ما زلت أختنق، استيقظت الليلة وأنا أختنق، وما زلت أشعر بشيء يخنقني كلما جلست وحدي، كنت أمشي في شوارع رفح يوم أمس، المدينة التي نزحت إليها من الشمال، وحدي حاملة كل خوفي وقلقي وتشتتي على كتفي، دون احتياجاتي الأساسية التي أجهزها كل سفر، ودعوات من أحب خلفي.
نزحت لأن دمي نشف في الشمال، حاولت أن أبقى لأطول مدّة، عشت حتى الهدنة التي سمحت لنا أن نأخذ نفساً ونستيقظ من الصوت والموت الذي كان يملأ المكان، كانت فرق الإنقاذ من أهل الشمال تحاول أن تخرج ما تستطيع من أشلاء، وكنّا كلما مررنا بمنزل هدم فوق رأس ساكنيه - وكل المنازل هدمت فوق أصحابها باستثناء ما أخلاه سكانه مسبقاً- أشرنا عليه "ما زال هنا ثمانية أشخاص لا يُعرف عنهم شيء" أو "أخرجوا قرابة المئة شخص من هنا، وما زالت عائلة كاملة لا يعرف مصيرها".
لا نعمل في المناطق المذكورة
تكبر الإشارات على المنازل وتختفي بعد شارعين بين مثيلاتها من المجازر
"اتصلوا بالصليب الأحمر"
"كانوا محاصرين في بيتهم قبل أن ينفجر بهم"
"كان البيت يحمل ستين روحاً، بين طفل وقط، وعجوز وامرأة"
ردّ عليهم الصليب بكل برودة: نعتذر، لا نعمل في المناطق المذكورة.
تعبت من كل الوسائد التي لا تعرفني، ولبست لباساً ليس لي، لباس الخوف والقلق، الذي صار رفيقاً لي طيلة الحرب، طويل وأكمامه كبيرة.
تصغر بيوت المدينة، تنطوي على نفسها كشخص يأكله البرد فيكرمش جسده، إلا أنني هنا في رفح لم أستطع تجاوز الأمر، ربما لأنني في الشمال عشت كل شيء، عشت الخروج فجراً للشارع هرباً من الصواريخ، والنوم في كل البيوت إلّا بيتي، وتعبت من كل الوسائد التي لا تعرفني، ولبست لباساً ليس لي، لباس الخوف والقلق، الذي صار رفيقاً لي طيلة الحرب، طويل وأكمامه كبيرة، بارد يأكل القلب مثل كلبٍ جائع ومسعور أكل جثث من رأيت في الشمال.
وحسام لا يزال تحت الأنقاض
ماذا أفعل الآن؟ كنت أحاول جمع شتات نفسي، مشيت في شوارع مدينة لا تعرفني، خرجت إلى حدودها لأتنفس بعيداً عن نكبتها هي الأخرى في الحمل فوق طاقتها، وخرجت لأجدها تختنق مثلي، كتب على ركام أحد منازلها "الأطفال ما زالوا تحت الأنقاض" "ماسة، عبدالله، عمر ما زالوا تحت الأنقاض" وعلى أخرى "حسام تحت الإنقاض" واختنقت أنا لاختناقهم، وأنا ما زلت تحت الأنقاض، تحت هذا القصف والخوف، تحت التشتت والنزوح والبرد، أحمل لحافي وبطانية كنت جمعتهما في شتاتي دون فراش من مكان لآخر، أحملهم وإن توفر لي فراش آخر أتمتم بين نفسي "ما أدفأ الفراش" ولا أستطيع البكاء، ربما لأنني فقدت هذه القدرة البشرية، وأصبحت أمتلئ بالخوف والاختناق، أختنق عوضاً عن الأطفال في حال ماتوا بسرعة ولم يختنقوا، واختنق عنهم إن حاولت أصواتهم الضعيفة الصراخ يومها ولم تستطع.
أختنق لأنني أبحث عن خيمة عوضاً عن التفكير في العودة لغرفتي، لأنني أعرف أن بيتي كله هدم، أختنق كلما فقدت الاتصال بالشمال، كلما مرّ الوقت وابتكر الزمن وقتاً قصيراً للهدوء وصار خوفي أكبر، كلما سمعت صوت انفجار، واختنقت أمس وأنا أحاول أن أصف لأحد وجودي بالمكان، ألبس سكارڤ نهدي، من أين جاء هذا اللون بين كل هذا؟ لماذا يتنطط الأمل أمامي من حديث الجدات وأنا ركنته جانباً منذ أن تركت غزة إلى الجنوب؟
الأمل من أفواه "الحجات"
تقول الحاجة مريم من سكان الشاطئ: "سأعود إلى داري، أعرف أنني تركتها ركاماً لكنني أستطيع معرفة حدّها، سأبني بيتاً صغيراً وأستته بألواح الزينكو، لن أبني أكثر من ذلك، لأنني لا أملك عمراً آخر أبني فيه، ويهدم ما بنيت برمشة عين".
وتقول الحاجة عيدة، التي لا تعرف مصير بيتها في خانيونيس شرقاً: "الآن كل البيت مليء بالتراب والغبار، سأرجع إلى داري وأنظفها، ثم أدعوكم إليها".
كتب على ركام أحد المنازل "الأطفال ما زالوا تحت الأنقاض" "ماسة، عبدالله، عمر ما زالوا تحت الأنقاض" وعلى أخرى "حسام تحت الإنقاض" وأصبحت أمتلئ بالخوف والاختناق، أختنق عوضاً عن الأطفال في حال ماتوا بسرعة ولم يختنقوا، واختنق عنهم
يكبر أملهن، ويخرج من جانبي العنصر المفقود لدي، المدعو بالأمل، يرقص لي ويقول: "اشتقت لبيتي، لغرفتي، لعيدان البامبو الثلاث التي يأخذ الطول مع الوقت نصيبه منهن، لشجرة اللبلاب المتسلقة على ستاند الكتب والحقائب، لكتبي وللون الأبيض الناصع على جدراني، وأشيائي التي تركتها، وأهم شيء، اشتقت لصوت البيت حتى في هدوئه، في لمة أهلي، ومشاحنات الأطفال داخله، اشتقت لأن يدق أحدهم الباب، لأن أضحك هناك، وآخذ حصتي من البكاء، البكاء الذي أخذ زاوية بعيدة عن الأمل وأصابني بالجفاف، اشتقت لأن آخذ موعداً مع البحر ورفيقاتي، نشرب القهوة ونضحك، اشتقت لأن أخرج الآن وأحتضن أحدهم، فأنا كنت مليئة بالأحضان، الآن أفتقدها، وكلما قتل الاحتلال الصهيوني أحداً يخصني، أركض إلى فراش الشتات، أنكمش على نفسي، ولا أجد من يحضنني، اشتقت ببساطة لكل شيء".
يكبر أمل الجدّات، ويبدأ الحديث عن الدار يُقلِق الحنين الذي أسكت نفسه قسراً وخجلاً من مزاحمة المشاعر الأخرى في هذا الحين، ما عدد المشاعر التي يمكن أن يحملها إنسان واحد في لحظة واحدة؟ وكيف تكون هيئة شخص مليء بالغضب والقهر، والخوف والضعف، والقلق والضياع والتشتت، والغربة والبرد، والجوع والحسرة؟ إنسان يجلس على أعصابه دون حياة، كيف ستكون هيئته إن فقد الأمل الأخير الذي يتنطط أمامه الآن؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 18 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...