لم تكن مريم ألبير تعلم أنَّ اختيار أصدقائها في الجامعة سيُسبب لها مشاكل داخل الكنيسة التي تتبعها، والمنزل أيضاً، حيث وجدت نفسها في مواجهة الأسقف في محافظة القليوبية، وتهديداً بالحرمان الكنسي.
فبينما كانت تتأهب للالتحاق بكلية الآداب في جامعة بنها (40 كيلومتراً شمال القاهرة) قبل عدة سنوات، حضرت اجتماعاً عُقد في مطرانية شبرا الخيمة، التي تتبعها قريتها الواقعة في مركز قليوب بمحافظة القليوبية، ضمَّ الطلاب الجدد الذين سيبدأون عامهم الجامعي الأول، مع عدد من طلاب الصفوف الأكبر.
في هذا الاجتماع، طُلب من الطلبة الجدد عدم الابتعاد عن بعضهم البعض، وأن يشكلوا مجموعات حسب الكليات، ويطلبون مشورة الطلاب الأكبر سناً، حتى "لا يتعرضوا للمضايقات". تعاملت مريم مع الأمر باعتباره مجرد توجيه من التوجيهات غير الملزمة، فهي ذاهبة إلى مجتمع جديد وتشعر بالحماس لتتعرف عليه.
لائحة العرس هو إجراء متبع في إيبارشية المنوفية منذ عام 2003، يحظر إقامة أي مظاهر احتفال خارج الكنيسة، ويمنع طقس "ليلة الحنة"، وهي عادة مصرية ريفية إذ تجتمع نساء العائلتان قبل العرس بيوم ويحتفلن ويرقصن
في اليوم الأول للجامعة فوجئت مريم، وهي ابنة لأسرة ريفية متوسطة، يعمل والدها موظفاً وأمها مُعلِّمة، ويمتلك الأب بالإضافة إلى ذلك قطعة أرضٍ صغيرة، بالطلاب الجدد يتصلون بها ليلتقوا بها بين المحاضرات في أحد ممرات الكلية. واظبت لمدة شهر على قضاء أوقاتها بين المحاضرات في هذا الممر مع الطلاب المسيحيين الآخرين، حتى توقفت بعد مشادة مع زميلة لا ترتاح للتعامل معها.
"الموضوع شخصي. مش كفاية يكون الشخص مسيحي علشان يكون صديقي، ومكنتش عايزة أكون معزولة في الكلية خصوصاً إني كنت المسيحية الوحيدة التي التحقت بقسمي من المجموعة، فكنت بقضي أغلب وقتي مع طلبة قسمي، بس الموضوع أخد أبعاد تانية"، تقول مريم لرصيف22.
فبعد أسبوع، فوجئت الفتاة باستدعاء الأسقف لها وتوبيخها على ترك مجموعة الطلاب المسيحيين، ملمحاً إلى أن هذا "أعطى انطباعاً" داخل الكنيسة بأنَّ لها "ميول دينية أخرى". عندما أخبرت والديها، وجدتهما في صف الكنيسة.
بدأت عائلة مريم تضيِّق على تعاملاتها مع زملائها بعد هذا الموقف، وأجرت والدتها محادثة طويلة معها أخبرتها فيها أن الأسقف قدم تهديداً مبطناً بأنها تُعرض نفسها للـحرمان الكنسي، وهو إجراء عقابي يقطع صلتها بالكنيسة في كل ما يخص العبادات، ما اضطرها مرة أخرى للعودة إلى اجتماعات الممر.
حالة من بين كثيرين
مريم واحدة من حالات كثيرة لأقباط مصريين يعانون من سيطرة رجال الكنيسة على حياتهم خارجها. ففي مطلع الشهر الجاري، أحيل المعيد في جامعة المنوفية (80 كيلومتراً شمال القاهرة) كيرلس ناشد إلى المحاكمة بتهمة ازدراء الديانة المسيحية، وكذلك التشهير بسمعة الأنبا بنيامين أسقف المنوفية، بسبب خلاف بشأن لائحة أعراس تفرض شروطاً على حفلات الزواج التي تجري خارج الكنيسة، وفق بيان أصدرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
ولائحة العرس هو إجراء متبع في إيبارشية المنوفية منذ عام 2003، يحظر إقامة أي مظاهر احتفال خارج الكنيسة، ويمنع طقس "ليلة الحنة"، وهي عادة مصرية ريفية إذ تجتمع نساء العائلتان قبل العرس بيوم ويحتفلن ويرقصن، وبعض القيود الأخرى. وتُلزم اللائحة أسرة العروسين بدفع مبلغ من المال للكنيسة، يُردّ إذا تمت الإجراءات دون مخالفات.
وبالإضافة إلى اعتراضه على هذه اللائحة، نشبت خلافات لاهوتية أخرى بين كيرلس والكنيسة بشأن الاعتراف والتوبة، انتهت بمنعه من دخول الكنيسة واتهامه بـ"البروتستانتية"، قبل أن يفاجأ بوجود بلاغ ضده يتهمه بازدراء المسيحية والتشهير بسمعة الأنبا بنيامين.
أدوار متعددة
يشير إسحاق إبراهيم، مسؤول ملف الحريات الدينية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، إلى أنَّ رجال الدين والأقباط يتحملون بالمشاركة مسؤولية تعاظم دور الكهنة في الحياة الاجتماعية للأقباط خلال السنوات الأخيرة، "فرجال الدين حصلوا على امتيازات اجتماعية وسيطرة لا يريدون التخلي عنها، والأقباط أنفسهم وضعوا رجال الدين في مرتبة أكبر من دورهم، فأصبحوا يستشيرونهم في أمور اجتماعية، فمن يريد الزواج يذهب للكاهن، من يريد أن يدخل الجامعة يذهب يستشير الكاهن، وهكذا".
ويوضح الحقوقي، الذي يتولّى ملف الحريات الدينية في المبادرة، أنه "لا يمكن النظر إلى هذا التعاظم بمعزل عن الوضع السياسي؛ من غياب دور الدولة وانتشار المد الإسلامي الذي قابله أيضاً احتواء للمسيحيين داخل الكنيسة، وتقديم الخدمات الاجتماعية مثل الحضانة والمستوصف وغيرهما".
وفي حديثه إلى رصيف 22، يلفت إبراهيم إلى أنَّ الأمر يرتبط إلى درجة كبيرة بالواقع الاجتماعي في الريف، حيث تكون العلاقات الاجتماعية، خاصة بين الشباب والبنات أكثر تعقيداً، مع تصاعد مخاوف الأسلمة، مشيراً إلى أن الكنائس في المدن الكبيرة مثل القاهرة لا تتعامل مع رعيتها بالطرق نفسها، وقد لا يكون هناك تعامل من الأساس.
ترى سارة علام، الباحثة في الشأن القبطي، أنَّ سيطرة الكهنة على حياة المسيحيين بدأت باعتبار الكنيسة مركز المجتمع القبطي، وهذا لتعقيدات كثيرة من أهمها أن القانون يمنحها وصاية على الحقوق الشخصية للمسيحيين.
ويتابع أن "المستوى الثقافي وطبيعة العلاقات في المحافظة وحجم التواجد المسيحي فيها يجعل لكل محافظة سماتها. فمثلاً لا يمكن لكاهن في كنيسة في أحياء القاهرة الراقية مثل الزمالك أو مصر الجديدة، أن يفعل ما فعله الأنبا يؤانس أسقف أسيوط (388 كيلومتراً جنوب القاهرة) عندما وضع قواعد لملابس النساء في الكنائس وطبقها عليهن عنوة، لأن المستوى الثقافي والفكري هو الذي يحكم العلاقة بين الكاهن ورعيته".
ووفق إبراهيم، فإن إيبارشية سمالوط فرضت في أوقات سابقة لائحة تشبه لائحة العرس التي فرضها الأنبا بنيامين في إيبارشيته، قبل أن تقرر إلغاءها.
وإلى الشمال من أسيوط، وفي محافظة الجيزة المتاخمة للعاصمة، واجه جرجس عبد الملاك مشكلة مع كنيسته بسبب إلحاق ابنه بحضانة مختلطة، بدلاً من دار الحضانة التابعة للكنيسة. فهو كان يذهب بابنه إلى الحضانة التابعة للكنيسة، إلى أن حملت زوجته ولم تكن قادرة على إيصاله كل يوم، فنقله إلى حضانة ملاصقة لبيته يمكن له الذهاب إليها وحده فيما تراقبه والدته من الشرفة. غير أن جرجس تعرّض لتوبيخ من الكاهن، الذي اتهم الأب بإبعاد ابنه عن الجو الكنسي.
لم يخرج الحديث عن توبيخ بسيط اعتبره جرجس حباً من الكاهن الذي يخشى على ابنه؛ "أنا أفهم ما قام به أبونا، وأفهم أنه في إطار أبوي، فهو ينظر لابني على أنه حفيده"، يقول لرصيف22.
القانون الذي يمنح الأدوات
ترى سارة علام، الباحثة في الشأن القبطي، أنَّ سيطرة الكهنة على حياة المسيحيين بدأت باعتبار الكنيسة مركز المجتمع القبطي، وهذا لتعقيدات كثيرة من أهمها أن القانون يمنحها وصاية على الحقوق الشخصية للمسيحيين.
وتضيف لرصيف22: "لا يستطيع المسيحي المصري الزواج دون موافقة الكاهن، لأن القانون يمنحه دوراً مدنياً هو موثق الشهر العقاري، بالإضافة إلى دوره الكهنوتي".
ويشترط قانون الأحوال الشخصية أيضاً لإتمام الزواج مستنداً هاماً لا يصدر إلا من الكنيسة وهو شهادة خلو الموانع، التي تثبت أنَّ هذا الشخص يمكنه إتمام الزواج المسيحي، لذلك لا يمكن للمسيحي الذي لا ينتمي لكنيسة أو غير الملتزم دينياً الزواج في الكنيسة الأرثوذكسية، وعليه البحث عن كنيسة أخرى للزواج.
من جانبه، يرفض المفكر القبطي كمال زاخر استخدام مصطلح سيطرة الكهنة ويستبدله بمصطلح سيطرة الأساقفة، فـ"الكهنة هم الأقرب للشعب كما أنهم متزوجون، لذلك فإنهم أقرب إلى مشاكل رعاياهم، وأحياناً يعيشونها، بينما الأساقفة رهبان لم يعيشوا الحياة الاجتماعية الحقيقية".
وحاول رصيف22 التواصل مع المتحدث الرسمي للكنيسة القبطية القمص موسى إبراهيم، لكنه رفض التعليق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون