يتحدث ويليام بوروز، في أحد فصول روايته الشهيرة وأبرز أعماله "الغداء العاري"، عن شخصيتين تُدعيان "كليم وجودي" (Clem and Jody)، يخططان لسرقة الحجر الأسود من مكة بطائرة هليكوبتر.
وربما يرى القارئ الذي ليست لديه معرفة عميقة ببوروز، أن هذه المؤامرة سببها السعر الأسطوري لهذا الحجر، أو يربطها بالشخصية السياسية لهاتين الشخصيتين في الرواية حيث يتظاهران بأنهما أمريكيان، لكن من المحتمل أنهما جاسوسان روسيان، يعملان على تشويه سمعة الأمريكيين لدى المسلمين.
الحجر الأسود هو حجر موضع إجلال عند المسلمين، مكوّن من أجزاء عدة، بيضاوي الشكل، أسود اللون مائل إلى الحمرة، وقطره 30 سم، موجود في الركن الجنوبي الشرقي للكعبة من الخارج. وفقاً للعقيدة الإسلامية، هو نقطة بداية الطواف ومنتهاه، ويرتفع عن الأرض متراً ونصف متر، وهو محاط بإطار من الفضة الخالصة صوناً له، ويظهر مكان الحجر بيضاويّاً.
أصبح كريم آغا خان، إمام الإسماعيلية النزارية عام 1957، في سن العشرين تقريباً، أي قبل عامين فقط من نشر رواية "الغداء العاري"، وفي الوقت نفسه الذي كان فيه ويليام بوروز يقيم في باريس في "فندق بيت"، الذي كان يُعرف بـ"ألموت باريس"
في كتاب "الكافي"، الذي يُعدّ من أهم كتب الحديث عند الشيعة وأوثقها، وهو من تأليف الفقيه الشيعي محمد بن يعقوب الكليني، حديث عن الإمام الخامس للشيعة محمد الباقر، يفيد بأن هذا الحجر نزل من السماء، وأن النبي إبراهيم وأصحابه وابنه إسماعيل وجدوه، واستخدمه النبي في بناء الكعبة. في المقابل، تعدّ بعض الأبحاث العلمية العلمانية أن هذا الحجر هو عبارة عن نيزك سقط على الأرض، كما يُعدّه البعض بقيةً من حمم براكانية كانت فعالةً في شبه الجزيرة العربية. لكن لا يختلف أحد على القيمة المادية والتاريخية والدينية لهذا الحجر.
وبالعودة إلى مؤامرة سرقة "الحجر الأسود" في رواية ويليام بوروز: ماذا يمكن أن يُضاف إلى تلك الرواية بالنسبة للقارئ؟
1- أبو طاهر الجنابي ونهب مكة
ويليام سيوارد بوروز (1914-1997)، كاتب أمريكي، يُعرف بأنه رائد الحركة الثقافية المضادة في الولايات المتحدة الأمريكية، ويُعدّ من الكتّاب الأكثر إثارةً للجدل في الأدب الحديث، كما أن مؤلفاته ما بعد الحداثوية كان لها الأثر الكبير على الثقافة والأدب سواء في بلاده وخارجها.
ينتمي بوروز إلى "جيل البِيْت"(بالإنجليزية: Beat Generation)، جيل الحركة الأدبية التي ازدهرت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، وأطلقت أفكارها المعارضة للأدب السائد والرسمي. البوهيمية، والاهتمام بالديانات الشرقية، ونقد النظام الاقتصادي الحديث بشكل ساخر، والتحرر الجنسي، من أهم مبادئ "جيل البيت". تأثر بها من بين الكتاب والشعراء العرب، الشاعر العراقي سركون بولص، وترجم أعمالاً لشعرائها من الإنكليزية إلى العربية.
في أيلول/سبتمبر 1951، قام ويليام بوروز، الذي كان مدمناً على المخدرات معظم حياته، بوضع كأس على رأس زوجته، جوان فولمر، في حفل في مكسيكو سيتي، وأطلق بوروز النار نحو الهدف، وجاءت الرصاصة في رأس زوجته بدلاً من الكأس، وتوفيت فولمر على الفور. وفي هذه الأثناء هرب بوروز إلى مدينة طنجة المغربية، وتسبب وجوده هناك بتعرّفه على الإسلام.
كانت إقامة بوروز الطويلة في طنجة في المغرب، المدينة التي كتب فيها أجزاءً مهمةً من روايته "الغداء العاري" المثيرة للجدل، هي بداية تعرّف هذا الكاتب بالإسلام، واليوم نعلم أن بوروز كانت لديه معرفة واسعة بالإسلام، إذ قرأ أعمال المستشرقين العظماء مثل هنري كاربوني، ومع معرفته بالتاريخ الإسلامي، خلق قصة شخصين يريدان سرقة الحجر الأسود من الكعبة بجوانب تاريخية جديدة.
قبل أكثر من ألف عام من نشر رواية بوروز، هجم بعض الناس على الكعبة، وسرقوا الحجر الأسود، وليس بالمروحية، بل بالخيول. وبحسب المؤرخ العراقي علي بن حسين المسعودي (896-957)، فإن أبا طاهر الجنابي القرمطي (906-944)، هاجم مكة بنيّة سرقة الحجر الأسود.
يقول المسعودي في كتاب "التنبيه والإشراف": "ثم سار الجنابي إلى مكة فدخلها يوم الإثنين لسبع خلون من ذي الحجة من هذه السنة (317 هـ)، في ستمئة فارس وتسعمئة راجل، وأميرها يومئذ محمد بن إسماعيل المعروف بابن مخلب، بعد أن كان من بها من الأولياء وغيرهم من عوام الناس من الحاج وغيرهم، صافوه ثم انكشفوا من بين يديه عند قتل نطيف غلام ابن حاج. وكان من شحنة مكة وممن يعوّل عليه وأخذ الناس السيف وعاذوا بالمسجد والبيت.
يتحدث ويليام بوروز، في أحد فصول روايته الشهيرة وأبرز أعماله "الغداء العاري"، عن شخصيتين تُدعيان "كليم وجودي" (Clem and Jody)، يخططان لسرقة الحجر الأسود من مكة بطائرة هليكوبتر.
فاستحرّ القتل فيهم وعمّهم. وقد تنوزع في عدة من قتل من الناس من أهل البلد وغيرهم من سائر الأمصار فمُكثر ومُقلل، فمنهم من يقول ثلاثين ألفاً ومنهم من يقول دون ذلك وأكثر. وكل ذلك ظنّ وحسبان إذ كان لا يضبط وهلك في بطون الأودية ورؤوس الجبال والبراري عطشاً وضرّاً ما لا يدركه الإحصاء واقتلع باب البيت الحرام.
وكان مصفحاً بالذهب وأخذ جميع ما كان من البيت من المحاريب الفضة والجزع وغيره ومعاليق وما يزين به البيت من مناصق ذهب وأنازيرات ذهب وفضة وقلع الحجر الأسود ومقدار موضعه ما يدخل فيه اليد إلى أقل من المرفق... وخرج من مكة".
ولكن من هم القرامطة الذين هاجموا مكة بقيادة أبي طاهر الجنابي المعروف بأبي طاهر القرمطي؟
كان القرامطة مجموعةً من الشيعة الإسماعيليين الإيرانيين، الذين انتفضوا بشكل واسع في المناطق الجنوبية من العراق ضد الخلافة العربية، وتحدّوا سلطة الحكومة العباسية وأنشأوا حكومتهم (899-1067)، وكان مركزها إقليم "الإحساء" في البحرين. أما الإسماعيليون فهم جماعة من الشيعة، آمنوا بإمامة إسماعيل بن جعفر وذريته بعد استشهاد مؤسس المذهب الشيعي الإمام جعفر الصادق.
عدّ ويليام بوروز نفسه حسن الصباح في الأدب والعالم الحديث، ولكن على عكس الصباح، الذي كان شخصاً متشدداً ومتديّناً، وربما لم يكن يسعد برؤية بوروز، كان من الممكن أن يتفق القرامطة مع بوروز، لأنهم ألغوا عملياً جميع القوانين الشريعة، وركزوا فقط على تعزيز العدالة الاجتماعية.
2- مؤسس الخلافة الفاطمية عبيد الله المهدي: "ردّوا الحجر الأسود!"
وبما أن القرامطة اعتبروا أنفسهم إسماعيليون وشيعة، وقد قبلوا بعبيد الله المهدي إمامهم، فبعد نهب مكة رووا قصة الحادث لإمامهم (909-934) وهو مؤسس الخلافة الفاطمية، وهي سلالة الخلافة الشيعية العظيمة الوحيدة في تاريخ الإسلام، حيث كانت شيعيةً إسماعيليةً، يعود نسبه إلى السيدة فاطمة بنت نبي الإسلام. ومن المؤرخين المسلمين، فقد قبل البعض مثل ابن خلدون وابن الأثير هذا النسب، بينما ينفيه مؤرخون آخرون مثل ابن خلكان والسيوطي.
خرج عبيد الله المهدي، من أرض حمص في مدينة السالمية ضد الخليفة ثم لجأ إلى المغرب، لكنه بعد فترة غادره وذهب إلى سجلماسة، حيث نجح أخيراً في تشكيل الخلافة الفاطمية، وقبل عامين من وفاته، امتدت خلافته من المغرب إلى مصر وتونس.
ولما علم عبيد الله المهدي بغزوة مكة وسرقة الحجر الأسود، كتب إلى أبي طاهر القرمطي في رسالة شديدة اللهجة: "لقد فوجئت بالرسالة التي كتبتها لي، والتي تمنّ فيها عليّ بارتكابك جرائم ضد حرم الله وجيرانه باسمنا، في الأماكن التي لم تسِل فيها الدماء منذ الجاهلية حتى الآن، حيث إهانة أهلها أمر مُحرَّم، ثم تطاولت أكثر فحفرت الحجر الأسود الذي يُعدّ يمين الله على الأرض، وبهذا كله توقعت منا أن نشكرك، لا شكر لك بل لعنة الله عليك ...".
لا أحد يعرف ما إذا كان بوروز يعلم خلال الفترة التي عاشها في باريس أن خليفة حسن الصبّاح كان يعيش بجواره في أوروبا. أم أن كلاهما تخرجا من جامعة هارفارد، وإن كان بفارق عشرين سنة؟ ماذا عن كريم آغا خان؟ هل قرأ رواية "الغداء العاري"، وهل يعلم أن الكاتب الأمريكي الأكثر إثارةً للجدل على مرّ العصور، كانت له علاقة وثيقة بالإسماعيلية وألموت وحسن الصبّاح؟
وفي هذه الرسالة يطلب الإمام الفاطمي من أبي طاهر القرمطي أن يعيد الحجر الأسود إلى بيت الله، لكن أبا طاهر لا يقبل. وهكذا بقي الحجر الأسود في البحرين اثنين وعشرين عاماً، وخلال هذه الفترة حاول القطبان السياسيان في العالم الإسلامي، وهما الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في إفريقيا، إجبار القرامطة على إعادة الحجر الأسود، حتى أنه من المعروف أن خلفاء الإسلام العباسيين والفاطميين عرضوا على القرامطة ما يصل إلى خمسين ألف دينار لإعادة الحجر، لكن القرامطة كانوا يرفضون.
وبعد سبع سنوات من وفاة أبي طاهر القرمطي، الذي توفي عن عمر يناهز الثامنة والثلاثين، أُعيد الحجر الأسود إلى مكة سنة 339 هـ، وكان شقيق أبي طاهر وخليفته قد أمر بإعادة الحجر الأسود إلى الكعبة، وكتب في رسالة: "أخذنا الحجر الأسود بناءً على طلب شخص ما، وأعدناه بناءً على طلب الشخص نفسه"، وفي بعض المصادر الأخرى وردت هذه الجملة كما يلي: "أخذناه بقدرة اللّه، ورددناه بمشیئة اللّه".
3- ويليام بوروز وآغا خان
وتستمر إمامة الإسماعيليين حتى يومنا هذا. وبعد توقف طويل في تنفيذ مهمتهم الدينية علناً، اجتمع الإسماعيليون النزاريون أخيراً في القرن التاسع عشر حول إمامة الإمام الإسماعيلي. وفي القرن التاسع عشر، حصل حسن علي شاه (1881-1804)، الذي ادّعى إمامة الإسماعيلية (الطائفة النزارية)، على لقب "آغا خان" من ملك إيران آنذاك.
سعى حسن علي شاه، من خلال تأسيس سلالة الآغا خاني، إلى خلق الوحدة والتماسك مرةً أخرى في المجتمع الإسماعيلي المسلم. الزعيم الحالي لطائفة الآغا خاني النزارية هو كريم الحسيني (وُلد في 22 كانون الأول/ديسمبر 1935، في جنيف)، والمعروف أيضاً باسم الآغا خان الرابع.
أصبح كريم آغا خان، إمام الإسماعيلية النزارية عام 1957، في سن العشرين تقريباً، أي قبل عامين فقط من نشر رواية "الغداء العاري"، وفي الوقت نفسه الذي كان فيه ويليام بوروز يقيم في باريس في "فندق بيت"، الذي كان يُعرف بـ"ألموت باريس".
درس بوروز وكريم آغا خان في جامعة هارفرد، ومما لا شك فيه أن معرفة بوروز بالإسماعيلية كانت أكثر مما يُعتقد. لكن لا أحد يعرف ما إذا كان بوروز يعلم خلال الفترة التي عاشها في باريس أن خليفة حسن الصبّاح كان يعيش بجواره في أوروبا. أم أن كلاهما تخرجا من جامعة هارفارد، وإن كان بفارق عشرين سنة؟ ماذا عن كريم آغا خان؟ هل قرأ رواية "الغداء العاري"، وهل يعلم أن الكاتب الأمريكي الأكثر إثارةً للجدل على مرّ العصور، كانت له علاقة وثيقة بالإسماعيلية وألموت وحسن الصبّاح؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...