في مدينة أم درمان الواقعة في ولاية الخرطوم عاصمة السودان عاشت سهام صالح* حياة مُستقرة. بعد انفصالها عن زوجها استقرت في منزل أسرتها بصحبة طفليها، عملت مُدرسة لُغة إنجليزية في إحدى المدارس الدولية، تتنقل بسيارة الأسرة وينعم الطفلان بالهدوء وسط أقرانهم، حتى جاء يوم 15 أبريل/نيسان 2023 واندلعت الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. سعت سهام حينها للفرار مع أسرتها، فحملت كل ما لديها من مُدخرات واصطحبت طفليها ووالدها ووالدتها وشقيقها الأصغر ليبدأوا رحلة جديدة في البحث عن مكان آمن.
أدت الحرب إلى تشريد أكثر من 7.3 مليون سوداني بينهم أكثر من أربعة ملايين مشرد داخل السودان، وتفرق الباقون بين إثيوبيا وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى وجنوب السودان، بينما نزح أكثر من 378 ألف لاجىء سوداني إلى مصر حتى نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حسب إحصاء موقع دعم اللاجئين التابع لمنظمة الأمم المتحدة.
مع اندلاع النزاع بين شقي الحكم العسكري في السودان، باتت حياة وسلامة المواطنين السودانيين مهددة واضطر معظمهم للنزوح داخلياً فيما تمكن البعض الآخر من النزوح إلى بلاد أخرى من بينها مصر التي تعاني بدورها أزمة اقتصادية طاحنة، بات بعض المصريين يتهمون القادمين من الجنوب في التسبب فيها، فكيف يواجه السودانيون في مصر كل هذا؟
"العمل"... كلمة السر للاستقرار في مصر
وصلت أسرة سهام إلى مصر في مايو/آيار الماضي فاستأجرت وحدة سكنية مفروشة بـ13 ألف جنيه مصري/420 دولاراً أمريكياً تقريباً (حسب سعر الصرف الرسمي)، لم تكن الشقة مُجهزة بما يستحق المبلغ المدفوع ولم تتحمل مُدخرات سهام الاستمرار أكثر من شهر، تقول في حديثها لرصيف22 إنها اضطرت للانتقال وأسرتها إلى "شقة على البلاط" في منطقة فيصل مُقابل 5آلاف جنيه شهرياً، لم يكن فيها سوى سخان للمياه. ورغم خلو العقار من مصعد وصعوبة ذلك على والدها المُصاب بالانزلاق الغضروفي، اضطرت للقبول. أنفقت صالح جزءاً كبيراً من مدخراتها في فرش الشقة، دفعت مبلغاً كمقدم على أن تُسدد الباقي على أقساط شهرية.
خلال أشهر قليلة تمكنت صالح بحكم مرونة مهنتها كمُعلمة لغة إنجليزية من إيجاد عمل في مركز تعليمي لكن ذلك لم يعد كافياً، فالأقساط الشهرية للأثاث المنزلي تبلغ 5 آلاف جنيه فضلاً عن 5 آلاف أخرى مطلوبة للإيجار، والنفقات الخاصة بالمأكل والمشرب والأدوية، سعت سهام للبحث عن عمل في مدرسة لغات خاصة للتمكن من إلحاق طفليها بقطار التعليم، تقول لرصيف22 إن المدرسة قدمت لها خصماً 50% على مصروفات طفليها، إلا أنها تضطر للعمل يومياً في المدرسة من السابعة صباحاً حتى الثانية ظهراً وبعدها حتى الخامسة في مركز تعليمي، بينما تقضي 6 ساعات من يومي الجمعة والسبت في العمل داخل المركز لتوفير نفقات الأسرة.
رغم الضغوط المادية تعد سهام نفسها أسعد حظاً من غيرها، فحصولها على فرصة عمل وما يصلها من مساعدات مادية من شقيقها المُقيم في السعودية يساعداها على تسيير أمورها
رغم الضغوط المادية تعد سهام نفسها أسعد حظاً من غيرها، فحصولها على فرصة عمل وما يصلها من مساعدات مادية من شقيقها المُقيم في السعودية يساعداها على تسيير أمورها، بينما يعتمد شقيقها الأصغر على جزء صغير من راتبه الذي ترسله الشركة من السودان رغم انقطاعه عن العمل، تقول لرصيف22 إن شقيقها -33 عاماً- كان ضابط جودة في مصنع للزبادي، ولظروف الحرب ترك العمل واضطر للقدوم معهم إلى مصر، ومنذ قدومه حاول البحث عن عمل ولم ينجح في ذلك حتى الآن، رغم ذلك يرفض الحصول على المساعدة من شقيقته ويُكيف نفقاته حسب ما يصله من شركته.
النجاح في الحصول على عمل كلمة السر للاستقرار في مصر من وجهة نظر سهام، فتقول إن من يتمكن من إيجاد فرصة عمل "أموره بتمشي"، موضحة أن ما يُزعجها أكثر من الوضع الاقتصادي ما يُردده البعض من تسبب السودانيين في أزمة اقتصادية لمصر، مضيفة أن السودان استضافت كثيرين من المصريين طوال سنوات ماضية والدليل على ذلك الإجلاء الذي حدث وقت اندلاع الحرب
النجاح في الحصول على عمل كلمة السر للاستقرار في مصر من وجهة نظر سهام، فتقول إن من يتمكن من إيجاد فرصة عمل "أموره بتمشي"، وأنها حتى الآن لا يمكن أن تصف ما تعيشه بالمعاناة لكن من يعاني بحق هو من لم يجد فرصة للعمل، موضحة أن ما يُزعجها أكثر من الوضع الاقتصادي ما يُردده البعض من تسبب السودانيين في أزمة اقتصادية لمصر، مضيفة أن السودان استضافت كثيرين من المصريين طوال سنوات ماضية والدليل على ذلك الإجلاء الذي حدث وقت اندلاع الحرب.
تُفرّق صالح بين الاحتضان الرسمي من قبل الدولة للاجئين وما أبداه الشعب المصري من ود واستقبال طيب، وبين من وصفتهم بالقلة التي تُردد على مواقع التواصل الاجتماعي الاتهامات للسودانيين، تقول لرصيف22 "بنشكر البلد إنها فتحتلنا إيديها ولكن بعض الناس بيقولوا السودانيين أحسنلهم يرجعوا بلدهم"، مضيفة أنه في حالة عكس الصورة الحالية وإذا كانت مصر لا قدر الله هي من تمر بهذه الأزمة لاحتضن أهل السودان المصريين كما يحدث وأكثر.
تقول الصحافية السودانية سارة إبراهيم "الحرب اللعينة أوقفت كل مصادر الرزق" وتوقفت كل الأعمال والمصالح الحكومية وبالتالي توقفت الرواتب الشهرية ولم يعد لها مصدر يعينها على العيش سوى مبالغ مالية تصلها من زوجها المقيم في الخارج
سارة... رحلة من الصحافة إلى الفول
في اليوم الثالث للاشتباكات بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، وصل الصراع إلى منطقة بحري في الخرطوم حيث تقيم الصحافية السودانية سارة إبراهيم وعائلتها. تركت إبراهيم كل ما تملك لتفوز بنجاة جسدها وأطفالها الثلاثة، خرجت بصحبة شقيقها لتصل إلى الأراضي المصرية في 3 مايو/آيار لتبدأ رحلة جديدة في البحث عن سبيل للعيش، تقول في حديثها لرصيف22 إن الحرب اللعينة أوقفت كل مصادر الرزق واستفحلت الظروف الاقتصادية فتوقفت كل الأعمال والمصالح الحكومية وبالتالي توقفت الرواتب الشهرية ولم يعد لها مصدر يعينها على العيش سوى مبالغ مالية تصلها من زوجها المقيم في الخارج.
سجلت سارة أسرتها في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين منذ سبتمبر/أيلول الماضي، وحتى الآن لم تتسلم جنيهاً واحداً يساعدها في نفقات أسرتها، توضح لرصيف22 أنها وشقيقها اضطرا للعمل في مجال بعيد تماماً عن خبراتهما فيصنعان "الفول والفلافل" في محل صغير في المنطقة الشعبية التي يقطنون بها، مضيفة أنها ألحقت أطفالها الثلاثة بمدرسة سودانية تبلغ مصاريف السنة الدراسية لثلاثتهم 15 ألف جنيه، تدفعها بنظام التقسيط مراعاة لظروفها، ووفقها الله لاستئجار شقة "على البلاط" مقابل 3.5 ألف جنيه مصري في الشهر.
بدأت إبراهيم شراء أثاث المنزل الجديد قطعة تلو الأخرى كلما تمكنت من توفير مبلغ مناسب مما يُرسله زوجها، وما يتوفر من عملها وشقيقها في محل "الفول". تردد كلمات الحمد والشكر طوال حديثها رغم ما تعانيه من ضغوط مادية وما تحمله من مشاعر موجعة تجاه ما يحدث في بلدها، تقول لرصيف22 "إن الوضع صعب لكننا نقول الحمد لله على سلامة الأرواح، ونسعى أن نعيش في وضع أفضل مما نحن فيه لكنها مشيئة الله أن نصبح فجأة دون عمل أو راتب ونكون على باب الله".
تعيش سارة على أمل العودة إلى السودان مرة أخرى بعد انتهاء الحرب وأن يكون وضعها الحالي مؤقتاً ينتهي بانتهاء الحرب، وأن تستكمل عملها في صحيفة السودان، تقول إنها تسعى للعمل في مجالها أثناء وجودها في مصر، إلا أن إقدامها على تلك الخطوة مرهون باستقرار أوضاعها المادية للاطمئنان على توفير نفقات أطفالها. مضيفة أنها تعتبر فترتها الحالية كاستراحة محارب فالصحفي لا يقدر على الاستغناء عن شغفه ومهنته.
استعرض رصيف22 في تقرير خاص نشر بعد أيام قليلة من اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أوضاع الرعاية الصحية للنازحين واللاجئين القادمين إلى مصر وخاصة السودانيين منهم بعد تعليق مصر العمل باتفاقية الحريات الاربعة بين البلدين
خرجت من الحرب فقط بملابسي
في منزل زوجها المصري استقبلت عائشة المقيمة في مصر منذ 7 سنوات شقيقاتها الثلاث بعد فرارهن من ويلات الحرب بعد مرور شهر كامل تحت خطر الحرب، أملاً في انتهائها فلا يفقدن حياتهن المستقرة ويبحثن عن بدايات جديدة. سارت الأمور عكس ما تمنين، فلم يكن أمامهن ملجأ سوى منزل شقيقتهن في المنطقة الآمنة، وصلت مناهل إسماعيل وشقيقتيها رحاب وعسجد إلى مصر في 15 مايو/آيار بصحبة 2 من أطفال رحاب بينما بقي الثالث صحبة والده في السوادن.
فقدت الشقيقات مصادر دخلهن في السوادن، وقبلن العيش بأبسط الإمكانات في مصر، فبقيت مناهل وعسجد مع عائشة في منزلها بينما قررت رحاب استئجار "شقة صغيرة" لتجمعها بأطفالها، على أن يجتمعن يومياً لتناول وجبات الطعام توفيراً للنفقات، تقول مناهل 45 سنة في حديثها لرصيف22 إنها تخرجت في كلية إدارة الأعمال بالسودان ولم تتمكن من حمل شهادتها الجامعية معها للبحث عن وظيفة في مصر، فسعت للعمل في إحدى الأعمال اليدوية لكنها لم توفق في ذلك، لذا لجأت للتسجيل في المفاوضية السامية لشؤون اللاجئين وكان نصيبها 1700 جنيه مصري تنفق منهم منذ يونيو/حزيران الماضي.
وأضافت إسماعيل أن شقيقتها الثالثة عسجد تعاني من ورم في الرحم يستلزم جراحة عاجلة، ولم تجد أمامها حلاً سوى اللجوء للمفاوضية السامية لشؤون اللاجئين في محاولة لإجراء الجراحة على نفقتهم، إلا أنهم لم يتخذوا أي إجراء حتى الآن وأبلغوها أنه سيتم النظر في ملف شقيقتها وتحويله إلى الجهة المختصة بالعلاج التابعة للأمم المتحدة، وتحديد موعد لإجراء العملية، ولم يتم ذلك حتى الآن.
واستعرض رصيف22 في تقرير خاص نشر بعد أيام قليلة من اندلاع الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، أوضاع الرعاية الصحية للنازحين واللاجئين القادمين إلى مصر وخاصة السودانيين منهم بعد تعليق مصر العمل باتفاقية الحريات الاربعة بين البلدين، يمكنك الاطلاع عليه عبر هذا الرابط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون