في مجموعتها القصصية "فهرس الملوك" للكاتبة ليلى عبد الله، والصادرة عن دار مرايا للنشر، مخاطرة ولعبة ذكية. فمن الاسم يمكن تخمين ما يتحدث عنه الموضوع: السلطة، فهرس للملوك بتنويعاتهم كما خبرناها لقرون في وطننا العربي، كسلطة مركزية قاهرة مستبدة، ترى في نفسها القطب الوحيد، بينما الشعب مجرد لاحقة تدور في فلكه. ولأنها ظاهرة قديمة، فتفكيكها ونقدها أيضاً قديمان، لكن اللعبة الذكية التي تلعبها ليلى هنا، هي الشكل الذي تخيرته، شكل القصص الشعبية، الأمثولة وحواديت الجنيات والجدات، أي حكي يلامس الطفولة، إذ إن الطفولة في جوهرها هي رد الأمور إلى البداهة الأولى، والتي تصير أصعب على الإدراك مع تراكم طبقات ذلك الإدراك، الطفولة هي تعرية الاعتياد وتوليد الدهشة، أليست الأمثولة الأشهر التي تخص الملوك، هي أمثولة الطفل الذي امتلك من الشجاعة أن يقول إن "الملك عار"، في قصة "ملابس الإمبراطور الجديدة" التي كتبها الدنماركي هانز كريستيان أندرسون عام 1837؟
قال الشاعر...
هذا ما تفعله ليلى عبد الله بالضبط، عبر ذلك الشكل، يرتد إلينا سؤال الملك، كسؤال ضروري، مُلح، ما دامت سلطته المستبدة بكل أشكالها وتنويعاتها حاضرة كجرح في خاصرة أوطاننا. فإعادة مساءلة سلطته، والسخرية منها، لتبيان هشاشتها وفضح تناقضاتها، تظل واجباً في عنق كل جيل من الأدباء.
في مجموعتها القصصية "فهرس الملوك" لليلى عبد الله، مخاطرة ولعبة ذكية. فمن الاسم يمكن تخمين ما يتحدث عنه الموضوع: السلطة، فهرس للملوك بتنويعاتهم كما خبرناها لقرون في وطننا العربي، ترى في نفسها القطب الوحيد، بينما الشعب مجرد لاحقة تدور في فلكه.
ومن الافتتاحية التي تسبق القصص، تحدد ليلى، المعركة بين اثنين، ليس بين ملك وشعب، بل بين ملك وفنان، تضعهما الكاتبة كطرفي نقيض، كقطبين متعارضين لا يلتقيان، إذ لا فن حقيقي في حضرة السلطة، من وجهة نظر ليلى، حيث موقع الفنان لا عن يمين الملك أو يساره، ليس حليفاً أو معارضاً ناصحاً، بل عدو.
لذا تفتح المجموعة بأبيات الشاعر الكردي لطيف هملت:
أمَر الملك باعتقال البحر
فصار البحر غيماً
أمر الملك باعتقال المطر
فصار البحر فيضاناً
الملك أمر باعتقال الفيضان
فالتهمه السيل بأسنانه الحادة.
ثم تختار أمثولة يتبارز فيها ملك وشاعر باللغة، التي هي ميدان الشاعر، فتكون له الغلبة ولو في حلبة الكلمات.
داء الملوك
ليست الرواية فهرسا بأسماء الملوك، بل بصفاتهم التي تتخطى الزمان والمكان، وتجمعهم أكثر مما تميز بينهم، لأن السلطة المطلقة واحدة في جوهرها، تكتسب الشيء نفسه مع الزمن: الزيف، القهر، الذي يخبئ رجلاً خائفاً وضعيفاً خلف الأسوار، كلما تعاظم خوفه وضعفه وشكه فيمن حوله، وكلما تعاظم بطشه.
ليست الرواية فهرساً بأسماء الملوك، بل بصفاتهم التي تتخطى الزمان والمكان، وتجمعهم أكثر مما تميز بينهم، لأن السلطة المطلقة واحدة في جوهرها
في القصة الأولى "ذوّاق الملك" يتبادل رجل من عامة الشعب والملك الأدوار، فحين يخشى الملك أكل الطعام بسبب خوفه من أن يُسمّم، تٌعرض التجربة على رجل لديه حلم واحد: أن يموت بداء الملوك، وإذ هو يبدأ بتذوق الأطعمة، ينتهي بأكل كميات ضخمة منها مع ازدياد خشية الملك، حد أنه يتحول هو إلى ذواق، لا يضع من الطعام في جوفه إلا ما يقيم وأده، يجرب الملك معنى طعام الفقر الذي يطعمه لشعبه، بينما الخيرات الفائضة متراكمة ومحجوزة في قصره لا تعرف الطريق خارجه.
الانعكاس في الزيف
في القصتين الثانية والثالثة: عن تمثال الملك ورسّامه، تضع الكاتبة الأساس الثاني للسلطة، إذ هي تستند لصورة زائفة مصنّعة، تكاد أن تعبد، لأنها قائمة على الغموض والمسافة، لكن حقيقتها ضعف ووهن. فكّر في أي مستبد، كستالين على سبيل المثال: لم تكن صورة ستالين المألوفة في التاريخ والعالقة في الأذهان، صورته الحقيقية، بل صورة الممثل ميخائيل غيلوفاني، الذي سمح له بلعب دور واحد طوال مسيرته السينمائية وهو دور ستالين، وكان ستالين نفسه يؤمن عندما يرى ذلك الممثل، أنه يطابق تلك الصورة الموجودة على الشاشة، لكن في الحقيقة هو أقصر منه، ووجهه يحمل آثار إصابة بالجدري.
الفكرة نفسها في القصة الرائعة: "نفايات الشعب" عن الزي الملكي المصنوع من نفايات الشعب، لكنها تحمل معنى أعمق ينكشف، فزي الملك مصنوع مما ليس له من الأساس.
تتقاطع ليلى مع تراث ألف ليلة وليلة في أكثر من موضع، لكن أهمها هي التقاطع مع قصة النائم اليقظان، التي أصبحت ثيمة عالمية في قصتها "الملك المزيف"، وهي الحكاية التي وردت في الليلة الثالثة والخمسين بعد المائة
كذلك تتقاطع ليلى مع تراث ألف ليلة وليلة في أكثر من موضع، لكن أهمها هي التقاطع مع قصة النائم اليقظان، التي أصبحت ثيمة عالمية في قصتها "الملك المزيف"، وهي الحكاية التي وردت في الليلة الثالثة والخمسين بعد المائة في ألف ليلة وليلة.
تحكي حكاية "النائم اليقظان" عن رجل يدعى أبو الحسن كان يعاني تقلبات الحياة والفقر، ويرى أنه لو كان الخليفة ولو ليوم واحد، فسيحسن الأوضاع، يسمعه هارون الرشيد الخليفة الحقيقي، ويحقق له أمنيته عن طريق إعطائه مخدراً ليفيق منه، وقد وجد نفسه هو الخليفة، بعد الكثير من المفارقات لا ينجح أبو الحسن في تغيير الأوضاع كما ظن، لكنه على الأقل حقق حلمه، ولو ليوم واحد.
ألهمت تلك الثيمة، كشأن أغلب قصص ألف ليلة وليلة، نصوصاً عالمية، لكن أفضل من استخدم تلك الثيمة عربياً، ووسع من حدود معناها هو المسرحي السوري البارز، سعد الله ونوس، في النص المسرحي "الملك هو الملك"، ليأخذ معناها إلى ما هو أبعد، إلا أن الأزمة في كرسي الملك نفسه لا طبيعته الشخصية.
وكذلك تتناص ليلى في قصتها "وريثة العرش" مع قصة الملك لير الذي قرر توزيع ملكه على حياة عينه، لكنه استبعد الاِبنة الأكثر صدقاً، لكن تلك المرة تكون الاِبنة المستبعدة هي الحكاية، لنتذكر ما يربط تلك القصص. الملك والفنان بين طرفي نقيض، وفي تبادل للأدوار، تبادل كاشف للمواقع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...