شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الزيف، أول الفارين من الحرب

الزيف، أول الفارين من الحرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الأربعاء 31 يناير 202411:17 ص

إلى اليوم الذي أكتب في هذه الكلمات، قُتلت في غزة أكثر من أربعة آلاف امرأة، تفاوتت أساليب القتل بين الأسلحة المحرّمة دولياً وبين الموت أثناء النزوح سيراً على الأقدام، إذ اضطرّت بعض النساء إلى النزوح أكثر من خمس مرات بين قطاعات غزة المختلفة، ونحو الجنوب باستمرار، وبعضهن متن برداً، وأخريات جوعاً، ومنهن من قتلن تحت الأنقاض، غير من تعرّضن للعنف في السجون، ناهيك عن الموت من القهر كل يوم. أين النسوية من كل هذا الموت والذل الذي تشهده النساء، وكيف فشلت النسوية المزيّفة من جديد؟

نسوية في حي شعبي

في فترة ما من حياتي، وجدت نفسي أبحث خلف معنى النسوية. بدأ الأمر بتمردي على النظرة المقدّسة للرجال، واختلاف لهجة حديثي عن باقي نساء البيت في شؤون معينة، مثل الحجاب والزواج، وحنقي على الرجال الغاضبين، حنقي على الرجال بشكل عام.

كل ذلك الاختلاف لم يعجب أحداً، حينها بدأت أبحث عن مفهوم وسبب لاختلافي يجعلني أتقبّله، وإن فشلت في تقبّله سأفشل بالضرورة في الاستمرار عليه، وسينتهي أمري بالخضوع للنظرة العامة الأكثر أماناً، والتي تجعل مني فتاة جيدة. ما الذي تريده الفتاة منا في النهاية سوى أن تكون محبوبة، أن تكون مطيعة فحسب؟ يبدو الأمر سهلاً.

صيحات النسوة البرجوازيات نحو المزيد من الإدارة والاستقلالية، زادت من الضغط المجتمعي على اللواتي لا تعلمن ما السر وراء الشركات، من لا يرتدين التنورات الضيقة ولا يملكن الرفاهية الكاملة للحصول على فنجان اللاتيه كل صباح
 حين وصلت لمفهوم النسوية، لم آخذ منه سوى المعاني التي تجعلني قادرة على الوقوف أمام القريبين مني على الأقل، ما يكفي لأجعل منه درعاً يحميني من اتهاماتهم وأفكارهم عني التي وضعتني في قالب المتمرّدة العاصية، فمفهوم النسوية بدا لي ناقصاً على الدوام، بل أصبح بالياً مع الوقت وغير كاف، فبالنظر للمجتمع الصغير المتهالك الذي عشت فيه، لم تستفد النساء من النسوية بشيء، ولا يعود الأمر إطلاقاً للطريقة التي تعمل بها أدمغتهن.

هن جميعاً، من أول العاملات في المصانع إلى الطبيبات في المستشفى، النساء في الشيفت الإضافي، من تقضين يومهن بالكامل بعيداً عن منازلهن، فلا تكن أبداً كافيات كزوجات أو ربات منزل، فيتعرضن لنوع ما من العنف في الدائرة الأكثر حميمية لهن.

تتسع الدائرة، فبعد أن كنت أرى أن النسوية ستنقذ هؤلاء النساء، رأيت يدها التي وضعتهن جميعاً في تلك الدائرة المفرغة من الضغط المجتمعي، فصيحات النسوة البرجوازيات نحو المزيد من الإدارة والاستقلالية، زادت من الضغط المجتمعي على اللواتي لا تعلمن ما السر وراء الشركات، من لا يرتدين التنورات الضيقة ولا يملكن الرفاهية الكاملة للحصول على فنجان اللاتيه كل صباح، و لن تحصلن، بأي شكل، على الحياة اللامعة التي حصلت عليها النساء في الطبقات الأعلى، ولم ينته الأمر عند تفاقم الطموح لدى تلك النساء وحسب، ولا على الضغط المجتمعي الواقع عليهن، بل أصبحت نساء المؤسسات بكل بساطة جزءاً من النظام الضاغط، بشكل مباشر أو غير مباشر، فهذه النسوية التي لا تراعي الشأن الطبقي أصبحت جزءاً رئيسياً لخدمة النظام الطبقي نفسه، وما زاد من تباين مفهوم النسوية مؤخراً، شكل الترويج لها على منصات التواصل الاجتماعي، فأصبحت دعوة النسوية كحل لفكرة العنصرية والعنف القائم على النوع مجرّد أشكال ربحية لخدمة مجموعة من النساء بعينهن، دون الالتفات للأغلبية العظمى التي لا تستفيد بأي شكل من مميزات النسوية، حتى مناهضة العنف ضد النساء هي وسيلة مبتورة الذراع عند الحديث عن المجتمعات الفقيرة، والتي يتلاعب نظام محكم الفساد في مصيرها ومصير نسائها بشكل خاص، فالمرأة الكادحة في بيئة عمل قد تكون في الشوارع لا تضمن لها أي خصوصية أو حماية لجسدها ولا  لطاقتها المهدورة بمبلغ سخيف من المال، ومع ذلك هي لا تملك رفاهية التخلي عنه، فهو، بشكل ما، يحميها من عنف آخر في بيئتها الأكثر حميمية، نظام العمل كله يسلبها اختياراتها.

وعلى كل، فمفهوم النسوية الرأسمالية لم يخدم سوى الأقلية من النساء، ولم يدعم بشكل فارق سوى النيوليبرالية التي لم تفشل في الضغط على التكوين المجتمعي وسحق الطبقات الدنيا، دون الالتفات لتفاقم العنف والعنصرية بين طياته مع الوقت.
وهذا ما تؤكد عليه روتنبرغ: "إن النسوية النيوليبرالية تشجّع النساء على الالتفات لهمومهن الفردية وطموحاتهن لتثبيت مكانتها في السوق برعاية الرأسمالية النيوليبرالية التي تتبنى خطاباً إقصائياً يتفاخر بأنه لا يأبه لمصير سوى النساء الأرستقراطيات، في صورة تعيدنا إلى ما قبل قيام الموجة الأولى من الحركة النسوية، حيث كانت تصبّ المكتسبات في مصلحة البيض والطبقات الاجتماعية الميسورة والمعيارية الغيرية، وتؤكد روتنبرغ أنه لا يوجد شيء جدير بالاهتمام بنسوية لا تهدّد القوى المهيمنة، بل تصبح مع الوقت جزءاً منها.

ماذا إذن عن نسوية من أجل 99%؟

ربما أصبح ذلك المفهوم الذي روّجت له الحركات النسوية مؤخراً أكثر شمولاً وأكثر انتباهاً للعبودية الجديدة التي طرحتها النسوية الرأسمالية، فتشير كاتبات "مانفسيتو نسوية من أجل 99%" إلى أن النسوية الليبرالية تزوّد النيوليبرالية بالأعذار المثالية. إنها تغطي السياسات الرجعية بهالة من التحرّر، فتتيح القوى الداعمة لرأس المال العالمي أن تظهر بمظهر تقدمي، هذه النسوية المزيفة التي تتحالف مع المراكز المالية العالمية في الولايات المتحدة بينما توفر غطاء لعداء الإسلام في أوروبا، هي نسوية الإناث صاحبات السلطة.
ويؤكدن أن ردّ النسوية الجديدة على النسوية الداعية لمشاركة النساء في أطر السلطة يتمثل في نسوية المقاومة، و ليس لنا مصلحة في كسر السقف الزجاجي مع ترك الأغلبية الساحقة تنظف شظايا الزجاج.
و تؤكد نانسي فريزر، إحدى مؤلفات البيان: "الخصم في كتابنا هو الرأسمالية، والهدف منه إحياء التنظير الاجتماعي الموسّع، وإن الهدف الأساسي وما تعهدت به رائدات النسوية الجديدة هو القضاء على جميع أشكال العنف القائم بالنضال ضد أشكال العنف في المجتمع الرأسمالي، وضد النظم الاجتماعية التي ينتجها، وبالطبع ضد الحروب بكونها أقسى وأوضح أشكال العنف".

هذه النسوية المزيفة التي تتحالف مع المراكز المالية العالمية في الولايات المتحدة بينما توفر غطاء لعداء الإسلام في أوروبا، هي نسوية الإناث صاحبات السلطة

صدر هذا المانفسيتو عام 2021، وتحرّكت هذه الموجة من الادعاءات والتوجهات نحو نسوية جديدة، لا تفرق في توجهها بين أي شكل من أشكال العنف والاضطهاد، وتحارب في الأصل النظام العالمي الذي يسحق الأقليات، والآن وفي 2024، وبينما تحدث الإبادة الجماعية في غزة و تهجّر النساء وتتم إبادتهن عرقياً، لم تنتفض النسوية من أجل هذا.

في نفس العالم الذي قتلت فيه لوسيا بيريز، عام 2016، والتي وقعت ضحية جريمة بشعة من التعدي عليها ثم تركها لتموت، فانتفضت النساء في الأرجنتين بصيحة نضالية بارزة "لن يحدث لامرأة أخرى"، فعبرت صرخاتهم إلى إيطاليا وإسبانيا والبرازيل وتركيا وبيرو والولايات المتحدة وتشيلي، وعشرات الدول من أجل فتاة واحدة.

في نفس العالم الذي أضربت فيه النساء عن العمل مدفوع الأجر، وتوسعن في مفهوم الإضراب إلى الامتناع عن الجنس وحتى الابتسامات، ليثبتن أنهن قوة لا يستهان بها وأنهن جديرات بإيقاف القتل والعنصرية.
في هذا العالم نفسه، ارتطمت النسوية بالجدار ذاته الذي حطم النظرة الساذجة للصورة التقدمية للعالم الذي نعيشه، وما كان "الواحد بالمائة" الذي أغفلته النسوية الجديدة سوى أخواتنا وبناتنا وصديقاتنا، والعنصرية الحقيقة تكمن في مصير المنظمات المناهضة لها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image