شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"قضية الدشم"… حين اتُّهم عثمان أحمد عثمان بالتجسس لصالح إسرائيل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

السبت 27 يناير 202401:43 م

في منتصف 1969، فوجئ رجل الأعمال المصري الشهير عثمان أحمد عثمان، برجال المخابرات المصرية يداهمون مكتبه، ويلقون القبض عليه!

خلال طريقه إلى مبنى المخابرات، ظلَّ رأس عثمان يعمل بلا هوادة ليعرف سبب القبض عليه؛ صحيح أن علاقته بالنظام الناصري لم تكن في أفضل أحوالها بعدما أمّم عبد الناصر شركته "المقاولين العرب"، لكن الوضع لم يكن سيئاً تماماً بعدما ساهم عثمان في جهود بناء السد العالي، ونال ثقة أركان النظام، وعلى رأسهم المشير عامر وصديقه صلاح نصر.

في هذه الآونة، عاشت مصر زلزالاً سياسياً بعد الهزيمة العسكرية التي تعرّض لها الجيش في سيناء، ما سمح لجمال عبد الناصر بإزاحة جميع رجال المشير عامر من مناصبهم، وعلى رأسهم صلاح نصر، مدير المخابرات وتولية أمين هويدي بدلاً منه.

في عهد هويدي، جرى القبض على عثمان، وسُجن في مبنى المخابرات، واتُّهم بالتجسس لصالح إسرائيل!

معارك الطائرات الجديدة

بعد النكسة، بدأ الجيش المصري عملية إعادة بناء واسعة لقواته ومنشآتها الحربية، وعلى رأسها المطارات التي تعرضت لقصفٍ مركّز في ساحات الحرب الأولى، قضى على فعاليتها دون أن تساهم في القتال.

قال أمين هويدي، في كتابه "الفرص الضائعة"، إن إسرائيل كانت تريد معرفة سمك خرسانة الأسقف والأخباب واتساع البوابات والمادة التي صُنعت منها الممرات، لذا بذلت جهوداً مخابراتيةً مضنيةً للوصول إلى تلك المعلومات.

في سبيل تحقيق هذا الغرض، تمكّن الموساد من اختراق شركة "المقاولين العرب"، ونجح في الحصول على بعض خرائط الدشم التي كانت تنفّذها الشركة، وكان مفترضاً أن تُحفظ في سرّية مطلقة داخل خزائنها.

ظلَّ رأس عثمان يعمل بلا هوادة ليعرف سبب القبض عليه؛ صحيح أن علاقته بالنظام الناصري لم تكن في أفضل أحوالها بعدما أمّم عبد الناصر شركته "المقاولين العرب"، لكن الوضع لم يكن سيئاً تماماً بعدما ساهم عثمان في جهود بناء السد العالي، ونال ثقة أركان النظام، وعلى رأسهم المشير عامر وصديقه صلاح نصر

يقول عبد الله إمام، في كتابه "عامر وبرلنتي"، إن المخابرات المصرية شدّدت على جميع الشركات التي تولّت بناء منشآت عسكرية بعدم الإفصاح عن مكوناتها لأي سبب، وإمعاناً في السرّية حملت كل خريطة رقماً سرّياً ثُقب فيها ووقّع على استلامها المهندس عثمان بنفسه، وفور العثور على الخريطة المشفّرة مع عملاء الموساد كان الشك في المقاول المصري الأشهر، مبرراً في نظر رجال المخابرات المصرية.

رصدت المخابرات هذه العملية، ونجحت في القبض على أبطالها جميعاً، وكان منهم بهجت يوسف حمدان، أحد المصريين المقيمين في ألمانيا، وهو ابن شقيقة عثمان. عقب القبض عليه، اعترف أمام المخابرات بأن خاله هو من سرّب له الخرائط، ما أثار ريبة المخابرات في المقاول الشهير، فأمرت بالقبض على عثمان، وإيداعه في السجن.

وأضاف سعيد الجزائري، في كتابه "المخابرات والعالم"، أن بهجت حمدان وُلد عام 1932 في مدينة الإسماعيلية، وأنه انتقل إلى القاهرة لاستكمال دراسته الثانوية، وبعدما فشل في الالتحاق بأيٍّ من كليات الهندسة في مصر، أرسله والده إلى ألمانيا الغربية لاستكمال دراسته هناك.

ويضيف الجزائري، أن بهجت خلال وجوده في ألمانيا تزوّج بفتاة ألمانية تُدعى أنجرد شوالم، وبعدما عاد إلى مصر عُيّن في ما كان يُسمّى حينها بـ"الهيئة العامة لمشروع الخمس سنوات".

العمل الحكومي لم يرُق كثيراً لبهجت، فرحل عن مصر إلى لبنان ومنها إلى فرنسا، وهناك نجحت المخابرات الإسرائيلية في تجنيده، والعمل على إعادة زرعه في مصر عبر بوابة رجال الأعمال، وتحت هذا الستار عاد إلى مصر وافتتح مكتباً قدّمه للناس على أنه فرع لإحدى شركاته في ألمانيا.

وضعت المخابرات نظرها عليه، بعدما اكتشفت أن جميع العناوين التي يروّج أنه يعيش فيها في مدينتَي فرانكفورت ودوسلدورف، عناوين وهمية. ونفذت عمليةً سريعةً للقبض عليه كشفت امتلاكه خرائط لدُشم الطائرات وقواعد الصواريخ مخبأةً في إحدى حقائبه.

كشفت التحقيقات أن إسرائيل نجحت في تجنيد بهجت، منذ عام 1962، لتزويدها بمعلومات عن الجيش المصري، واعترف بهجت بأن زوجته الألمانية كانت تتشاجر معه بسبب تعاونه مع الموساد، مؤكدةً أنها لا تتخيل أن يعمل مواطن ضد بلده!

بحسب إمام، فإن بهجت اعترف بأنه حصل على هذه الخريطة من عثمان أحمد عثمان شخصياً، إلا أنه بعدها عدل عن اعترافه، وأقرّ بأن مصدر التسريب هو مهندس يعمل في الشركة، اسمه محمد متولي مندور، الذي أقنعه بهجت بضرورة تزويده بإحدى هذه الخرائط بدعوى أنه إذا اقتنع بكفاءته سيعاونه على العمل في ألمانيا.

جيش "المقاولين العرب"

في مذكراته، كشف المهندس عثمان أحمد عثمان، أن شركته اكتسبت خبرةً هائلةً خلال تنفيذ السد العالي، بعدما باتت قادرةً على إنجاز المنشآت الضخمة في وقتٍ سريع، لذا أوكلت إليها الدولة مهمة بناء حائط الصواريخ لمنع الطائرات الإسرائيلية من اختراق العمق المصري، وكذا حظائر الطائرات التي قرّرت القيادة المصرية بناءها لحماية مقاتلاتها من أي غارة إسرائيلية مستقبلية.

أكّد عثمان أن "المقاولين العرب"، نجحت في بناء المطلوب خلال وقتٍ قياسي حتى باتت واحدةً من الشركات المتخصصة في مثل هذا النوع من الإنشاءات العسكرية ليس في مصر وحدها، بل في المنطقة العربية أيضاً.

جرت هذه الإنشاءات في وقتٍ لم تتورّع فيه إسرائيل عن قصف مواقع العمل لمنع استكمال البناء، ما أسفر عن استشهاد عدد كبير من كوادر "المقاولين العرب" حتى أنه في يومٍ واحد قُتل 500 فرد في غارة إسرائيلية.

وخلال تعليقه على مجريات هذه القضية، ألمح في مذكراته إلى أنها ملفقة، فكتب: "نظام الحكم السابق في مصر وقف ضدّي، بعدما ألقى القبض عليّ بتُهمة أنني عميل لإسرائيل في وقتٍ كان تفكيري فيه مشدوداً إلى جبهة القتال، لكي ننتهي من مهمة إعداد الصواريخ".

حكى عثمان أن رجلين عملاقين -أو "فحلين" كما وصفهما- وفدا إلى شركته خلال عقده اجتماعاً مع المهندسين، ومُنع عثمان من إكمال الاجتماع ثم اقتيد إلى مبنى جهاز المخابرات حيث جرى احتجازه في إحدى الغرف لـ7 ساعات حتى بدأت التحقيقات معه.

في مذكراته، لم يُشر عثمان إلى تورّط ابن شقيقته في الحادث، بل ركّز فقط على الشخص الآخر، وهو "المهندس محمد متولي مندور"، الذي اكتفى بوصفه بأن "والده كان يعمل معه كهربائياً وعندما تخرّج ابنه عمل في 'المقاولين العرب'".

كما حكى عثمان أنه لما طال غيابه، استغاثت زوجته بصديقه السادات -نائب الرئيس وقتها- الذي تدخّل فوراً لإنقاذ عثمان من كارثة محققة. يقول: "اتصل السادات بهم وبسيدهم الذي طلب منهم تنفيذ تلك المسرحية مع عثمان أحمد عثمان، والتي لا أفهم لها سبباً حتى الآن".

