في ليلة ظلماء، يعلو فيها صوت رصاص جنود قوات الدعم السريع، التي سيطرت على مدينة ود مدني، في 18 كانون الأول/ديسمبر المنقضي، كانت عائلة محمد عثمان المريض بالفشل الكلوي تتجول في عاصمة ولاية الجزيرة، بحثاً عن جلسة غسيل تنقذ حياته. بعد معاناة وصلت العائلة إلى المستشفى الوحيد الذي ما يزال في الخدمة، لكنها لم تجد مستلزمات الجلسة العلاجية، ليُسلم عثمان الروح في المدينة التي كانت الملاذ لمن فروا بحياتهم من الخرطوم منذ اندلاع الحرب منتصف نيسان/ أبريل 2023 وحتى وقت قريب.
وفيات المرضى
محمد عثمان واحد من عشرات المرضى الذين فقدوا حياتهم بسبب توقف المستشفيات والنقص الحاد في الأدوية سيّما الخاصة بالأمراض المزمنة، بحسب مصدر طبي من ود مدني تحدث إلى رصيف22، طالباً عدم الكشف عن هويته لاعتبارات السلامة الشخصية. يضيف المصدر الطبي: "لا توجد إحصاءات دقيقة لوفيات المرضى في ود مدني، لكن العدد كبير. فقد كانت المستشفيات مليئة بالمرضى والعديد منهم كانت حالته خطرة".
يشدد المصدر على أنّ ود مدني تعيش وضعاً صحياً كارثياً، بعد استباحتها من قبل الدعم السريع، محذراً من ارتفاع أعداد الوفيات في ظل شبه انعدام الخدمات الصحية.
تقع ود مدني على ضفة النيل الأزرق الغربية، وتبعد نحو 186 كيلومتراً عن العاصمة الخرطوم، وهي حاضرة ولاية الجزيرة، التي يوجد فيها أهم وأقدم مشروع زراعي، وهو مشروع "الجزيرة" الزراعي الذي تقدر مساحته بحوالي 2.2 مليون فدان، وتشترك الولاية في الحدود الجنوبية مع ولاية الخرطوم.
"سقوط ود مدني شكّل هزيمة معنوية كبيرة للجيش السوداني، ونصراً لقوات الدعم السريع، لكنه تحول إلى هزيمة أخلاقية"... كيف؟
يقول عضو لجان المقاومة في ود مدني، سامي عبد القادر، إن "قوات الدعم السريع بعد سيطرتها على المدينة قامت بنهب الأسواق والبنوك والمرافق العامة ومنازل المواطنين، وظلت تبحث عن السيارات والدراجات البخارية والأموال والذهب والمقتنيات، وتهدد كل من يعترض قواتها بالقتل"، مردفاً، لرصيف 22، بأنّ أغلبية أحياء المدينة شهدت حالة نزوح نحو مدينتي سنار والقضارف، وبأن أغلب مدن ولاية الجزيرة شهدت أحداث نهب واسعة.
أما المواطن أحمد ناصر، فيقول لرصيف22 إن مرضى ود مدني باتوا يتجهون إلى المراكز الطرفية لولاية الجزيرة، بعد توقف جميع المشافي، التي تحولت إلى "ثكنات عسكرية"، على حد قوله. وهو يتابع بأنّ المرضى يفتقدون لوسائل نقل حديثة وآمنة، ويستخدمون عربات "الكارو" بعد أنّ نُهِبَت السيارات من قبل أفراد يرتدون زي الدعم السريع.
أزمة إنسانية
بدورها، تصف رئيسة اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان هبة عمر إبراهيم، الوضع في مدينة ود مدني بـ"الكارثي". تشرح لرصيف22 أن كل المرافق الصحية أصبحت خارج الخدمة وتعرضت المستشفيات والصيدليات للتخريب، بينما تحاول مئات الأسر الهروب من المدينة.
الجدير بالذكر أن ود مدني تُعد المركز الرئيسي لعمليات الإغاثة في السودان. وقد حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) من فقدانها القدرة على الاستمرار في برنامجها الذي يوفر الرعاية لنحو خمسة ملايين طفل/ة. كانت منظمة الصحة العالمية هي الأخرى قد حذرت من أنّ جهود مواجهة تفشي الكوليرا في الجزيرة أصبحت عسيرة بعد دخول الدعم السريع ود مدني. بحسب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوغاريك، نزح نحو ستة ملايين شخص داخل السودان منذ اندلاع الحرب، بينهم نحو نصف مليون نزحوا من ولاية الجزيرة بعد دخول الدعم السريع إليها.
من جانبه، اتهم برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة قوات الدعم السريع بنهب الإمدادات الغذائية من مقره في ولاية الجزيرة، ما اضطر البرنامج إلى تعليق عملياته هناك.
في أحدث الانتهاكات التي شهدتها ود مدني، بعد قرابة الشهر تحت سيطرة الدعم السريع، أُحرق مبنى الكنيسة الإنجيلية المشيخية في حي "القسم الأول" يوم الجمعة الموافق 12 كانون الثاني/ يناير الجاري. تعرض المبنى لأضرار بالغة، ودُمرت الصالة الرئيسية والمكتبة التي تحوي وثائق تاريخية، فيما لم يُبلغ عن وجود إصابات بين العاملين في الكنيسة. وحمَّل الأمين العام للكنيسة الإنجيلية المشيخية القس يوسف مطر، في تصريحات لموقع "سودان تربيون" المحلي، قوات الدعم السريع المسؤولية الأخلاقية والجنائية للحادث، كونها تسيطر على المنطقة بشكل كامل ولن تستطيع أي جهة الدخول للمقر دون علمها، على حد قوله. وفي إشارة إلى وجود جريمة كراهية، أضاف القس مطر: "قد يكون وراء الحادثة متطرفون إسلاميون أو متطرفون داخل قوات الدعم السريع".
ولا تتوقف تبعات انتهاكات الدعم السريع في ود مدني على سكان المدينة، بل تمتد إلى كافة ولايات السودان حيث يمثّل مشروع الجزيرة الزراعي أهم مراكز الإنتاج الزراعي في البلاد. يقول محافظ مشروع الجزيرة عمر مرزوق، لرصيف 22، إن جميع مدخلات المشروع تمت سرقتها ونهبها بواسطة قوات الدعم السريع بعد دخولها لمقر المشروع بمنطقة بركات جنوب ود مدني.
في أحدث الانتهاكات التي شهدتها ود مدني، أُحرق مبنى الكنيسة الإنجيلية المشيخية. حمَّل الأمين العام للكنيسة الإنجيلية المشيخية القس يوسف مطر قوات الدعم السريع المسؤولية الأخلاقية والجنائية للحادث الذي وقع في نطاق سيطرتها، ملمحاً "قد يكون وراء الحادثة متطرفون إسلاميون أو متطرفون داخل قوات الدعم السريع"
يضيف مرزوق أنّ عدداً من السيارات والآليات التابعة للوحدة الزراعية بمنطقة مرجان أيضاً سُرقت، كما تعرضت مخازن المحاصيل الزراعية من قمح وذرة للنهب، مُحملاً الدعم السريع المسؤولية عن ذلك.
في الوقت نفسه، يحذر محافظ المشروع من تعرض نصف مليون فدان مزروعة بالمحاصيل الشتوية للفساد، من بينها 200 ألف فدان مزروعة بالقمح، وذلك بسبب فقدان إدارة المشروع القدرة على إدارة عمليات الري.
علاوةً على ما سبق، يواجه الشباب في مدينة ود مدني والجزيرة خطر التجنيد القسري في الدعم السريع. يقول ناشط فضل عدم الكشف عن هويته، لرصيف22، إن الدعم السريع يحاول تجنيد الشباب تحت غطاء تقديم الخدمات. ويتابع بأنّ قوات الدعم منحت العاملين في تقديم الخدمات بطاقات انتساب إليها بدعوى تسهيل الحركة، موضحاً أنّهم لا يكون أمامهم خيار، إما الانتساب إلى الدعم أو التوقف عن المشاركة في العمل الخدمي.
مأزق أخلاقي؟
ونفى الدعم السريع على لسان قائده محمد حمدان دقلو (حميدتي) المسؤولية عن تلك الجرائم. ويقول عضو المكتب الاستشاري لقائد قوات الدعم السريع عمران عبد الله، لرصيف22، إن قوات الدعم السريع لم تقم بسرقة مخازن الإمدادات الغذائي ومخازن مشروع الجزيرة، مردفاً بأن السرقة تمت بواسطة "متفلتين لا علاقة لهم بالدعم"، ومؤكداً على صدور توجيهات بالحسم مع هؤلاء المتفلتين بقوة السلاح. وهو يتهم أيضاً "فلول النظام البائد" بالمسؤولية عن الانفلات الأمني على غرار ما ردده سلفاً حميدتي.
تمثّل تجربة الدعم السريع في مدينة ود مدني مأزقاً أخلاقياً للميليشيا إذ لا توجد صراعات قبلية وعرقية يمكن التذرّع بها أو تحميلها المسؤولية عن الانفلات الأمني المزعوم، ولا وجود لقوات الجيش التي طالما تبادلت الاتهامات معها
لكن مصدراً في وزارة الخارجية السودانية، طلب عدم الكشف عن اسمه، أكد لرصيف22 أنّ "ميليشيا الدعم السريع الإرهابية تحاول إفقار الدولة من خلال سرقة الأسواق والبنوك وكل المرافق الخدمية ومنازل المواطنين".
تمثّل تجربة الدعم السريع في مدينة ود مدني مأزقاً أخلاقياً للميليشيا حيث لا توجد صراعات قبلية وعرقية يمكن التذرّع بها أو تحميلها المسؤولية عن الانفلات الأمني المزعوم، ولا وجود لقوات الجيش التي طالما تبادلت الاتهامات معها.
ويرى الخبير العسكري أسعد آلتاي أن سقوط ود مدني شكّل هزيمة معنوية كبيرة للجيش السوداني، ونصر لقوات الدعم السريع، لكنه تحول إلى هزيمة أخلاقية. موضحاً لرصيف22 بأنّه بدلاً من أن يفتح النصر الطريق أمام الدعم السريع لدخول المدن الكبرى بعد ود مدني مثل سنار وكسلا، تحول إلى مأزق.
يتابع آلتاي بأن رد الفعل القوي المحلي والدولي بسبب الانفلات الأمني في ود مدني تسبب في تخوّف عدد من القادة العسكريين في الدعم السريع من التقدم إلى مناطق أخرى. لا يتوقع آلتاي أنّ يوسع الدعم السريع سيطرته إلى الولايات الشرقية من الجزيرة، قبل أنّ يحقق الأمن في ود مدني.
ويرى مراقبون سودانيون أنّ سلوك النهب والفوضى لدى أفراد الدعم السريع يتزايد في المناطق التي يتوسعون إليها، وفي ظل تعقد المشهد السياسي وعدم وجود أفق قريب للتوصل إلى تسوية، فإن المتوقع هو توحش تلك القوات التي تعاني من قلة الانضباط وعدم وجود رؤية سياسية لها، ولهذا قد تتوسع بلا هدف مسببة فوضى شاملة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون