شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
حين اعتقل الأخُ أخاه لحماية الثورة… قصة الأخوين المتصارعَين، علي ومحمد نجيب

حين اعتقل الأخُ أخاه لحماية الثورة… قصة الأخوين المتصارعَين، علي ومحمد نجيب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الاثنين 12 فبراير 202402:29 م

شهدت ليلة 23 تموز/يوليو 1952 واقعةً فريدةً في تاريخ مصر، بعدما واجه اللواء محمد نجيب، زعيم التمرّد العسكري حينها، شقيقَه الأصغر اللواء علي نجيب الذي كان مكلفاً من القصر بوأد هذه الحركة فور العلم بها.

وصل الخلاف السياسي بين الشقيقين إلى ذروته في تلك الليلة، برغم انتمائهما إلى الجيش ونيلهما في صفوفه أعلى المناصب؛ فاللواء محمد نجيب كان ناقماً على الملكية مُعارضاً لها، أما اللواء علي فيراها أمراً واقعاً يجب التماهي معه وعدم محاولة تغييره بأي شكل.

حظي الشقيقان بنشأة منحتهما خبراتٍ حياتيةً وعسكريةً متشابهةً، فكل منهما كوّن علاقةَ صداقة بعددٍ كبير من أقطاب السياسة السودانية، خاصةً اللواء علي الذي عمل سكرتيراً للحاكم العسكري السوداني لمدة 10 سنوات، لذا اعتاد النقراشي باشا استشارة الأخوين نجيب في الأمور المتعلقة بالسودان، حسب ما كشف محمد نجيب في كتابه "كنتُ رئيساً لمصر".

أيضاً تمتّع الشقيقان بكفاءة كبيرة مكّنت كل واحدٍ منهما من شقِّ طريقه داخل الجيش بمعزلٍ عن الآخر. وبرغم الخلاف السياسي الكبير بينهما، إلا أنهما عُرفا بالانضباط والتفوق العسكري، فقال عنهما وحيد رمضان في كتابه "فصول من ثورة 23 يوليو": "كان اللواء محمد نجيب وأخوه اللواء علي نجيب، من بين أشهر ضباط الجيش في إصابة الهدف بالبندقية والمسدس".

بطل حريق القاهرة

يذكر جمال الشرقاوي في كتابه "حريق القاهرة" أنه لما اندلع حريق القاهرة في 26 كانون الثاني/يناير 1952، قاد اللواء علي نجيب قوات الجيش التي نزلت للسيطرة على القاهرة، بعدما عجزت قوات الشرطة عن احتواء التظاهرات والحرائق المنتشرة في كل مكان.

شهدت ليلة 23 تموز/يوليو 1952، واقعةً فريدةً في تاريخ مصر، بعدما واجه اللواء محمد نجيب، زعيم التمرّد العسكري حينها، شقيقه الأصغر اللواء علي نجيب الذي كان مكلفاً من القصر بوأد هذه الحركة فور العلم بها

خطّط اللواء علي نجيب لاحتواء التظاهرات بأي شكل حتى لو تطلّب ذلك إطلاق النار بشكلٍ مباشر على المتظاهرين ومشعلي الحرائق.

وبحسب كتاب "حريق القاهرة" للدكتور محمد أنيس، فقد نجحت قوات نجيب في السيطرة على الأوضاع، ومكّنت رجال المطافئ من القيام بعملهم في إطفاء المباني المشتعلة، ومنذ انتشار قوات الجيش لم ينجح المتظاهرون في إشعال أي مبنى جديد باستثناء محاولة فاشلة لإحراق فندق "مينا هاوس"، منعها جنود الجيش في الحال.

بعد السيطرة على الحريق، أثيرت قضية تجمّع عدد كبير من الضباط في مأدبة أقامها الملك فاروق احتفاءً بهم في وقت اشتعال النار في مباني القاهرة نفسه. خلال تحقيقات النيابة، اعترف اللواء علي نجيب بأن عدد ضباط الجيش الذين حضروا مأدبة الملك فاروق بلغ 500 ضابط.

برغم إخلاص اللواء علي الكبير للعرش العلوي، إلا أن نشاطات شقيقه الأكبر "المريبة" دفعت البوليس السياسي للشكِّ في اللواء علي نفسه، فجاء في أحد التقارير التي جرى نشرها بعد قيام الثورة: "اللواء علي نجيب قائد قسم القاهرة شقيق اللواء محمد نجيب مدير المشاة يسيطر على ضباط حامية قسم القاهرة كلها وعددهم 1،500 ضابط، وطبعاً مطلوب من الشقيق مساعدة شقيقه".

لكن يبدو أن هذه التقارير لم تنل ثقة أحد، وظلَّ اللواء علي وفياً للملك وموضع ثقته يكلّفه بأصعب المهام حتى في آخر أيام الحكم الملكي في مصر، ومن ضمنها التصدّي لنفوذ شقيقه المتنامي في الجيش.

في كانون الثاني/يناير 1952، خاض الضباط الأحرار انتخابات مجلس الضباط بقائمة تحدّت مرشحي الملك، على رأسها اللواء محمد نجيب، واكتسح مرشحو "الضباط الأحرار" الانتخابات وهو الأمر الذي أشعل غضب الملك.

في منتصف تموز/يوليو 1952، أصدرت هيئة أركان حرب الجيش قراراً بحل مجلس إدارة نادي الضباط الذي يقوده محمد نجيب، وتعيين شقيقه علي بدلاً منه، كأحد أشكال الترضية لمحمد وضمان عدم اعتراضه عليه.

بعد صدور القرار فوجئ البكباشي إبراهيم حافظ عاطف، سكرتير النادي، باللواء علي نجيب يذهب إلى مقر النادي مصطحباً مجموعةً من كبار الضباط وأخطروه بأنهم حضروا لاستلام النادي بأوامر من "جهة عليا".

اعترض البكباشي عاطف، على حل مجلس الإدارة، ورفض تسليم النادي إلى جهة لم يجرِ انتخابها عن طريق الجمعية العمومية لجميع الضباط، وطال النقاش بين عاطف ونجيب ولم يصلا إلى حل، فقرّر اللواء نجيب الرحيل وأجّل تسلّم مبنى النادي.

في اليوم التالي، تلقّى إبراهيم حافظ مكالمةً من اللواء محمد نجيب أخطره فيها بضرورة الالتزام بالأوامر الصادرة وتسليم مقرّ النادي لشقيقه. خلال اجتماعٍ دار بين علي نجيب وإبراهيم حافظ، أكّد له الأول أن "الموقف ما هو إلا عاصفة يجب أن نميل معها حتى لا ننكسر، وبعد أن تمرّ العاصفة يُمكن استعادة الموقف".

وفي 18 تموز/يوليو 1952، تولّى علي إدارة النادي بدلاً من شقيقه، ولعبت هذه الخطوة دوراً كبيراً في قرار الضباط الأحرار بسرعة التحرك وقلب الطاولة على فاروق، قبل أن يتخذ ضدهم المزيد من الإجراءات القمعية. بعدها بـ5 أيام فقط، ستندلع الثورة بقيادة محمد نجيب، والتي سيكون أول المكلّفين بالإجهاز عليها شقيقه علي!

اعتقال اللواء نجيب باسم اللواء نجيب

بحسب ما أورده جمال حمّاد، في كتابه "22 يوليو: أطول يوم في تاريخ مصر"، فإن الفريق حسين فريد، رئيس أركان حرب الجيش المصري، وصلته أول أنباء وقوع تحركات في بعض وحدات الجيش للانقلاب على النظام الملكي في التاسعة والنصف مساءً، فارتدى ملابسه العسكرية وهرع إلى مكتبة في مبنى رئاسة الجيش في كوبري القبة.

ووفقاً لما أورده حماد، فإن الفريق حسين امتلك ساعتين ثمينتين كان يُمكنه خلالهما التحرك بسرعة والسيطرة على المعسكرات التي لم يكن الضباط الأحرار قد نجحوا في تحريكها بعد، لكنه لم يفعل ذلك وأضاع وقته في لقاءاتٍ مع عددٍ من القادة على رأسهم اللواء علي نجيب، قائد قسم القاهرة الذي كان فريد متأكداً من أن شقيقه اللواء محمد سيكون على رأس هذا التمرد.

 حينما توفي محمد نجيب عام 1984، كان شقيقه في لندن، فطلب من السُلطات تأجيل الجنازة يوماً واحداً حتى يتمكن من العودة وحضورها، إلا أن طلبه لم يُوافَق عليه بعدما قرّر حسني مبارك حضور الجنازة مع كبار مسؤولي الدولة.

طلب الفريق حسين من اللواء علي الاتصال بشقيقه في منزله، فأجابه وتحدّث معه لتنطلي على الرجلين الخدعة التي توقّعها محمد نجيب، وآثر بسببها البقاء في المنزل خلال أحداث الثورة لكيلا يلفت الأنظار إليه تاركاً المجال لباقي الضباط بالقيام بباقي مهامهم في السيطرة على وحدات الجيش.

حكى محمد نجيب جانباً من هذا الموقف خلال حديثه إلى أحمد حمروش، في كتابه "شهود ثورة يوليو"، قائلاً: "عند منتصف الليل تقريباً، اتّصل بي شقيقي علي نجيب وأبلغني أن بعض ضباط البوليس قد أبلغوا عن تحركات للجيش فنفيت له علمي بشيء".

هذا الموقف المحيّر عبّر عنه الكاتب إبراهيم عيسى في روايته "كل الشهور يوليو"، حين تخيّل مشاعر محمد نجيب المركبة في هذه اللحظة بالذات، فكتب: "لو كان جمال عبد الناصر قد تحرّك فربما يكون قد اعتقل شقيقه، ولو كان فشل فربما يكون شقيقه من اعتقل جمال ورفاقه، هل سيُفاجأ بأخيه داخلاً عليه ليعتقله بعد قليل؟!".

وقع السيناريو الأول بعدما نجح ضباط الثورة في اعتقال اللواء علي مبكراً، وكانت إحدى الخطوات الكبيرة التي ساهمت في إنجاح الثورة، فبعد مُكالمة شقيقه له علِم محمد نجيب بنبأ اجتماع كبار القادة في وزارة الحربية، فخمّن أن عدم دعوته إليه تعني شك القصر والحكومة في أنه يقود التمرد المزعوم، فسارع إلى إبلاغ عبد الحكيم عامر بنبأ هذا الاجتماع وطالب بسرعة التحرك والقبض على المجتمعين في الوزارة.

قال خالد محيي الدين، عضو الضباط الاحرار في مذكراته "والآن أتكلم": "كانت عدم دعوة محمد نجيب إلى المؤتمر مفيدةً جداً لنا، وكان نجيب صاحب فكرة الإسراع في اعتقال القادة المجتمعين بكوبري القبة في أثناء خروجهم لشلِّ سيطرتهم وإفشال أية خطة للتحرك المعاكس".

بعد انتهاء اجتماعه مع رئيس أركان الجيش، أجرى اللواء علي نجيب جولةً على معسكرات الجيش في القاهرة، بدأها بمعسكر العباسية ثم معسكر سلاح الفرسان في كوبري القبة، فلم يلحظ شيئاً غير عادي فاستكمل جولته إلى معسكرات المدفعية في ألماظة.

حينما وصل اللواء علي، إلى معسكر المدفعية، كان المقدّم مصطفى راغب أحد الضباط الأحرار قد نجح لتوّه في السيطرة على المعسكر، وبعدما دخل اللواء علي بقليل فوجئ بالضابط كمال الدين حسين، يرفع مسدسه ناحيته ويقول له: "باسم اللواء محمد نجيب، أنتَ معتقل".

بحسب حمّاد، خاض اللواء علي محادثةً طويلةً وهادئةً مع الضباط، حاول فيها أن يقنعهم بخطورة ما يفعلونه وأن تمردهم سيدفع الإنكليز لمعاودة احتلال القاهرة والإسكندرية مثلما فعلوا بعد ثورة عرابي. أنهى الضباط هذا الجدال الطويل بأنهم سيقودونه إلى شقيقه اللواء محمد، قائد الحركة ليناقشه في ما يشاء.

بعدما ركب اللواء علي مع الضباط، اكتشف أنهم خدعوه فقادوه إلى أحد المكاتب وسجنوه داخله فصاح فيهم: "أهم حاجة في الضابط كلمة الشرف بتاعته"، فردّ عليه المقدم عبد المنعم أمين قائلاً: "الحرب خدعة يا سيادة اللواء".

السفير علي نجيب

بعد الثورة، عقد مجلس الضباط اجتماعاً لبحث تعيين سفير جديد لمصر في سوريا التي كان الضابط أديب الشيشكلي قد وصل إلى الحُكم فيها عبر انقلاب عسكري أخضع له دمشق بين عامي 1953 و1954. بسبب طبيعة الحُكم العسكري في سوريا، قرّر الضباط اختيار ضابط كبير ليمثّل مصر هناك، وبعد مناقشات مطوّلة استقرّ الرأي على تعيين علي نجيب، سفيراً لمصر في دمشق.

يحكي محمد نجيب في مذكراته: "تصورتُ أن هذا الاختيار سيفتح النار عليّ، لكن هذا لم يحدث، فلا أحد حاول الطعن في كفاءة علي نجيب".

بحسب عبد العظيم رمضان في كتابه "قضايا في تاريخ مصر المعاصر"، فإن مجلس الثورة اتّبع هذا الأسلوب للتخلُّص من كبار الضباط لتسهل لهم السيطرة على الجيش؛ فعيّن رشاد مهنا وزيراً للمواصلات، واللواء محمد سيف الدين سفيراً في الأردن، واللواء على نجيب سفيراً في سوريا.

بعد الانقلاب على محمد نجيب وإزاحته من منصبه وتحديد إقامته، انقطعت أخبار شقيقه تاريخياً إلى حدٍّ كبير، وعلى الأغلب فإنه لم يستمر في منصبه الدبلوماسي كثيراً، وأُبعد منه دون أن يتولّى منصباً آخر

أصبح نجيب وسيف الدين أول عسكريين يشغلان منصباً دبلوماسياً، وهو ما شكّل بداية الزحف العسكري على وزارة الخارجية، حتى أنه عام 1962 كان جميع السفراء في أوروبا -إلا ثلاثة- من العسكريين، فيما بلغت نسبتهم من إجمالي الدبلوماسيين 51%. وفي عام 1965، بلغت نسبتهم 68%، حسب ما أوضح كتاب "مصر من الثورة إلى النكسة"، الذي أعدّه باحثو مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية.

خلال عمل اللواء نجيب في سوريا، وقعت اشتباكات بين أهالي قرية فلامية الفلسطينية التي تبعد كيلومترين فقط عن خط الهدنة الذي رُسم بعد حرب 1948، وتصدّر اللواء على نجيب الصُحف بعد إشادته بمجاهدي فلامية، ونضالهم ضد الإسرائيليين، وهو التصريح الذي أثار انتباه أمين الحسيني مفتي القدس، فحرص على لقاء السفير نجيب خلال زيارته إلى دمشق عام 1953، وناقشا معاً تفاصيل جهاد أهالي فلامية ضد القوات اليهودية، حسب ما ذُكر في كتاب "حقائق عن قضية فلسطين".

النهاية المجهولة

بعد الانقلاب على محمد نجيب وإزاحته من منصبه وتحديد إقامته، انقطعت أخبار شقيقه تاريخياً إلى حدٍّ كبير، وعلى الأغلب فإنه لم يستمر في منصبه الدبلوماسي كثيراً، وأُبعد منه دون أن يتولّى منصباً آخر، لأن المرات القليلة التي أتت فيها على ذِكره كُتب التاريخ اكتفت بوصفه بأنه "سفير مصر السابق في سوريا".

في مذكراته، حكى الرئيس نجيب أنه كان يبعث بالرسائل إلى شقيقه من محبسه دون أن يوضح لنا طبيعة هذه الرسائل أو أحوال شقيقه وقتها، وما إذا كانت مقصلة التنكيل قد طالته هو الآخر أو لا.

وحسب ما ذكر السفير رياض سامي في كتابه "شاهدٌ على مصر الرئيس محمد نجيب"، فإنه حينما توفي محمد نجيب عام 1984، كان شقيقه في لندن، فطلب من السُلطات تأجيل الجنازة يوماً واحداً حتى يتمكن من العودة وحضورها، إلا أن طلبه لم يُوافَق عليه بعدما قرّر الرئيس المصري حسني مبارك حضور الجنازة على رأس وفدٍ من كبار مسؤولي الدولة.

بعدها بعامين توفي اللواء علي نجيب، وهذه المرة لم يحضر مبارك بنفسه وإنما أوفد رؤوف عابدين أمين رئاسة الجمهورية للتعزية، ونُشر الخبر في زاوية صغيرة في الصُحُف.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard