النبيذ في العالم... من جورجيا إلى الصين واليونان
يقول الكاتب الأمريكي ويليام بوروز في أحد كتاباته إن "الأفيون هو مخدر الصينين، والكحول مخدر الغربيين، والحشيش يعتبر مخدر المسلمين". لكن الحقيقة هي أن تاريخ شرب النبيذ في إيران ومصر أقدم بكثير من الحضارة الأوروبية.
أقدم نبيذ عثر عليه علماء الآثار يعود إلى إيران وجورجيا، حيث اكتُشفت جرار مخصصة لصنع النبيذ في منطقتين أثريتين جنوب مدينة تبليسي عاصمة جورجيا، يخمن عمرها نحو 8000 عام. هذه الجرار الفخارية الملطخة ببقايا النبيذ منقوش عليها صور عناقيد العنب ورجال يرقصون. قبل ذلك كانت تعتبر إيران أول منطقة أنتج فيها النبيذ من العنب، نظراً للجرار المكتشفة فيها والتي يصل عمرها لسبعة آلاف عام.
في حين أن أول دليل على شرب النبيذ في فرنسا يعود إلى 500 عام قبل الميلاد فحسب. كان الإيرانيون يشربون ويصنعون النبيذ على سفوح جبال زاگْرُس بمنطقة تل "الحاج فيروز" شمال غرب إيران، حيث اكتُشفت جرار لصنع النبيذ يعود تاريخها إلى 5400 حتى 5000 سنة قبل ميلاد المسيح.
يقول الكاتب الأمريكي ويليام بوروز في أحد كتاباته إن "الأفيون هو مخدر الصينين، والكحول مخدر الغربيين، والحشيش يعتبر مخدر المسلمين". لكن الحقيقة هي أن تاريخ شرب النبيذ في إيران ومصر أقدم بكثير من الحضارة الأوروبية
ويعتقد علماء الآثار أن شرب الكحول في تلك المنطقة من إيران، على عكس أماكن كمصر القديمة، لم يكن امتيازاً خاصاً للأثرياء فحسب، بل كان بإمكان جميع الرجال والنساء شرب النبيذ. لكن تاريخ الكحول أقدم من تاريخ نبيذ العنب، حيث تم اكتشاف أقدم مشروب كحولي تم تحضيره حوالى سبعة آلاف عام قبل الميلاد، من مواد أخرى غير العنب في الصين، إذ كانت تُصنع هذه المشروبات من الأرز والفواكه والعسل.
وكان للنبيذ في اليونان القديمة أهمية كبيرة وعلاقة بينه وبين الشهوة، حيث أن إله الخمر والشهوة ديونيسوس، كان يحمل دائماً في الأساطير اليونانية، كأساً من النبيذ لا ينفد كلّما شرب منه. وفي طقوس سنوية كانت تقام على شرف ديونيسوس في اليونان، كان الناس يجتمعون في الأراضي الزراعية، ويضحون بالماعز ويغنون الأغاني المخصصة، ثم يقطعون الماعز إلى قطع وينثرون لحمها على الأرض، معتقدين أن ديونيسوس يُخصّب الأرض تكريماً للقرابين هذه.
وفي الإمبراطورية الرومانية، وبتغيير أسماء الأساطير، أصبح ديونيسوس الإله باخوس، ولكن بعد ذلك بقليل، سن مجلس الشيوخ الروماني القديم قوانين ضد عبادة هذا الإله الصاخب، الذي اشتهر بالفسق والإباحية. وفي عام 186 قبل الميلاد، حَظر مجلس الشيوخ عبادة ديونيسوس أو باخوس، حيث اعتقدوا أنه لا يتسبب إلا بالإفراط في الفسق والفساد، وتشجيع الطبقات الدنيا من المجتمع على التآمر ضد المسؤولين الحكوميين.
النبيذ في إيران
تشير النصوص الفارسية القديمة إلى أن النبيذ اكتشف أو صنع على يد الملك الأسطوري الإيراني جَمشيد. وهو أحد الملوك الأسطوريين الذين وردت أسماؤهم في كتاب "الأفيستا" والكتب البهلوية. أما طريقة صنع الخمر فقد وردت في النصوص البهلوية وتحديداً في "مختارات زادسيبرم" (بالفارسية: گُزیده های زادسِپَرم)" كالتالي: "ولما خُلقت البقرة الواحدة، نبت من كل عضو لها ثمرة، ومن دمِها وُلد ’ابن الخمر’ (بالفارسية: كودك مِي)".
وفي الثقافة الإيرانية كان يطلق على النبيذ اسم "نوش آبه" أي "مشروب الحياة"، وكلمة نوش تعني "الخلود"، لذلك استخدموها عند شرب الخمر بمعنى أن يصبح شارب الخمر خالداً. ولهذا السبب اعتبرت كرمة العنب شجرة الحياة في إيران القديمة.
كتب الفيلسوف والطبيب والعالم الإيراني بورسينا (1037-980م)، في مدح الخمر: "إنه ينشط النفس ويقويها ويطهرها". كما مدح الخمر في قصيدة له: "فحَلّ الخمر بفتوى العقل للعاقل/وحُرّمَ بفتوى الشرع على الجاهل".
وفي أقدم نص ديني إيراني أي كتاب الأفيستا الزرادُشتي، لا يأتي ذكر لنبيذ العنب أو ما شابه. ومع ذلك، فإن شرب الخمر غير محظور في هذا الكتاب أو أي من الكتب الدينية الزرادشتية، وكان من المعتاد بين الزرادشتيين وضعُ جرة من النبيذ عند ولادة كل طفل وشربهافي حفل زفافه فقط.
ويقول بعض الباحثين إنه في الماضي، كان الإيرانيون القدماء يمدون مائدة "الهفت شين" (سبعة شينات، أي سبعة أشياء تبدأ بحرف الشين)، للاحتفال برأس السنة الإيرانية الجديدة، وكانت هذه المائدة تتكون من: الحليب (شير) والنبيذ (شراب) والسكر (شكر) والعسل (شهد) والشموع (شمع) وخشب البقس (شِمشاد) والفواكه (شايه). ولكن بعد الإسلام، وبسبب تحريم شرب الخمر، تحولت الهفت شين إلى "هفت سين" (سبعة سينات)، وحل الخلُّ (سِركه) محل الخمر.
وفي التقاليد الإيرانية، يشرب الزرادشتيون الخمر في ثلاثة كؤوس فحسب، وتعود هذه الكؤوس الثلاثة إلى الرقم ثلاثة المقدس في الديانة الزرادشتية، والذي يشير إلى المبادئ الثلاثة الأساسية في هذه الديانة وهي: "الفكر الجيد" و"الكلمة الطيبة" و"العمل الصالح". وبحسب بحث للعالم الألماني بيتر هاينه، في العصور الوسطى وفي معظم مدن إيران، تم إنشاء مراكز لبيع وشراء النبيذ بجوار الحانات، وكان الناس يشربون النبيذ مع الطعام أو بعد تناوله، كما يعتقد هاينه أنه بسبب التقليد الطويل لشرب الخمر في إيران والدول العربية، لم يتمكن الإسلام من إيقافه.
وبرغم أن الإسلام حَرّم شرب الخمر في إيران، لكن لم يتمكن من وضع حد لإنتاج النبيذ وشربه بين الإيرانيين/ات. وبداية الحكومة الشيعية الصفوية (1501 – 1736)، زامنت ذروة ازدهار النبيذ في إيران، ولذلك حظرت هذه الحكومة شرب النبيذ وصنعه. ومع ذلك، على الرغم من حظر شرب الكحول في إيران في عهد الشاه طهماسب والشاه عباس الصفويَين، إلا أنه بعد مرور بعض الوقت، رفعت الحكومة الحظر المفروض على الكحول، لأن شاربي الكحول اتجهوا نحو تعاطي الأفيون.
في الثقافة الإيرانية كان يطلق على النبيذ اسم "نوش آبِه" أي "مشروب الحياة" وكلمة نوش تعني "الخلود"، لذلك استخدموها عند شرب الخمر بمعنى أن يصبح شارب الخمر خالداً
وعلى عكس الغربيين الذين استخدموا البراميل الخشبية لتخزين النبيذ، تم استخدام الجرار والأوعية والخزانات الطينية الأخرى في إيران لتخزين النبيذ وصناعته.
نبيذ فرعون الأحمر
كان الفرعون الشاب توت عنخ آمون، مفتوناً بالنبيذ الأحمر، حيث في مصر القديمة، كان النبيذ يعتبر مشروباً فاخراً للصفوة، وكانت زجاجاته تحتوي على معلومات حول النبيذ، مثل: سنة الحصاد، والمصدر، وحتى اسم صاحب الكرم الذي يتم الحصول على النبيذ منه، تماماً كتقليد إنتاج النبيذ الفرنسي في عصرنا الحالي. ولم يكن لون النبيذ المكتشف في مقبرة توت عنخ آمون معروفاً حتى اليوم.
دُفن توت عنخ آمون كغيره من فراعنة مصر، مع جميع المتعلقات والمُؤَن التي يحتاجها في الحياته القادمة، وذلك بناءً على معتقدات المصريين القدماء، إذ أراد المصريون أن يحمل موتاهم نفس الأطعمة والممتلكات التي كانت لديهم في حياتهم إلى ما بعد الموت، وتضمنت الأغراض التي دُفنت مع توت عنخ آمون عدة جرار نبيذ مع تفاصيل إنتاجها، وقد نقشت هذه المعلومة على براميل النبيذ، كالتالي: "عمرها خمس سنوات، نبيذ بلاط توت عنخ آمون حاكم الجنوب نهر المغرب، من تاجر النبيذ الكبير ’خا’".
وجفّت محتويات هذه الجرار خلال آلاف السنين من وقت وضعِها في المقبرة، وعندما اكتشفت ونقلت إلى المتحف البريطاني بلندن ومن ثم المتحف المصري، أدرك علماء الآثار حقيقة أن النبيذ الذي شربه المصريون القدماء ربما كان أحمر اللون، لأنه في اللوحات الموجودة على جدران المقابر، كان لون العنب المستخدم في صنع النبيذ هو الأحمر الأرجواني.
من توت عنخ آمون والملك الإيراني جَمشيد وإله الخمر اليوناني وملوك الصين إلى الطبقات الفقيرة في المجتمعات القديمة، ومن السياسيين والملوك والمشاهير إلى أبسط الأشخاص العاديين في عصرنا هذا، يبقى النبيذ وتبقى المشروبات الكحولية، ضمن أكثر المشروبات شعبية في العالم، وربما أهم سبب شرب هذا المشروب المُرّ، هو نسيان مرارة الحياة وظروفها الصعبة حتى لو لساعة واحدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 6 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت