شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
العدوان

العدوان "الأمريكي" على السيادة... أو "كوميديا" الأشباه والبدائل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

أيقظ قصف القاذفات الاستراتيجية الأمريكية، القادمة من قواعدها في الولايات المتحدة، وليس من قواعد قريبة شرق أوسطية أو خليجية تفادياً للإحراج ربما، في 2-3 شباط/ فبراير 7 مواقع عسكرية غير نظامية (أو ميليشياوية) و85 هدفاً على الأراضي العراقية والسورية المتاخمة، وفي دائرة مشتركة تبلغ مساحتها نحو مئة كيلومتر مربع-، إحساساً حاداً ومحموماً بالسيادة، ونقمة مشبوبة على الاستعمار وتغذيته عدم الاستقرار في المنطقة.

فبادرت السلطات العراقية إلى إصدار ثلاث بيانات تناولت القصف الأمريكي. فوصف بيان مكتب رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، الهجمات على عكاشات والقائم بـ"عدوان جديد على سيادة العراق". وكانت إشارات أمريكية غامضة ألمحت إلى أن الإدارة أبلغت الحكومة العراقية بوشك تنفيذ الهجوم. وحصل مثل هذا مع القوات الروسية حين هاجم سلاح الجو الأمريكي، في 2017، قاعدة الشدّادي السورية. فنفى مكتب رئيس الوزراء "التنسيق" بين حكومته وبين المعتدي على سيادة بلده. ولكن السوداني نفسه امتنع من المشاركة في اجتماع "الإطار التنسيقي" الحاكم، الشيعي (وهو غير "ائتلاف إدارة الدولة" العراقي الجامع)، تنصُّلاً من موقف "الإطار" المعروف من قصف "المقاومة الإسلامية في العراق" قاعدة البرج في شمال الأردن، وسعياً في الوساطة.

وحمل الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة، وهو السوداني نفسه في لباس ودور آخرين، القصف على "خرق للسيادة العراقية". ورأى غرابة في "توقيتها". ولا يمت التوقيت، على حسبان الناطق العسكري إلى هجوم الفصائل الحشدية العراقية على القاعدة الأردنية والقوة الأمريكية المرابطة فيها، قبل نحو الأسبوع من الغارات، بصلة. فالواقعة المرجع في التوقيت هي "بينما يسعى العراق لضمان استقرار المنطقة". ولجمُ القوات النظامية العراقية، ورئيس الوزراء السوداني هو قائدها الأعلى، هجمات الفصائل "الإسلامية" التي تأتمر بأمره و"تنتظر" إشارته (على قول بيان "هيئة الحشد" في 3/2)، ليس من المساعي المفترضة.

"التشكيلات" والفصائل

ووصفت رئاسة الجمهورية الضربات الجوية بـ"العدوان والانتهاك الصارخ". ودعت "الرئاسات" والكتل السياسية إلى اجتماع طارئ يبحث "تداعيات الضربات"، و"اتخاذ مواقف واضحة وموحدة تحفظ كرامة البلد وسيادته". وعطف التداعيات على وحدة المواقف المرجوة تعرب، من طرف موارب، عن رأي في أصل التداعيات الأمريكية المعلن، ومصدرها المحلي- الإقليمي (فصائل "المقاومة" والحشد)، المُجهَّل والمكتوم.

وهذه البيانات، الملتبسة المعاني المضمرة والتوريات، إلى بياني البرلمان ووزارة الخارجية، يُقرأ احتجاجها المتفاوت على انتهاك العملية العسكرية الأمريكية السيادة العراقية في ظرف مركب يأتلف من عناصر مخيمة هي: 1) قصف طهران قواعد عراقية ومناطق مدنية كردية عراقية قبل أسبوعين من غير اعتذار، 2) ومهاجمة فصائل من "الحشد" قواعد مختلطة، و3) استِعارُ الانقسام الداخلي، المذهبي والقومي، على إجلاء القوة الأمريكية وشروطه، و4) ترجح الكتل الشيعية الحاكمة البرلمانية والوزارية بين الاعتداد باقتراع البرلمان في الشهر الأول من 2020 (في أعقاب اغتيال سليماني) على طلب انسحاب الأمريكيين وبين اقتراع البرلمان على قانون ينص على الانسحاب، ويقتضي هذا تولي الحكومة العراقية المنقسمة صوغ القانون وتبنّيه والمبادرة إلى عرضه على الاقتراع.

تعود العبارة الأقوى ربما عن تحميل الأعمال العسكرية الغربية، في العراق وسوريا والبحر الأحمر، التبعة عن الانقسامات الداخلية والأهلية، إلى أيقونة الديبلوماسية الروسية، ماريا زاخاروفا. قالت: "الولايات المتحدة تدّعي أنها تهاجم الجماعات التي تزعم أنها موالية لإيران في العراق وسوريا، لكنها في الواقع تحاول إغراق أكبر دول المنطقة في الصراعات"

وإطارُ الظرف المركب حربُ غزة، وتداعياتها وذيولها.

وإذا رجع المراقب من العراق الرسمي، عراق "الرئاسات" على قول لبناني ثم عراقي، إلى العراق المجتمعي أو الشعبي، وقع على المضمرات والالتباسات والتوريات نفسها، وربما على غموض أشد. فبعد أن كتب زعيم ائتلاف الوطنية، إياد علاوي- وهو رئيس وزارة سابق، وشيعي عروبي وغير "إيراني"، وأحد أمناء مجلس الأمن القومي، ومن مؤيدي الحملة الأمريكية في 2003 على خفر وحياء- في صفحته على "إكس" (تويتر سابقاً) أن المعاهدة الأمريكية العراقية "مجرد أحاديث"، وندد بـ "انتهاك السيادة"، خلص إلى أن "الأوضاع الحالية تتطلب تشكيل قيادة عامة للقوات المسلحة تضم جميع التشكيلات المقاتلة من جيش وشرطة وحشد مقاتل وبيشمركة، وأن تكون هذه القوات بإمرة القائد العام للقوات المسلحة وأن يكون نائبه وزير الدفاع".

وإحصاء التشكيلات المقاتلة، على هذا النحو، واقتراح توحيدها ودمجها في إمرة قائد عام واحد (رئيس الوزراء الشيعي) ونيابة وزير الدفاع (السنّي)- وهو اقتراح رئيس الجمهورية (الكردي)- يعلن من غير لبس أن السيادة الوطنية العراقية، والقوات المسلحة و"عنفها المشروع" داخل حدودها هي (القوات) وسمها البارز، غير قائمة ولا ناجزة. ويترتب على تقرير هذه الحال أن سياسة الأجزاء غير السيادية من "التشكيلات المقاتلة" (والمتقاتلة) لا تُسأل الدولة، كيان السيادة، عنها. ويُفترض في الدولة، بموجب إرساء سيادتها، السيطرةُ عليها، ودمجُها في الجسم الوظيفي الذي تحتكر الدولة، نيابة عن الجماعة الوطنية وبتكليفها وتحت مراقبتها، إنشاءه وسوسه.

الانكفاء

وتواقت رأي إياد علاوي مع إجراء مقتدى الصدر، في الوقت نفسه أي صباح ليل 2 إلى 3 شباط/ فبراير، وسكوته عن الغارة الأمريكية، وقراره الاعتكاف، أو تمديد اعتكافه. ودعا أنصاره إلى "التوجه إلى دور العبادة، للاستغفار والتسبيح". وأمر بغلق "مقرات مدنية" يملكها التيار أو يتولى تدبيرها. وكان الصدر دعا العراقيين إلى اعتصام سلمي على الحدود الأردنية والعراقية المشتركة إلى حين وقف الحرب، في أيام حرب غزة الأولى. وخالفت دعوته هذه استنفار فصائل "الحشد الشعبي"، وأحزاب "الإطار التنسيقي".

ومنذ استقالة نواب "التيار" الثلاثة والسبعين (الكتلة البرلمانية الأولى) من البرلمان، قبل نحو عشرين شهراً، وزعيمه يندد باستشراء الفساد في مرافق الحياة السياسية العراقية كلها، فصائل وأحزاباً وإدارات وهيئات حكم. ولكن هذا لا يسوِّغ، أو لا يُفهم سكوته، وتوقيته تجديد اعتكافه، وأمره أنصاره بغلق بعض مرافق "التيار". وكانت دعوته الجمهور إلى الاعتصام السلمي، وإلى وقف الحرب، يوم كانت طهران، و"حزبها" معها، تهلل للنصر ولانهيار العدو، قرينة على معارضة السياسة الإيرانية في المسألة الفلسطينية، أي في محور السياسة هذه وقلبها.

والاستقالة البرلمانية أعقبت تظاهرة قُتل فيها فوق العشرين من وجوه "التيار"، ومسؤولي التأطير فيه. وآذنت التصفية القاسية هذه، وهي كانت فصلاً من فصول حروب الفصائل- على شاكلة "حرب العائلات" في منظمات المافيا-، بانكفاء "التيار" وزعيمه الانكفاء الطويل، و"غيبته" إلى اليوم.

يَجمع الاحتجاجُ الوطني والقومي والديني على العدوان (الأمريكي) على السيادة، والتنديد به، غيرة حارة على السيادة الوطنية، ودفاعاً صلباً عن وحدة الأرض والشعب والدولة، إلى (أو مع) التوسل بالعدوان إلى الاقتصاص، الوطني والقومي من العدو الأهلي، وتثبيت وتجديد نفيه من الوحدة المثلثة هذه

ولم تسلم هيئتا "الإطار التنسيقي" و"ائتلاف إدارة الدولة"، وتتشارك الاثنتان الكتلة الشيعية الحاكمة، من الانقسام على بعض مقومات السيادة الداخلية. ففي اجتماع "الائتلاف" الأول، غداة العملية، دان المجتمعون، وفيهم رئيس الجمهورية عبداللطيف رشيد ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، "العدوان الأمريكي (على) الحشد الشعبي، وهو اعتداء خطير على مؤسسة أمنية عراقية رسمية". فحذا حذو موقف "المكون" الشيعي الخالص، وبدا أن "المكونين" الآخرين، الكردي والسنّي، يتابعان الأول على رأيه وإدانته. ولكن فقرات البيان الأخرى تدلي، بشأن البيانات والآراء الرئاسية أو المجتمعية السابقة، بتقويم مختلف، ومن بعض الوجوه (صفة "الحشد الشعبي")، مناقض.

فهيئة "الائتلاف"، وهي الأقرب إلى الدولة النظامية والمشتركة، ترفض "كل أشكال الاعتداءات التي تطال القواعد العسكرية العراقية، وكذلك استهداف المستشارين العسكريين، من دول التحالف الدولي الذي يعملون ضمن مهام استشارية وتدريبية محددة". ويفوض "الائتلاف" الحكومة بـ "الحوار (...) مع التحالف الدولي"، والقوات الأمريكية محوره وركنه، و"إنهاء هذا الوجود بالتفاهم والحوار، وبما يكفل بناء علاقات ثنائية بين العراق ودول التحالف الدولي". وهذا بعيد من طلب انعقاد مجلس الأمن للنظر في العدوان والشكوى، بعده من طرد قوات الاحتلال وإجلائها ذليلة، دلالةً على "أفول أمريكا"، و"تغلب ريح الشرق على الغرب"، على قول الصيني ماوتسي تونغ و"خليفته" المعاصر، شي جينبينغ إلى وقت قريب.

جماعات الوحدة

والمواقف والآراء والسياسات المختلفة والمتناقضة هذه يثيرها ويبعثها ويؤزمها، إلى حد بلورة نزاع وصدع أهليين، "عدوان" موصوف، مبدئياً، "على السيادة". وبدلاً من الإجماع الوطني، المتوقع والمفترض، على إدانة العدوان، صفاً واحداً ومرصوصاً، تُخرج المواقف والآراء المتضاربة منه إلى العلن مسائل الخلاف الكثيرة والحادة التي تعتمل في ثنايا الجماعة الوطنية وتمزقها. وتتخطى مسائل الخلاف القوى السياسية غير الحاكمة إلى الهيئات التي تضطلع بحكم الدولة. وتتناول المسائل، على ما يُرى من أحوال العراق، مقومات الدولة، ووحدتها وكيانها.

وإذا عمدت وزارة الخارجية السورية إلى التنديد بحملة القصف الأمريكية على قواعد الميليشيات العراقية و"الإيرانية" والسورية "الرديفة" إلى الشرق من سوريا، في دير الزور، حملت القصف على مشكلة الدولة السورية المزمنة- قبل الحراك، والأزمة، والثورة، والنزاع الأهلي، وفي أثنائها جميعاً- في صيغتها الأهلية والأسدية. فنسبت إلى الولايات المتحدة "(العمل) على إحياء النشاط الإرهابي لتنظيم (داعش) الذي تحارب القوات السورية بقاياه في المنطقة الشرقية من سوريا". وأوضح بيان وزارة الدفاع معنى إشارة وزارة الخارجية إلى "داعش"، وإحياء نشاطها. فنبّه إلى أن "المنطقة التي استهدفتها الهجمات الأمريكية شرق سوريا هي ذاتها المنطقة التي يحارب فيها الجيش السوري بقايا تنظيم (داعش) الإرهابي".

ونسي البيانان أن الحليف الإيراني الوثيق، حين أراد معاقبة إرهاب "قاعدة" خراسان على فعلتها المفترضة في كرمان، قصف (على المثال الأمريكي، من غير القاذفات الاستراتيجية موقتاً) إدلب، في شمال سوريا الغربي، ولم يقصف شرقها الديري والكردي.

ولا يفترض في تقسيم العمل الإرهابي بين "قاعدة" الجولاني، الإدلبي، وبين الخراساني، أن يدعو إلى استثناء الثاني من القصاص الإيراني الاستعراضي، وينتقم من الأول وحده. وحين انسحبت قيادات الفصائل من المواقع التي أومأ الأمريكيون، قبل هجومهم، إلى نيتهم ضربها في الأيام الخمسة أو الستة القادمة، أخلتها القيادات إلى بادية تدمر، أي إلى حيث لا تقاتل القوات السورية العاملة "داعش". فما تعليل "التناقض" الأمريكي؟

والحق أن المهم هو تعليل التشخيص السوري، وثباته منذ 2011 على أقرب توقيت، على تصوير الحروب السورية، على مثال حال لبنانية ضلعت السياسة السورية في تجديدها، في صورة حرب (واجهة) إرهابية على "الشعب"، ونضال قومي وشعبي ضد أمريكا ومطاياها الخليجية، سابقاً وجزئياً حالياً. ويجوز، في منطق الجهاز الحاكم وعصبيته، استبدال "داعش" بالولايات المتحدة، واستبدال الولايات المتحدة بـ"داعش"، من غير خطأ في التشخيص أو التعليل.

ويجوز توسيع الأسماء ومسمياتها من منظمات أو جماعات. ففي اليوم الثالث على ليل الهجوم الأمريكي، في اليوم الخامس من الشهر الجاري "ردت" بعض وحدات من "المقاومة الإسلامية في العراق"، في سوريا، على العدوان الأمريكي على سيادة سوريا، فقصفت حقل العمر، حيث تنتشر قوة أمريكية في عدد كبير من القواعد. فقتلت ستة مقاتلين (أو سبعة في خبر آخر) من قوات المهمات الخاصة في "قسد" (قوات سوريا الديموقراطية)، بواسطة مسيرة. وانفجرت هذه في "أكاديمية" محلية. فحل الكرد السوريون محل "داعش"، من غير عسر ولا تفسير. والمسلحون الذين قصفتهم الطائرات الأمريكية قبل ثلاثة أيام معظمهم مسلحون عراقيون وأفغان. وتقاتل قواعدهم في سوريا، بجوار القائم العراقية، الكرد السوريين لحساب الدولة الوطنية. وقد تقصف أراضي أردنية جنوباً أو غرباً.

وعلى هذا، يَجمع الاحتجاجُ الوطني والقومي والديني على العدوان (الأمريكي) على السيادة، والتنديد به، غيرة حارة على السيادة الوطنية، ودفاعاً صلباً عن وحدة الأرض والشعب والدولة، إلى (أو مع) التوسل بالعدوان إلى الاقتصاص، الوطني والقومي من العدو الأهلي، وتثبيت وتجديد نفيه من الوحدة المثلثة هذه. فإذا بالعامل الذي يتولى عادة، توحيد الشعب، أو ربما إنشاءه وإيجابه على صورة الأمة الواحدة- على شاكلة ولادة أمة أوكرانية من العدوان الروسي البوتيني-، يضطلع في بلدان الشبكة الإيرانية وجماعاتها بدور نقيض. ويفضي الدور النقيض إلى شرذمة الجماعات أو "المكونات"، واستعداء بعضها على بعض، وتعميق شروخها الموروثة والمستجدة، وتحكيم حلفائها الخارجيين ومصالحهم "الكبرى" في النزاعات البينية المحلية والإقليمية، ويحول دون بناء نظام أمن إقليمي وجماعي متماسك.

الدور النقيض

وتعزو القوى والأطراف المحلية تشرذمها ونزاعاتها و"تجزئتها"، على ما كان يقال في لغة الحركات القومية والوحدوية في خمسينات القرن الماضي، إلى الدول الاستعمارية الغربية، ماضياً وحاضراً. وبينما تحذر البيانات الرسمية العراقية، "المعتدلة"، على سبيل المثال، من خطر الأعمال العسكرية الأمريكية على الاستقرار والأمن الإقليميين والداخليين، تزعم "هيئة الحشد الشعبي" أن هذه الأعمال تهدد "وحدة شعب (العراق)"، إلى انتهاكها سيادته. والتهمة نفسها تسوقها وزارة الخارجية السورية، وتدعو مجلس الأمن إلى مقاضاة الولايات المتحدة.

وفي ختام "جهاد" سياسي مديد وصبور، وشمخاني على حق في وصفه بالاستراتيجي، صار في مقدور "حزب الله" زج اللبنانيين، "دولة" و"شعباً"، في حرب غزة الخامسة والكبيرة

وتعود العبارة الأقوى ربما عن تحميل الأعمال العسكرية الغربية، في العراق وسوريا والبحر الأحمر، التبعة عن الانقسامات الداخلية والأهلية، إلى أيقونة الديبلوماسية الروسية، ماريا زاخاروفا، المتحدثة اليومية باسم وزارة الخارجية. قالت زاخاروفا: "الولايات المتحدة تدّعي أنها تهاجم الجماعات التي تزعم أنها موالية لإيران في العراق وسوريا، لكنها في الواقع تحاول إغراق أكبر دول المنطقة في الصراعات". وهي استهلت كلامها بدفاع محموم عن "معايير القانون الدولي"، وبدعوة حارة إلى إدانة تجاهل الولايات المتحدة وبريطانيا هذه المعايير، عشية ختام السنة الثانية ومطلع السنة الثالثة من اجتياح جيش بوتين وبريغوجين "اللا أمة" الأوكرانية النازية والعدوانية.

والحق أن المسارح الوطنية، السياسية والعسكرية، هذه تشهد أصنافاً من النزاعات والحروب المركبة والهجينة، الأهلية والإقليمية و"الدولية"، منذ الحرب العالمية الثانية. واتصلت النزاعات والحروب من مستوى الجماعات المحلية الأولى، أو الدنيا، إلى صعيد مجتمعات الدولة الوطنية، فالأبنية الإقليمية (جامعة الدول العربية) الصورية أو الفعلية، فالحرب العالمية الباردة ونذر انقسام اليوم بين "غرب جماعي" و "جنوب عالمي". ووسع الرفيق سجعان، بطل مسرحية اللبناني جلال خوري (1933- 2017) عشية اندلاع سلسلة الحروب الملبننة، القول قبل أن تسدل الستارة عليه: "أمريكا بالدق (في المعمعة) وأنا قاعد عَ جنب (على حدة)".

وأبطل اتصال النزاعات والاصطفافات، واندراجها في مراتب المستويات أو الصعد المختلفة، والمفترضة مستقلة، استقلال المستوى منها بمعايير عمل خاصة تتولى نظم علاقات الأفراد والجماعات، وتحفظ تماسك "جمعياتهم" وروابطهم. وحين يكتب علي شمخاني، أحد أعيان النظام الخميني منذ بداياته (في قيادة "الحرس الثوري"، ومجلس الأمن القومي ومجلس تشخيص مصلحة النظام، ومستشار خامنئي السياسي) أن الهجوم الأمريكي على قواعد الوكالات الحرسية المحلية بعضُ "استراتيجية البيت الأبيض الراسخة للإضرار بالأمن النفسي للشعب الإيراني"، وأنه يرمي إلى "تقويض الهيكلية والتماسك الاجتماعيين" (الإيرانيين)- فهو يعرب عن عقيدة الرفيق سجعان في الوحدة "النفسية" و"الاستراتيجية" التي تحكم عصبيات الشرق الأوسط وسياساته.

الفوقي والعميق

وتتماسك العصبيات والسياسات هذه، في الظرف الأخير الذي افتتحته حرب غزة، من فوق، ومن سقفيها الدولي والإقليمي العريض. والقضية الفلسطينية، في شقيها، "الطرفان"، و "السيوف"، مثال على الجمع بين "النفسي" وبين "الاستراتيجي". ومن طريق الانخراط فيها، في سياقات محلية شديدة الاختلاف، وسع ميليشيات محلية وعصبية صغيرة، شأن "حزب الله" اللبناني و "أنصار الله" الحوثيين اليمنيين و "كتائب حزب الله" العراقية، أن تنتصب قوى أو جماعات سياسة فاعلة إقليمية، على قول "حزب الله" في نفسه غداة حرب تموز (يوليو)- آب (أغسطس) 2006. ولا يشك "الأنصار" الحوثيون، منذ بداية وصايتهم المسلحة على بوابة البحر الأحمر الجنوبية، في ارتقائهم منصباً ودوراً دوليين، أو في إملائهم على القوى العالمية، الولايات المتحدة وبريطانيا والصين والهند وتركيا، الردود التي يريدونها، موقتاً على الأرجح.

ومن طريق اعتلائها السقف أو السطح الإقليمي والاستراتيجي هذا، واتصال السطح بالقاعدة الأرضية والنفسية، على مثال "حزب الله" في لبنان و "أنصار الله" في اليمن، استطاعت الجماعات الأهلية والمسلحة تجييش جماعاتها العصبية القريبة، وانتزاعها من الجسم الوطني وسلمه البارد والضعيف، على نحو ما استطاعت شل اللحمة الوطنية السياسية وإلحاقها بالسطح الاستراتيجي، وإذابتها فيه.

وفي ختام "جهاد" سياسي مديد وصبور، وشمخاني على حق في وصفه بالاستراتيجي، صار في مقدور "حزب الله" زج اللبنانيين، "دولة" و"شعباً"، في حرب غزة الخامسة والكبيرة، منذ صباح يوم الحرب الثاني، ومبادرة "حماس" إلى شن الحرب، وعلى الصورة التي شنتها عليها. ولم يتردد "الأنصار" طويلاً في العثور على موقعهم الإقليمي العملي والبالغ التأثير في التجارة العالمية، وفي المقومات الاقتصادية، والموارد والتسويق.

ويقوي الدور الإقليمي والاستراتيجي، المتعاظم إلى حد الانتفاخ، المكانة والأثر المحليين الوطنيين والأهليين اللذين بلغتهما الجماعات العصبية المسلحة. فمن هذا الوجه أطبق "حزب الله" على مجتمع اللبنانيين ودولتهم. فيُعلِم "مجاهدو" وكيل "الحرس" اللبناني الموفدين الدوليين والمجتمع السياسي المحلي أن لا وقت لديه يصرفه في الظرف الحالي إلى انتخاب رئيس جمهورية. ويتذرع الحوثيون بدالتهم المكتسبة إلى قتال قوات حكومية (عدنية) في حريب وبيحان (محافظة شبوة) وجبال رشاحة (صعدة)، وجبهات في محافظة الجوف، ويهددون خطة الخروج من الحرب الأهلية.

ويتستر الإنكار والتنصل الإيرانيان على انخراط إيران، وهيئاتها ومرافقها الثورية والموازية، في "الجهاد" الدؤوب والباهظ والبارع الذي أثمر الثمار المسمومة والضخمة، تلك. ولا شك في أن اختيار فلسطين، قضية مركزية، وطنية ودينية، أو "وجودية"، وإسرائيل وسندها الأمريكي والغربي عدواً رئيساً، قومياً وسياسياً ودينياً واقتصادياً إمبريالياً، واختيار المشرق العربي ودوله ومجتمعاته المتداعية، وترتيب اقتناصها من سوريا ولبنان إلى فلسطين العراق فاليمن، مسرحاً تصول وتجول فيه الجماعات العصبية وتنخر أبنية الدولة الوطنية والسياسية الفتية- لا شك في أن اختيارَ إيران الخمينية المركَّبَ هذه الخطوطَ الاستراتيجية حقاً، وتدبير أوقاتها وحلفائها، إنجاز عبقري ومدمر. ولكن إيران لم تفعل غير الاستثمار في أسواق مؤاتية، وبمنأى عن المنافسة الكاملة، على قول الاقتصاديين في الاقتصادات الريعية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image