ويضيف: "كان من السهل جداً أن تكون تلك الواقعة التي لا ذنب لي فيها سبباً يحتمون وراءه، ويضعونني في مكانٍ ما وراء الشمس دون أن يدري عنّي أحد شيئاً، كما حدث للكثيرين من الأبرياء غيري".

خلال التحقيقات، وقعت مواجهة بين رجل الأعمال المصري وبين المهندس مندور الذي حاول تبرئة ساحته أمامه، فأجابه بأنه التقى ببعض الألمان الذين عرضوا عليه "عمليةً كبيرةً"، ولكي يثبت لهم خبراته الهندسية منحهم رسومات دُشم الطائرات وقواعد الصواريخ دون أن يعرف أنهم عملاء لصالح الموساد.

كانت هذه الواقعة سبباً في زيادة مرارة عثمان تجاه نظام عبد الناصر وأمين هويدي رئيس المخابرات، عادّاً أن مثل هذه التصرفات كانت سبباً في وقوع النكسة بعدما "هان أمر الرجال فهان عليهم كل شيء حتى بلدهم بعدما هان أمرهم على المسؤولين فيها".

بهجت أم مندور؟

من واقع أوراق القضية، فإن كلا الرجلين كانا متورطين حتى النخاع؛ بهجت يوسف حمدان والمهندس محمد متولي، إلا أن هويدي في مذكراته اكتفى بالإشارة إلى الأول وكأنما يرغب فقط في التأكيد على إدانة عثمان بشكلٍ غير مباشر، بينما تعمّد عثمان الإشارة إلى الثاني فقط سعياً منه إلى النجاة بنفسه من اتهام أحد أفراد عائلته بالجاسوسية.

في مذكراته، كشف المهندس عثمان أحمد عثمان، أن شركته اكتسبت خبرةً هائلةً خلال تنفيذ السد العالي، بعدما باتت قادرةً على إنجاز المنشآت الضخمة في وقتٍ سريع، لذا أوكلت إليها الدولة مهمة بناء حائط الصواريخ لمنع الطائرات الإسرائيلية من اختراق العمق المصري

اللافت أيضاً أن بعض الصحف حرصت على تبرئة عثمان من كل شيء في هذه القضية، فأكدت أن بهجت هو زوج شقيقة المهندس متولي، وأن كليهما لم يتصلا بأي صِلة قرابة بعثمان أحمد عثمان غير علاقة عمل مندور في المقاولين العرب.

بجانب هذين البطلين الرئيسيين للقصة، تورّط مصري آخر عرّفته الصحافة حينها بالمحامي جمعة خليفة. أما الجاسوس الألماني، فحمل اسم "ألبرت فيزر"، وجميعهم أُلقي القبض عليهم على ضفاف القضية.

لعنة قميص عثمان تعيش أبداً

على أي حال، سرعان ما تبيّنت للنيابة براءة عثمان، فأمرت بالإفراج الفوري عنه، بينما طُلب من المهندس المضبوط استدراج عملاء الموساد الذين يحملون الجنسية الألمانية، وبالفعل وفد أحدهما إلى مصر، هو ألبرت فيزر، وجرى إلقاء القبض عليهما. استُكملت إجراء المحاكمة وقُضي على بهجت بالإعدام، أما مندور وألبرت الألماني فقد نالا حكماً بالسجن 15 عاماً.

وبحسب هويدي، فإن الجاسوس الألماني جرى الإفراج عنه لاحقاً في عملية تبادل إطلاق سراح الجواسيس.

برغم نجاة عثمان من هذا المأزق، إلا أنه اضطر إلى مواجهة المشكلة نفسها مُجدداً حينما طرح كتابه "تجربتي" عام 1981، والذي وجّه فيه انتقادات حاميةً إلى نظام جمال عبد الناصر أغضبت الكثيرين منه وعلى رأسهم السادات شخصياً برغم أن عثمان امتدحه في الكتاب طولاً وعرضاً.

بسبب هذا الكتاب، وقع خلاف كبير بين عثمان والسادات، أُجبر بسببه رجل الأعمال على الاستقالة من منصبه كنائب لرئيس الوزراء للتنمية الشعبية، وأيضاً شكّل مجلس النواب لجنة تقصي حقائق لمراجعة الكتاب بما تضمّن من وقائع واتهامات كما طالب أحد النوّاب برفع الحصانة البرلمانية عنه، ما أفسح المجال واسعاً أمام الصحافة للهجوم على عثمان، والتشكيك في محتوى كتابه، ولم يجد منتقدوه خيراً من استدعاء قضية الجاسوسية وتذكير المصريين بأن رجل الأعمال المصري العظيم، خال جاسوس سُجن بالتخابر مع إسرائيل.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image