف التصنيع وفي أوقات أخرى تنتج أجساماً مضادةً تهاجم الجسم نفسه.
يذكر السعدني ما يُصيب الجسم في فترة الامتحانات وما فيها من ضغط عصبي، فيكون الجسم أكثر عرضةً للإصابة بنزلات البرد أو ظهور حبوب في الوجه وأعراض الإعياء، مرجعاً ذلك إلى تأثّر الجهاز المناعي بهذه الضغوط فيكون أقل قدرةً على المقاومة، وفي حالة أمراض المناعة الذاتية يحدث العكس فالضغوط تسبب خللاً يُفاقم من حدة مقاومة جهاز المناعة دون وجود أجسام غريبة تهدد الجسم.
تركيز الانتباه في شيء ما للخروج من دائرة التفكير في المرض أمر ضروري، كذلك على المريض/ ة أن يُعلن التعاطف مع ذاته ويعترف بحقيقة ما يمر به وألا يقسو على نفسه بالتفكير الزائد ويتعامل مع نفسه بالحب والود والدفء ذاته الذي يقدّمه للأشخاص المحببين إلى قلبه في حال كان أي منهم يمر بالوضع ذاته
ويضيف أن إلزام المريض/ ة بنظام غذائي محدد ومواعيد ثابتة للأدوية والحد من الحركة أو المجهود، يؤثر على الحالة النفسية، موضحاً أن البعض يواجه هذه التغييرات ويتكيف معها في محاولة لممارسة حياته بشكل أقرب إلى الطبيعي، مُرجعاً ذلك إلى طبيعة المرض وشدته ومدى تأثيره على الجسد ومدى قدرة الشخص على المقاومة النفسية.
ويحدد السعدني خطوات للوصول إلى مرحلة تقبّل الوضع الجديد لمرضى المناعة الذاتية، تتلخص في الدعم القوي من المحيطين كالعائلة والأصدقاء والتواصل مع مجموعات تعاني من الإصابات بأمراض مشابهة وسماع تجارب حول التخطي والمقاومة، وإظهار المحيطين به تفهمهم لطبيعة المرض، مضيفاً أن الشخص المصاب في حاجة إلى التخلص من إطلاق الأحكام على نفسه وتحديد ما يشعر به في كلمات واضحة.
ويشير السعدني إلى أن تركيز الانتباه في شيء ما للخروج من دائرة التفكير في المرض أمر ضروري، كذلك على المريض/ ة أن يُعلن التعاطف مع ذاته ويعترف بحقيقة ما يمر به وألا يقسو على نفسه بالتفكير الزائد ويتعامل مع نفسه بالحب والود والدفء ذاته الذي يقدّمه للأشخاص المحببين إلى قلبه في حال كان أي منهم يمر بالوضع ذاته، مشدداً على ضرورة اللجوء إلى الطب النفسي وتلقّي المساعدة اللازمة في حالة الحاجة إليها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...