شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
محور فيلادلفيا.. رعب آخر يجثم على صدور النازحين الفلسطينيّين

محور فيلادلفيا.. رعب آخر يجثم على صدور النازحين الفلسطينيّين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

"نحن ضعفاء ولا حلول لدينا، ولسنا صامدين، أنظر حولك، هل هذا صمود؟ هذه ليست حياة، وهذا المصير أحقر ما يمكن أن يصل إليه الإنسان. لذا فإن احتلال محور فيلادلفيا سيكون كارثة بمعنى الكلمة، إن لم نكن قد عدنا إلى أماكن سكنانا شمال غزة"، يقول لرصيف22 محمد الشيخ ديب (67 عاماً) النازح من بيت لاهيا شمال قطاع غزة إلى رفح. التقيت بمحمد داخل تجمع كبير من خيم النازحين في رفح، وتحديداً في منطقة حي السلطان التي تبعد مئات الأمتار عن محور فيلادلفيا، مضيت مشدوهاً بالمنظر، مصدوماً من عدد الخيام المنصوبة في العراء، بشكل منتظم تارة، وعشوائي تارة أخرى، كأنما تكسرت مكونات الحياة فجأة، فتحولت إلى خيم مبعثرة.

تبدو الأزمات في حياة الفلسطيني متزاحمة، مكرّسة، مرهقة، مميتة، وكأن عليه أن يواجه جميع أشكال الألم دون أي نقصان. فلم يعهد التاريخ الفلسطيني الحديث حالة استقرار يمكن للمواطنين معها الشعور بالراحة؛ حالة تمكنهم من الحصول على استراحة مقاتل. ثم جاءت الحرب الأخيرة على غزة، لتجمع كل أشكال البؤس في الصورة الفلسطينية، بما حملته من إبادة جماعية متقصدة ضد الأبرياء من قبل الاحتلال الإسرائيلي، شملت هدم البيوت فوق رؤوسهم، وتهجيرهم من منازلهم، والتنكيل بأجسادهم وجثثهم، واعتقال الكثير منهم.

أما النازحون الذين يشكلون أكثر من 85% من سكان القطاع، فلديهم مخاوف وجودية حول مصيرهم. متى سيعودون إلى بيوتهم؟ هل ستخلق إسرائيل منطقة عازلة في الشمال كي يعود مستوطنوها إلى غلاف غزة "بأمان"؟ هل ستحتل إسرائيل محور فيلادلفيا من أجل عزل القطاع أكثر فأكثر؟ فقد لوحت إسرائيل بنيتها السيطرة على محور فيلادلفيا؛ "محور صلاح الدين"، وهو الشريط الحدودي الفاصل بين مصر وقطاع غزة، أقصى جنوب قطاع غزة، ويعد جغرافيا منطقة فلسطينية عازلة بين القطاع ومصر، وافقت إسرائيل على أن يبقى منطقة عازلة ضمن اتفاقية كامب ديفيد مع مصر عام 1979، وبقي خاضعا لسيطرة إسرائيل أمنياً، حتى انسحابها من قطاع غزة عام 2005. هذه الأسئلة حول المستقبل والمصير ليست أسئلة المحللين السياسيين فقط، إنما أسئلة الغزيين بالدرجة الأولى، الذين ينزع منهم حقهم في تقرير مصيرهم. أسئلة تفتح المزيد من التكهنات والخيالات المرعبة في أذهانهم.

نحن ضعفاء ولا حلول لدينا، ولسنا صامدين، أنظر حولك، هل هذا صمود؟ هذه ليست حياة، وهذا المصير أحقر ما يمكن أن يصل إليه الإنسان.

"إن جاؤوا لاحتلال فيلادلفيا، فمن الأفضل لنا أن ندفن أنفسنا"

"إن تلويح الاحتلال الإسرائيلي بالسيطرة على محور فلادلفيا، يعني اقتراب عودتنا إلى شمال القطاع، فليس من المعقول أن تأتي الدبابات والآليات العسكرية على بعد أمتار من هنا، في ظل هذه الكثافة السكانية غير المعقولة. يجب على الدبابات أن تقوم بمسح أكثر من اثنين كيلو متر من المباني السكنية، وتسويتها بالأرض، من أجل التحرك في محيط المحور، ما يعني أن هذه الخيم ستشهد مجازر بشرية غير مسبوقة"، يقول محمد الشيخ ديب لرصيف22. ويضيف: "أشعر بخوف من المستقبل. أمضي أنا وعائلتي إلى المجهول والمصير الصعب، فلا يمكن التكهن بما سيحدث لنا. لكن في كل الأحوال، حياتنا انزلقت ولا أعرف كيف من الممكن استعادة الوقوف مرة أخرى. لا أستطيع حقاً أن أتخيل مصيراً أصعب مما حدث خلال هذه الحرب".

يبدو حال الناس المختنقة هنا مثل سفنجة مشبعة بالماء، ترى علامات الإرهاق والتعب على وجوههم بوضوح، حيث الجلد الشاحب والهالات تحت العيون، فكان من الصعب سؤالهم عن حالهم. منهم من تحفظوا أيضاً بسبب عدم قناعتهم بأن المؤسسات الإعلامية أو الصحفية ستستطيع إنقاذهم، أو لربما قناعتهم بأن لا طائل من الحديث، في ظل ما وصلت إليه حالهم.

تقول أماني المجبر (42 عاماً) لرصيف22، وهي نازحة من شرق مدينة غزة: "إن جاؤوا لاحتلال فيلادلفيا، فمن الأفضل لنا أن ندفن أنفسنا، دفناً جماعياً، أحسن يا شيخ، دعنا نريح العالم منا. إن كانوا محتارين بأمر مليوني إنسان، فليجدوا لهم حلاً ويعطوهم حقوقهم. كم هو بشع هذا العالم". وتتابع: "بإمكان جيش الاحتلال الإسرائيلي أن يفعل أي شيء ليتسبب في قهر الناس البسطاء، فهو جيش بلا أخلاق، ولا يلتزم بأي قانون. لا يقل لي أحد إن العالم يستطيع فعل شيء حيال ذلك. حتى مصر، ضعيفة مثلها مثلنا".

لا مكان آمناً والمستقبل مجهول

يأتي هذا التدافع الإجباري للسكان في جنوب القطاع بفعل المجازر الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين الفلسطينيين، بالإضافة إلى التهديد المستمر لرافضي الهجرة، عبر المنشورات العسكرية. ولا يكتفي الاحتلال بحشر الناس وتجوعيهم في جنوب قطاع غزة، بل يقوم بعمليات عسكرية جوية وبرية، في مناطق سبق وأن حددها آمنة، وبعيدة عن مراكز القتال، وهو ما يتسبب بزيادة الضحايا المدنيين، بالإضافة إلى لقلق والخوف لدى النازحين نحو الجنوب والذين تخطى عددهم المليون شخص كما تشير إحصاءات الأونروا. وبهذا، تكون زادت الكثافة السكانية في الجنوب بأربعة أضعاف. وسط الصخب والبرد والصراخ وبكاء الأطفال، والكثافة البشرية غير المحتملة، وبرد يناير، تقول أماني: "من المفترض أنهم حددوا هذا المكان كمكان آمن. نزحنا أنا وعائلتي وأولادي ثلاث مرات، رغماً عنا. جلبونا إلى هنا بالقهر والذل. وها أنت ترى، حياتنا ضنك، لا تحتملها الحيوانات". وتضيف: "يريدون احتلال محور فيلادلفيا؟ حتى وإن قدموا إلى هنا، فإلى أين سنذهب نحن؟ هل ظل شيء لم يفعلوه بحقنا؟ والله لقد تعبنا من كل ما يحصل لنا. رأس الواحد منا سينفجر من التفكير والخوف من المستقبل".

تغطيت أول ثلاث ليال داخل الخيمة بجاكيت أبي لعدم وفرة الأغطية. كنت أرجف ولا أعرف هل كان ذلك بسبب الخوف من الحياة أو البرد

وتبقى حالة الرفض لكل ما يحدث، والسخط على المآل، هي المشهدية الغالبة على حديث الناس هنا. فلا يمكن أن نجد أي رضا عند من يقطن في خيمة بهذه الظروف، ولا يجوز تسمية هذا المخيم بمكان آمن. التقينا إيمان صالحية (22 عاماً)، نزحت من حي الشجاعية، هربت من صوت الدبابات والانفجارات شرق غزة، وفي كل مرة تهرب كانت تظن بأنها المرة الأخيرة، لكنها تعبت من الهروب المتكرر. "كان من المفترض أن يكون هذا عام تخرجي من الجامعة، من كلية الهندسة المعمارية. لكني الآن أسكن داخل خيمة قريبة من الحدود، وحتى الخيمة التي أجبرنا على العيش فيها أصبحت الآن مهددة، حال أقدم الاحتلال على احتلال محور فيلادلفيا". تقول إيمان لرصيف22، وتردف: "لقد عشنا أصعب الظروف خلال الحرب، جعنا وسمعنا صوت بطوننا تصرخ في الليل، وشعرنا بالبرد داخل الخيمة، لدرجة أني تغطيت أول ثلاث ليال داخل الخيمة بجاكيت أبي لعدم وفرة الأغطية. كنت أرجف ولا أعرف هل كان ذلك بسبب الخوف من الحياة أو البرد. والآن صدقاً لا أستطيع تخيل المزيد. احتلال فيلادلفيا رعب آخر لا أستطيع تمريره في عقلي".

تلقي رغبة إسرائيل في احتلال محور فيلادلفيا بظلالها على الفلسطينيين جنوب القطاع. فهم يعيشون حياة أقرب ما تكون إلى الموت، معلقين بين أنياب الحرب والتجويع والتهجير والأمراض. وربما أصعب ما يمكن أن يصنعوه الآن هو الأمل. فتقول إيمان: "يكاد شعوري يصل إلى البلادة من كل ما يحدث، لربما تجمدت مشاعري من كثرة القهر الذي عشناه والبكاء الذي ذرفناه ولم يسمعه أحد. لقد تعلمت من هذه الحرب أن كل ما يقوله الاحتلال، في آخر الأمر يفعله، ولا أحد يستطيع إيقافه. قال إنه سيحتل قطاع غزة وتمكن، وقال إنه سيهجر الناس إلى الجنوب وفعل. نحن كل ما نفعله أننا نخضع ونتكيف مع الكوارث، لكن لا أعرف لأي مدى سنحتمل".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image