فتى في سن مراهقته الأولى، بنات الجيران يعاملنه بود دوناً عن باقي أقرانه، ويتبادلن معه المذكرات الدراسية، ويسمح أهاليهن بأن يحدثهن عبر هاتف المنزل، في وقت لم يكن هذا مسموحاً به، خاصة في المناطق الشعبية، هل لأنه لم يضايقهن بكلمة مرّة، أم تفوقه الدراسي دفعهن للاطمئنان أنه ليس "قليل الأدب"، ولن يقول لإحداهن "أحبك"، تلك الكلمة التي عوقب كل من قالها في هذا السن كأنها جريمة؟
ما لم يعرفنه أنه أراد أن يقول لإحداهن فعلاً تلك الكلمة، وحلم كثيراً أن يحتفل معها بعيد الحب، ذلك اليوم الذي أشعره لأول مرة أن ثمة خطأ فيه، فجميع أصدقائه لديهم بنات يحتفلون معهن إلا هو. في النهاية غلبه خجله ولم يعترف، وظل 14 فبراير يذكره دوماً بأن ثمة شيء ينقصه.
أراد أن يقول لإحداهن فعلاً تلك الكلمة، وحلم كثيراً أن يحتفل معها بعيد الحب، ذلك اليوم الذي أشعره لأول مرة أن ثمة خطأ فيه، فجميع أصدقائه لديهم بنات يحتفلون معهن إلا هو
لا شيء يعجبني
في سنين شبابه الأولى تمرّد على كل شيء، رئيسه، ضباطه، شيوخه، وكل من صنّف الناس ووضعهم في فئات لا يخرجون منها، ردّد: "كل المفروض مرفوض" ولم يشغل باله أن بعض المفروض قد يكون جيداً، فلماذا يُرفض؟
هكذا اتخذ موقفاً عدائياً من عيد الحب نفسه، رآه نوعاً من التنميط: ماذا يعني أن نأمر الناس بالحب في ساعة بعينها، نقول لهم: ارتدوا الأحمر واشتروا الهدايا، وكل من لم يفعل يُنبذ من مجتمع العاشقين؟ أليس في ذلك مصادرة لحق الاختلاف؟ على العموم، أسعفته الحياة وقتها بحبيبة ارتضت القسمة بأن لا احتفال بعيد الحب مقابل الاحتفال بأعياد أخرى كثيرة، لكن في داخله ظل سؤال: هل رفض الفالنتاين لأنه نوع من التنميط، أم لم يستطع نسيان أنه اليوم الذي ذكّره دوماً بالوحدة، فأراد الانتقام منه بمجرّد أن وجد من تؤنس وحدته؟
"ماذا نفعل إذا كان ثمة عيد واحد للقُبلة وأعياد كثيرة للقتل. ماذا نفعل؟"
عاشق سيء الحظ
شاب في نهاية العشرينيات، حبيبته تلك المرة لا تتنازل عن الاحتفال بعيد الحب، رفضت كل الصفقات الممكنة مقابل أن تسمح له بعدم الاحتفال به، فمازال يراه نوعاً من المفروض الواجب رفضه، وتنميطاً لا يريده.
في النهاية رضخ لطلبها، ربما انتظرت مثله أن يأتي الفالنتاين وهناك من يُقدّم لها الورود الحمراء والهدية، لكن ولأنها المرة الأولى- والأخيرة حتى الآن- ولأنه احتفل به مُكرهاً، ولم يملك أي خبرة، ولأنها وضعت آمالاً كثيرة على اليوم، لم يكن الاحتفال بالقدر المطلوب، فلا الهدية أعجبتها ولا اختيار مكان الخروج أفرحها، فانقلبت الجلسة إلى "غم ولوي بوز ونكد"، وانتهت بأنها صارحته بخيبة أملها فيه، فلا هو قادر على الاحتفال كالجميع، ولا أن يحبها بالطريقة التي تريدها.
تمنّى فقط أن تصبر عليه، أن تُدرك أنه يحتاج وقتاً ليعرف أن "الحلق" هدية أفضل بكثير من كتاب "رسائل غساني كنفاني إلى غادة السمان"، لكنها رحلت وخلّفت ورائها ترسيخاً لكراهيته لـ "عيد الحب" الذي فشل في أول اختبار فيه.
تخيّل لو مليون واحد قال كلمة "بحبّك" لحبيبه في نفس الدقيقة، كام وش هيضحك، كام قلب هيفرح، وكام مشكلة هتتحل، وكام قصة؟ هيبقى اليوم ده بداية جديدة
المشاهد الثلاث السابقة لم تكن سوى قصتي الشخصية مع عيد الحب، الذي طبّق علي قاعدة أحمد عدوية: "وجينا نمشي قالولنا نقعد.. وجينا نقعد شدوا الكراسي!"، فتارة أنتظر هذا اليوم ولا يجيء، وتارة أخرى ينتظرني هو فأعرض عنه من باب التمرّد، والمرة اليتيمة التي احتفلت به كنت مرغماً، وردّ لي هو الصاع بأن حوّله لذكرى سيئة.
رغم ذلك، فبعد تجاوزي لسن الثلاثين، أدركت أن بعض التمرّد نوع من الطفولية وحب الاختلاف الزائف لا أكثر، ماذا فعل لي الفالنتاين لأعاديه كل هذا العداء؟ ومن فُجري في الخصومة، برّرت بأني أكره التنميط والإجبار وما إلى ذلك من "مصطلحات مثقفين"، لكن الحقيقة أنني كنت أداري فشلي لا أكثر، تماماً كالطالب الذي يسقط في الامتحان فيؤكد أن العيب في الأسئلة لأنها صعبة.
والآن، ورغم عدم احتفالي بهِ (وربنا ما يقطعلنا عادة) صرت أفرح بالرابع عشر من فبراير، وبكل ما يحدث فيه من تفاصيل صغيرة، بالعاشقين الذين يملأون المتنزهات والميادين، باللون الأحمر الذي يغلب على ملابسهم، بالهدايا في أياديهم ونظرة الخجل التي تملأهم حين ينظر لهم الباقون كأنهم متلبسون بجريمة العشق.
الحقيقة، إنهم يتولون مهمة مواجهة قُبح هذا العالم بكلمة "أحبك" التي يقولونها في هذا اليوم، وحين استضافني أحد الإعلاميين منذ أيام لتسجيل حلقة معي عن عيد الحب ورأيي في الذين يرفضونه، قلت له: "بما أنه عيد عالمي، تخيّل لو مليون واحد قال كلمة بحبك لحبيبه في نفس الدقيقة، كام وش هيضحك، كام قلب هيفرح، وكام مشكلة هتتحل، وكام قصة؟ هيبقى اليوم ده بداية جديدة. أعتقد كل دي حاجات حلوة، أعتقد محتاجين يبقى أعياد كتير للحب"، وختمت حديثي بمقولة العظيم رياض الصالح حسين: "ماذا نفعل إذا كان ثمة عيد واحد للقُبلة وأعياد كثيرة للقتل. ماذا نفعل؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين