في حرب الصورة، انطلق الفنان والصحافي الفلسطيني بلال خالد (30 عاماً)، من مواليد قطاع غزة-خان يونس، والذي جال في عدد من البلدان حاملاً معه قضيته لإيصالها إلى العالم، عبر الرسم على الجدران (الغرافيتي)، وعدسة كاميراه التي لم تتوقف عن تغطية العديد من الأحداث خصوصاً حرب العام 2012 وحرب العام 2014، في قطاع غزة، حيث التقط صوراً عديدةً لغارات إسرائيلية على القطاع. إلى ذلك، هو واحد من أهم الفنانين البارزين في جميع أنحاء العالم في فن الخط العربي.
أراد خالد أن يوصل صورةً مغايرةً إلى العالم عن غزة، مفادها أن "القطاع يحب السلام ويحب الحياة برغم الآلام"، حيث ذكر مرةً في مقابلة صحافية: "قد تكون غزة محاصرةً، لكن لديها فنانين قادرين على استيعاب ما يحدث في فلسطين، ونقله إلى العالم الخارجي بطريقةٍ مختلفة".
منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، نتعرض لكمّ هائل من الصور والعديد من مقاطع الفيديو التي يتم تداولها، والتي توثق هذا القتل الجنوني وتفجير الغضب الصهيوني في وجه المدنيّين، والانتهاكات في حقهم، فعلى مرأى العالم قُصفت بيوت الغزّيين، وأحياؤهم، وعوائلهم، والمستشفيات والكنائس والمدارس بلا هوادة، حتى طالت الإعلاميين الذين أصبحوا في مرمى أهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية، لكي يتم حجب الحقيقة عن العالم. وبرغم ذلك لم يستطع بلال إلا أن يكون جزءاً من هذا المشهد، حتى غدت صوره حدثاً بحد ذاتها، وأداةً لنقل الحقيقة وتوثيقها.
فماذا فعل خالد؟ قرر أن يري العالم كيف يختلف الواقع بين بقعة جغرافية في أي مكان في العالم، وبين غزة اليوم وأمس. فعمل على ألبوم يجمع الصور التي التقطها في مونديال قطر، وصوراً أخذها في القطاع الذي يتعرض لحرب إبادة. في قطر طفلة تقف تحتفل مع أمها في لوسيل. وفي أحياء غزة المدمرة طفلة وأمّا تبحثان عن ملجأ والقليل من الخبز. في قطر، شاب حزين على خسارة منتخب بلاده. وفي غزة، شاب حزين على خسارة عائلته.
في حرب الصورة، انطلق الفنان والصحافي الفلسطيني بلال خالد (30 عاماً)، من مواليد قطاع غزة-خان يونس، والذي جال في عدد من البلدان حاملاً معه قضيته لإيصالها إلى العالم. إلكم/ن كيف وثق معاناة غزّة...
القصص المتناقضة
الصورة واحدة، ولكن القصص تختلف، بين مونديال قطر وحرب الإبادة الجماعية على غزة. يقول بلال خالد، إن "فكرة الألبوم، جاءت بالمصادفة مع الذكرى الأولى لمونديال قطر، ورحت أسترجع ذكريات أيامنا قبل الحرب، فوجدت صوراً كثيرةً من المونديال الذي ركزت فيه على أن ألتقط مشاهد الجماهير واللاعبين، والفرحة في عيونهم، والصرخات والتشجيع والدموع والخسارة والبكاء والانتظار، ولهفة الانتصار، ولم أكن أتخيل أن أوثّق حرباً قد تكون الأبشع على مر التاريخ على حياة المواطن الغزّي، فهنا وجبت المقارنة، إذ أظهرت التناقضات التي نعيشها الآن".
يروي بلال خالد لرصيف22، عن تجربته في توثيق أحداث مونديال قطر لعام 2022، وأحداث غزة اليوم في 2023، فيقول: "وثّقت في المونديال أمّاً تحضن ابنها وتبكي على خسارة منتخبها، بينما هنا في غزة توجد أم تحضن طفلها وتبكي على الباقين بسبب صاروخ ثقيل وقاتل كان خاطفاً لكل شيء. الأصوات والصرخات الفلسطينية هنا مرتجفة، كقلب تحت سقف ناغاه طائر".
يضيف: "هناك فرق بين اللاعب ميسي عندما كان ملقى على أرض الملعب، وبين عصفور استهدفته الطائرة الحربية ورمته فوق الأنقاض والركام، عصفور هامد تبقّى من حظيرة، بعد قصف. هناك فرق بين هتافات المشجعين وطفل رسم علم البرتغال على وجهه، وبين صورة طفل يغمره الدم نتيجة القصف".
يروي خالد: "الفلسطيني حزين، يجالس الحزن على أبواب الدكاكين، والبيوت، وعلى قارعة الطريق، وفي المقاهي وعلى الأرصفة، ويكثر من مزحاته الصغيرة معه كأنها تحية المساء أو الصباح وهو يعدّ الشهداء، وهذا ما أتعمد إيصاله. ففي كل مرة أشعر بأن هناك مسؤوليةً عليّ لتوثيق هذا المشهد، وأن شعباً هنا يُباد بالكامل. حتى اللغة الفلسطينية أصبحت مركبةً من ملح المفقودين والغائبين ودموعهم، كأنَّ اللصوص الذين يسرقون لحظاتنا وتراث عاطفتنا التي لا تشبه سواها، يريدون أن يوقفوا الزمن بهذا الحزن الخرائطيّ، اليقِظ والمنتبه والمهووس بالالتقاط... لكنّهم لم يعلموا أنَّ حزننا إكسيرنا، وجنازاتنا مواقيتنا المكانية، التي نستأنف منها التخفُّف من نيراننا وندباتنا ومشاهداتنا للجور والمظلمة".
تناقضات الحياة في غزة
في المونديال، استطاع بلال أن يكون محظوظاً في أن يرى العالم ويُريه للآخر بعيونه، ومنحته هذه الفرصة أن يكون جزءاً من هذا الحدث الكبير، ولكن بطريقةٍ أو بأخرى، أصبح هو الحدث، وعكسَ التناقضات في حياة الغزّي، وبدلاً من أن يكون هناك مشجعون للفرق، صار هناك مشجعون للاحتلال، ومشجعون للقضية الفلسطينية، وحكام ليسوا نزيهين على الإطلاق، يضعون الغزّيين في مرمى الهدف، ليقنصنا الإسرائيلي ويهدم كل شيء على رؤوسنا.
ولم يكن الغزي يعلم أنه لا يملك أي مدّرب أو حكَم عادل. يقاتل وحده وكأنه عارٍ بالكامل. يتحول المشهد إلى صرخات وصوت قذائف ليست مبهجةً على الإطلاق، فتقتل قلب كل فلسطيني عند سماعها، وكأننا أصبحنا نظراء لموت آخر.
المشهدية الحالية تحمل حقيقةً لم يكن أحد يتوقعها. عملياً، المعنى الذي تحمله الصوة لا يتجسد في لحظة التقاطها فحسب، وإنما يتشكل ما بعد ذلك ليغدو العالم الذي يتبنى هذه الصورة أشبه بمن يقول: "أنا أشهد على ذلك أيضاً"، ويضع في حسبانه رجفة الطفل، وحيرة الصبية، وحرقة الأم، فبهذه الطريقة انزاح بلال نحو لغة الناس، وانصهر كلياً في آلامهم
يوثّق بلال خالد أنه محاصر اليوم، وهو مرغم على توثيق صرخات الموت، وتصوير دموع الفقد وعويل الأطفال وبكاء الأمهات. فلا هتاف هنا سوى تكبير المشيعين الذين تعبت أكتافهم من حمل الجثث التي لا ينتهي تعدادها. حتى المشيعون يشيعون فكرةً لا جسداً، والفكرة تبقى في قلب الأم عادةً، الأم التي لم تعد هناك.
والحقيقة أن الصورة هذه المرة كانت أبلغ من كل قول وأوجع من كل حرف، وأندى من كل دماء، وأقنع من كل برهان، إذ لا أساطير في غزة، في مكان يبحث فيه البشر فقط عن الخبز والماء والوقود وساعات نوم وحمام ومكان يغسلون فيه الثياب ووقتاً ليحزنوا فيه ويدفنوا آلاف الضحايا، فهل رأيتم أسطورةً في الدنيا تبحث عما سبق؟ في غزة، ننام ونحن نفكر في أشيائنا العادية جداً؛ امتحان ما بالجامعة، شراء قطعة ثياب جديدة، قلق بسبب التقدم لوظيفة ما، مشاهدة العالم الخارجي من خلف شاشات التلفاز والهواتف، وكأننا محرومون بالكامل من القفز إلى الضفة الأخرى. فكيف نسعى إلى حياة أفضل دون الشعور بأن حياة الغزّي لا تساوي الكثير عندما تصطدم بحقيقة أنه معرض للقتل والتجويع في أي لحظة، ثم فجأةً يتغير صوت المنبّه، وتلغى الامتحانات، وتعلّق الدراسة في المدارس والجامعات، وينبعث البارود من كل مكان، وتتحول الجزيرة إلى اللون الأحمر، ونفتح المذياع، والتلغرام، ونعيد جدولة كل الخطط في رأسنا. في غزة يتغير كل شيء في لحظة واحدة، والمدينة كلها تستشهد.
وثّق بلال آخرين يولدون بانتصار الموت، وإن عاشوا فهم يستسلمون للموت، أصبحت حياتهم على أمل الموت. هم إما "أبطال أو ضحايا". المهم أننا سنموت، خليط بين مجموعة معادلات متناقضة، فغزة باتت تختلف عن قوانين الطبيعة المعروفة، ولكنها تشترك في قانون البقاء للأقوى.
معنى الصورة يتجسّد في انتشارها
المشهدية الحالية تحمل حقيقةً لم يكن أحد يتوقعها. عملياً، المعنى الذي تحمله الصوة لا يتجسد في لحظة التقاطها فحسب، وإنما يتشكل ما بعد ذلك ليغدو العالم الذي يتبنى هذه الصورة أشبه بمن يقول: "أنا أشهد على ذلك أيضاً"، ويضع في حسبانه رجفة الطفل، وحيرة الصبية، وحرقة الأم، فبهذه الطريقة انزاح بلال نحو لغة الناس، وانصهر كلياً في آلامهم، فتحول إلى كومة من أسى، وهو يضبط عدسته لالتقاط صور الأطفال والمضرجيّن بالدماء، ليضع النقاط على الحروف، ويحددّ أطراف الحكاية بوضوح، فهذا القاتل، وهذا المرتجف، وهذا الشهيد، وهذا المقاوم، وهذا القوي، وهذا يجترح أركان بطولة كدنا ننسى تجليّاتها، حتى بتنا لا نصدّق معجزة حدوثها.
بلال خالد لرصيف22: "الفلسطيني حزين، يجالس الحزن على أبواب الدكاكين، والبيوت، وعلى قارعة الطريق، وفي المقاهي وعلى الأرصفة، ويكثر من مزحاته الصغيرة معه كأنها تحية المساء أو الصباح وهو يعدّ الشهداء، وهذا ما أتعمد إيصاله"
الرواية التي أنتجها بلال في الصورة، والرسالة التي أراد إيصالها عبر هذه الصور هي ثقل المشاعر التي حركت قلوب الناشطين، والذين أضافوا بدورهم إلى هذه الرواية مواقفهم المطالبة بوقف هذه الإبادة، وأن هنا شعباً يُقتل، ولكنه يحب الحياة ما استطاع إليها سبيلاً، ولاحقاً ستتحول الصورة إلى مرجع في ذاكرة العالم.
"نحن جميعنا نهايات تنتظر التجسيد، وتنتظر مراسيم الختام، التي عنوانها الأرض. وهل أرض توازي كل هذا الموت؟ حقاً توازيه. مهما استشرست الأجساد الخبيثة، وقتلت، لإسكات الصوت الفلسطيني الحزين، فلن يستطيعوا". يختم بلال خالد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه