شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أرجوك يا أمي لا تكبري

أرجوك يا أمي لا تكبري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الثلاثاء 13 فبراير 202411:02 ص
Read in English:

Please, Mom, don't grow old

تهتم أمي بشعرها وتستهلك وقتاً كبيراً في تسريحه، ثم تعقده ضفيرتين وتضع فوقه منديلاً أزرق يزيّنه الورد. قبل عدة أيام، كانت تسرح شعرها كالعادة ولكنها ليست ككل مرة، لاحظت أن لونه تحوّل للأبيض بفضل الزمن الذي لم يجاملها ويتركه لها أسود كما عهدته، سقط "المشط" من بين يديها المرتعشتين، والتي كانت في شبابها تهزّ بها سنابل القمح أسرع من قوة الهواء. لأول مرّة ألاحظ أن أمي كبرت في السن، أدوية الضغط بجوار سريرها، وقطرة العين تضعها بجانب وسادتها، الحزن يتمشّى في أرجاء وجهها الطيب، تمنيت أن يقف الزمن حتى لا تكبر أمي.

الصورة التي أحفظها في ذهني لأمي تعود إلي التسعينيات، عندما كانت في كامل صحتها وشبابها وقبل أن تخونها أيامها، تحيك ملابسها بيدها، وتجهّز الأكل لصغار لا يفقهون شيئاً في الحياة سوى لذة الأكل، ثم تلفني بمعطفها خوفاً من لسعة برد خفيفة في نهار يناير، وهي لا تدرك أن معطفها بمقدرته أن يدفّئ شتاء لندن، ثم تضع براد الشاي فوق النار وتجلس بجانب جهاز الكاسيت ماركة ناشيونال 543 وتضع شريطاً للمطربة الشعبية ذائعة الصيت حينها فاطمة عيد، وتردّد معها: "آه يا لموني في هواك ظلموني".

كانت شديدة التعلق بصوتها، وتقول عنه: "دافئ شبه شمس سبعة الصبح". كان حب أمي للناس والأشياء حباً لا يعرف حدوداً، وليس حباً معلباً يشبه علب التونة سهلة الفتح وسهلة الرمي في سلة القمامة.

لأول مرة ألاحظ أن أمي كبرت في السن، أدوية الضغط بجوار سريرها، وقطرة العين تضعها بجانب وسادتها، الحزن يتمشّى في أرجاء وجهها الطيب

قبل الغروب كنت أذهب برفقة أقراني في الغيطان، نركض خلف الفراشات ونسرق بعض التوت الأزرق من شجرة جارنا، وعند عودتي كنت أراها تجلس فوق سطوح بيتنا الكبير، في آخر ركن تغادر منه الشمس، وهي تنسحب على استحياء خلف الجبل العالي. تمسك "المشط" وتسرّح شعرها الذي يشبه ليل الشتاء في طوله وسواده، وتعقده ضفيرتين كما جرت عادة التسريحة، والتي كانت نفس تسريحة فاطمة عيد، بل بالغت أمي في تقليدها وارتدت نفس مناديلها زاهية الألوان، والتي في أعلاها ما يشبه الكرات الملونة بأكثر من لون في منديل واحد.

 كانت أمي تضحك وأنا أراقبها من بعيد، وبعد أن تنتهي تمسكني من يدي حتى لا أقع من فوق درجات السلم، وفي المساء تمنحني قطعة حلوى ومصروف الغد.

كنت أقلّ أقراني في الطول. أصابني التضخم في "اللوز" من كثرة النظر إلى أعلى لشجرة التوت. تمنيت أن تكبر في العمر لكي يتساقط توتها لوحده، ولا يقوى على الصمود ويسهل عليّ جمعه من فوق الأرض. لم أتمنّ حينها أن أكبر حتى أطول فروعها العالية وأقطف التوت بسهولة. لا أحب الكبر في العمر. تمنيته للشجرة وحرمته على نفسي. كبرت وكبرت أمي وبقيت شجرة التوت جذورها صامدة في الأرض وفروعها عالية كما هي، ولم يتساقط منها التوت وما زلت أعاني حتى الآن في قطف ثمرة واحدة منها، ألم يأتيك حديث من يغار من شجرة توت؟

 بات مشهد سقوط "المشط" من يد أمي المرتعشة لا يفارق خيالي هي وشعرها الأبيض. حزن ينتابني كلما تذكرت أنها كبرت في السن ولم يرحم الزمن ضعفها. لا أعرف كيف أوقف الزمن ودقات الساعات التي لا تتوقف لتعلن كل ساعة عن العد التنازلي في عمرها. من صغري وأنا أكره عيد ميلادي، ولا أحب الاحتفال به، لقناعتي بأنه من البلاهة أن أفرح بنقصان عام من عمري.

إذا كان كريم الشعر أعاد لها لونه، فمن يعيد لها شبابها الذي سرقته الأيام الشبيهة بنشال ضبط وفي يده حافظة المجني عليه، ولكنه ينكر جريمته؟

في طفولتي، سمعت شيخ الجامع ذات خطبة جمعة يقول إن الطفل يولد من بطن أمه ويده مقفولة وكأنه يقبض يده على الحياة، وعلى العكس، عندما يموت تكون يده مبسوطة وكأنه يودعها ولم يأخذ منها شيئاً. ربما كانت كلمات الشيخ التي توضح الفرق بين حب الحياة وكره الموت ما حفظته عنه، ومازالت عالقة في ذهني من بين كل ما كان يقوله ويردده في كل خطبة.

الأسبوع الماضي اشتريت لأمي علبة كريم تقضي على الشعر الأبيض وتعيده إلى لونه الأول، وهي آمنة وأفضل من الصبغات، كما تقول الشركة المنتجة. كان الكريم هو محاولة مني لرسم ابتسامة على وجه أمي عندما تجد شعرها الأبيض قد اختفى، أو على أقل تقدير اختفى بعضه تدريجياً، ومع كثرة الاستعمال ربما يتحول إلى لونه الأسود الطبيعي، إذ صدقت الشركة المنتجة.

انتظرت حتى غسلت أمي شعرها وأمسكت بخصلاته وبدأت في تصفيفه ثم وضعت عليه بعض الكريم، وفي الصباح استيقظت من نومها وغسلت شعرها. ثمة ابتسامة جلية ظهرت على وجهها عندما وجدته يتحوّل للأسود، ولكن باتت الأسئلة تدور في عقلي، إذا كان كريم الشعر أعاد لها لونه، فمن يعيد لها شبابها الذي سرقته الأيام الشبيهة بنشال ضبط وفي يده حافظة المجني عليه، ولكنه ينكر جريمته؟

الحقيقة إن الزمن لا يعود ويجري يهرس شبابنا تحت قدميه. لم أفق على صوت أمي وهي تربت على كتفي، بينما لسان حالي يقول: "أرجوك يا أمي لا تكبري".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard