لن تستطيع معي صبراً
فجأة تحولت الجلسة التي كان يفترض أن تكون دردشة عن سينما الخيال العلمي، إلى ما يشبه ندوة عن كوارث الفهم الخاطئ للنصوص الدينية مصحوبة بفاصل من الحديث عن الحتمية التاريخية التي لا ترتبط بأشخاص بعينهم. كان كل ذلك قد بدأ، حين قال لي صديقي المهووس بثيمة السفر عبر الزمن، إنه كتب قصة سينمائية خيالية، يتمنى أن تثمر في المستقبل عن حل ناجع لأبرز مشاكل مصر، وحين لم أفهم العلاقة بين قصته المستمدة من ثيمة السفر عبر الزمن وبين حل مشاكل مصر، زاد الأمر غموضاً، وأخذ يحدثني عن قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر عليهما السلام، حين فوجئ به موسى يقتل غلاماً، ولما غضب موسى من فعلته، قال له الخضر إنه بقتل الغلام يدرأ ضرراً كبيراً عن أبويه وأهله المؤمنين، يهون إلى جواره ضرر قتل الغلام. ولم أفهم سر تلك المقدمة الطويلة التي تدخلت مراراً لإجباره على اختصارها، إلا حين سمعت قصة الفيلم التي تتمحور حول عالم مهموم بأحوال مصر، قرر بعد طول تأمل اختراع آلة للسفر عبر الزمن، ليقوم بقتل طفلين، الأول اسمه حسن البنا والثاني اسمه جمال عبد الناصر.
هواجس
كان ينظر في عينَي كل من عزّاه في وفاة أبيه، إلا أنا، تحاشى النظر في عينيّ تماماً. تأكدت من ذلك وأنا أراقب أداءه مع القادمين لتعزيته، والذين لم يكن أغلبهم مثلي وثيقي الصلة به، أو قديمي العهد بصداقته، لكنني لم أجد ذلك غريباً على أية حال، فلم يكن بالتأكيد قد قال لهؤلاء ما اعترف به لي في لحظات صفاء، عن أنه أحياناً يخشى أن يموت قبل أبيه، فلا يتمكن من كتابة قصتهما الغريبة والمعقدة في رواية ملحمية، كان يقسم أنها ستكون أفضل من كل ما نكتبه، بل ومن كل ما كتب في تاريخ الأدب قاطبة عن علاقات الآباء بأبنائهم.
كانت قصته مع أبيه فريدة من نوعها بالفعل، لكنني كنت متأكداً أنه سيفشل في كتابتها على الوجه الأمثل، بسبب تورطه العاطفي فيها أكثر من اللازم، ولأنه بحكم تكوينه لن يكون قادراً على أخذ مسافة مما جرى له على يد أبيه قبل أن يحكي، ولذلك لن يكون هناك لرواية قصتهما أصلح مني، لكن ذلك لن يحدث مع الأسف، إلا إذا مات هو قبلي.
مواءمات
لم يكن الموقف جديداً على فضيلة الوزير، كان قد اختبره من قبل خلال مواقعه الوظيفية المتدرجة في وزارة الأوقاف، لكنه كان متفرداً عما سبقه من المواقف التي عايشها أو سمع بها. في العادة كان النظام يطلب من مؤسساته الدينية أن تركز على فضائل السلام إن دعت الحاجة، أو على أهمية شراء سندات الجهاد إن لزم الأمر، أو أن تؤكد على بُعد فوائد البنوك عن الحرمانيّة، أو تحذر من مخاطر كثرة الإنجاب، لذلك كان من الغريب عليه أن يجد نفسه في قصر الرئاسة مدعواً لاجتماع شديد السرية مع الإمام الأكبر ومفتي الديار، طلب فيه الرئيس منهم الجلوس مع ابنته الوحيدة التي حاولت الانتحار أكثر من مرة، بعد أن أجبرتها الأسرة على العودة إلى زوجها السكير، وإقناعها بأن لفظ الطلاق الذي يخرج منه وهو سكران لا يُعتدّ به، منبهاً بعد قليل من الحرج إلى أن توازنات القوى لم تسمح بمساندتها أو بتأديب زوجها الذي لا زالت المرحلة تحتاج إلى نفوذ أبيه.
كانت قصته مع أبيه فريدة من نوعها بالفعل، لكنني كنت متأكداً أنه سيفشل في كتابتها على الوجه الأمثل، بسبب تورطه العاطفي فيها أكثر من اللازم... لذلك لن يكون هناك لرواية قصتهما أصلح مني، لكن ذلك لن يحدث مع الأسف، إلا إذا مات هو قبلي
بعكس زميليه الأكبر سناً ومقاماً، كان فضيلته الأقل ارتباكاً والأكثر تجاوباً مع اللقاء، واعتبره دليلاً على ثقة رئاسية كبيرة، قد توصله يوماً ما إلى مقعد الإمام الأكبر، الذي حلم به أبوه قديماً حين ألحقه بالتعليم الأزهري، ولأنه كان يدرك خطورة أن يتسرب شيء مما دار في اللقاء، فقد كان كل ما يشغله الآن، ألا يشك مساعدوه في شيء حين يصدر لهم قراراً بضرورة التركيز في خطب الجمعة القادمة في عموم البلاد، على تحريم المسكرات والتأكيد على بطلان طلاق السكران، خصوصاً لو تساءل أحد الفلاحيس منهم، عما إذا كان من الأولى التركيز على التحذير من المخدرات وبطلان طلاق المساطيل والمبرشمين الذين تمتلئ بهم البلاد.
خارطة طريق
بالتأكيد سينتصر الحق على الباطل يوماً ما، ليس عندي أدنى شك في ذلك. ذات يوم سينتحر الباطل بعد أن يصاب بنوبة اكتئاب حادة، لأنه لم يعد في الحياة جديد، ولأن لعبة انتصاره على الحق لم تعد مسلية البتة، عندها فقط سيجد الحق نفسه وقد انتصر لأن خصمه انسحب، وأنصار الحق ستغمرهم الفرحة في البداية، ثم عندما يكتشفون الحقيقة، ستبوخ فرحتهم وتتحول إلى حزن حقيقي سيجعلهم يبصقون في وجه الحق ويقولون له "إنت بتسمي ده انتصار يامعفن"، والحق سيكتئب حينها اكتئاباً عنيفاً حاداً، يشبه اكتئاب الممثل ابراهيم يسري في الجزء الثاني من "المال والبنون"، وسيتمنى الموت مليون مرة فلا يأتيه الموت، وسيفكر الحق ملياً في الانتحار لكن ما سيمنعه كل مرة مخافته أن يقول الناس عنه بعد موته "الله يلعنه عاش مهزوماً ومات كافراً".
اختلاف مواقع
استغربت انفعاله الشديد في موضوع لم أكن أراه يستحق كل ذلك الحماس، كنا نزجي وقت جلستنا بتجاذب أطراف الهموم، وساقنا مجرى الحديث إلى مصير الطائرة الألمانية المنكوبة التي قرر مساعد طيارها المكتئب، أن يصحب ركابها في رحلة اضطرارية إلى العالم الآخر، فحكيت للأصدقاء عن فيلم أرجنتيني اسمه "حكايات برية"، يحكي مشهده الافتتاحي عن قائد طائرة جمع كل من ضايقوه طيلة حياته في رحلة واحدة، واقتحم بها منزل والديه الذين جعلاه يعيش طفولة قاسية، وتساءلت عما إذا كان مساعد قائد الطيارة الألمانية قد شاهد ذلك الفيلم قبل فعلته الشنعاء.
ذات يوم سينتحر الباطل بعد أن يصاب بنوبة اكتئاب حادة، لأنه لم يعد في الحياة جديد... وأنصار الحق ستغمرهم الفرحة في البداية، ثم عندما يكتشفون الحقيقة، ستبوخ فرحتهم وتتحول إلى حزن حقيقي سيجعلهم يبصقون في وجه الحق ويقولون له "إنت بتسمي ده انتصار يامعفن؟"
ويبدو أن ما قلته جاء على الجرح للشاب الذي كان يحضر جلستنا لأول مرة بعد أن صحبه صديق مشترك إليها، فأخذ يطالبنا بأن نثير في وسائل الإعلام أهمية قيام مصر بالكشف على الاتزان النفسي والعقلي لكل طواقم قيادة الطائرات القادمة إليها، وأن تشترط على شركات الطيران معاونتها في إثبات ذلك، وإلا تم منعها من دخول المجال الجوي فوراً، وحين قال أحدنا مازحاً إن على مصر أن تثبت الاتزان النفسي والعقلي لحكامها أولاً، قبل أن تطلب من العالم ذلك، انفجر فيه الشاب، معتبراً كلامه هزلاً في موضوع الجد، وقبل أن نوشك على التلبيخ فيه، كشف لنا الصديق الذي أحضره، أنه يمتلك سبباً وجيهاً للانفعال، فهو يرى من شرفة منزله كل يوم عشرات الطائرات تهبط على مدرج مطار القاهرة، ولك أن تتخيل كيف سيكون شكل حياتك، لو قضيت نهارات فراغك وليالي إجازاتك، في التساؤل القلِق عن الصحة العقلية والاتزان النفسي، لكل قائد طيارة توشك على الهبوط فوق رأسك.
أرزاق
قال جلال الدين الرومي لمعلمه شمس الدين التبريزي، بعد أن أعطاه أمان الشيخ لمريده: "يا شيخي بالله عليك، لقد آلمت محاشمي العبارة الأخيرة التي أمليتها عليّ وذلك من فرط تفاهتها وضحالتها، وإني لأربأ بها أن تدوّن منسوبة إليك، فهل تأذن لي أن أمحوها وأنساها كأني لم أسمعها من قبل؟" فأشرق وجه الشيخ شمس الدين التبريزي بضحكة وضاءة وقال: "ويحك يا جلال الدين، تالله لو منحك الله نور البصيرة لرأيت هذه العبارة التي تراها تافهة، وهي تطوف صفحات شيء سيدعونه يوما الفيس بوك، ليتوالى عليها الاستحسان الذي سيعبرون عنه يومها بالأصابع، ولوددت حينها من فرط ندمك، لو نفذت فيك كل تلك الأصابع، قبل أن تعيب في عبارة قالها شيخك، ولأدركت أن الدنيا أقدام وبخوت، فإن أقبلت باض الحمام على الوتد، وإن أدبرت بال الحمار على الأسد، اكتب يا جلال وأنت ساكت، فكل حاجة ولها زبونها".
فانتازيا
قال لي غاضباً إنه لم يفهم البتة لماذا رفضوا نشر روايته، مع أنه كتب في أول صفحاتها أنها فانتازيا من وحي الخيال، وحين سألته عن مضمونها لخصها قائلاً بحماس شديد: "كل ما هنالك أنني تخيلت ظهور النفط في جزيرة العرب، وقت صراع أولاد علي وأولاد معاوية، متصوراً أن انضمام الفريقين إلى منظمة تشبه الأوبك وقتذاك، سيمنع وقوع مذبحة كربلاء، وسيعطي الطرفين فرصة للاستفادة من ارتفاع أسعار النفط، ليعم الخير على الجميع"، وحين أخذ يكرر استغرابه مما لقيه من معاملة غير لائقة، كأنه ارتكب جريمة، ظللت أتأمل وجهه لأدرك هل يتحدث جاداً أم أنه يسوق العبط، ثم التزمت الصمت مكتفياً باستحضار تلك الشخرة الشهيرة، التي سبقت عبارة "إنت عبيط يا رمزي".
فيلم عربي قديم
في قلب خشبة المسرح يجلس الجنرال ببدلته الكاكي، يمسك الريموت بيده اليمنى مقلّباً بعدم اكتراث في شاشات التلفزيون التي تمتلئ بصوره التي يحملها متظاهرون يسبحون بحمده ويستحلفونه أن ينقذ البلد ويحكمها إلى الأبد، ويمسك بيده اليسرى نبّوتاً غريب الشكل يتضخم حجمه كلما امتلأت الشوارع بمؤيديه، ومن طرف المسرح يخرج شيخ عجوز ما إن يصل إلى مقدمة الخشبة حتى يتضح لرواد المسرح أنه نجيب محفوظ بجلالة قدره، وحين يصفق له الجميع يضحك ضحكته المجلجلة الشهيرة، ثم يقول للمشاهدين: "وهكذا يا سادة يا كرام وجدت الحارة فتوتها الجديد وانتشت به وعلقت عليه آمالها وأحلامها، في حين قرر الزمان أن يأخذ غفوة هرباً من الضجر فقد شاهد كل هذا من قبل، وقبل أن يأوي إلى مخدعه، نظر الزمان إلى التاريخ المجبر على اليقظة لكي يدون ما يراه حتى وإن كان قد سبق له مشاهدته مراراً وتكراراً، وقال له: "أنا داخل أنام، والنبي يا شيخ تصحيني أول ما يكفروا بيه".
جزء من مجموعتي القصصية الخامسة (السيرك المصري) والتي تصدر هذا العام بإذن الله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع