شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"أولاد الحرام أعدموا ابني دون ذنب"... هكذا تتم تصفية الغزيّين والغزيّات

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 24 يناير 202401:09 م

أذكر أم قصي جيّداً. امرأة ستينيّة مرحة، لا تبخل على أحد يطلب منها المساعدة. كانت تملك بقالة صغيرة تعتاش منها مع ابنها الوحيد قصي الذي جاءها بعد عشر سنوات من الزواج. عاش قصي (18 عاماً) يتيماً دون أب. لكن أمه عوضته بحبها هذا اليتم، حتى أصبح شاباً فيه الكثير من خصال أمه. اعتادت الأم اصطحاب ابنها أينما ذهبت، كي تعلمه البيع فيصير تاجراً كبيراً يتقن حرفته بمهارة. هكذا، لن يحتاج قصي خدمة من أحد إن رحلت أمه عن هذه الدنيا، فيعتمد على نفسه في زواجه وتربية أبنائه.

يوم 4 يناير/ كانون الثاني الماضي، توغل الاحتلال في مخيم البريج، حيث انتشرت الآليات العسكرية في كل شارع، وتربص القناص الإسرائيلي والقذائف بأزقته الضيقة. كان إطلاق الرصاص كالمطر في كل مكان، وطائرات من نوع " كواد كابتر" تطلق نيرانها على كل جسم يتحرك. كان قصي حينذاك ذاهباً صباحاً لشراء الفلافل لتناول وجبة الفطور مع والدته، كما اعتادا في كل صباح. أما هي، فتحضر أبريق الشاي ريثما يعود.

وفي أثناء هذه العودة المرتقبة، وقرب منزله، أطلقت طائرة الكواد كابتر رصاصها عليه فأعدمته مباشرة برصاصة في رأسه. "حين سمعت صوت إطلاق النار خارج البيت، شعرت بالطلق في قلبي. أصابني ضيق في التنفس بشكل مفاجئ. تيبست مفاصلي. تركت إبريق الشاي على الطاولة، وخرجت أركض إلى الشارع لأعرف ما الذي حصل"، تقول أم قصي في حديثها لرصيف22. وتتابع: "حين اقتربتُ وجدت الناس مجتمعين، وشباب الحارة يصرخون: قصي، قصي، اتصلوا بالإسعاف. توجهت مسرعة حافية القدمين نحوه. اقتربت فوجدت دمه يسيل. قلتك: استشهد ابني. وصرت أكبّر بصوت عال".

وكان المكتب الإعلامي الحقوقي أكد عبر تصريحات صحافية على أنه وثق شهادات حية تفيد بارتكاب جنود الاحتلال أكثر من 137 حالة إعدام ميدانية، في كل من مدينة غزة والشمال، بعضها تم توثيقها بالصورة ووصلت إلى العالم عبر صفحات التواصل الاجتماعي، وربما تخفى علينا حالات أخرى كثيرة. كما بيّن أن الاحتلال أسس معسكرات قتالية في مناطق شرق غزة، وحفر عندها حفراً كبيرة وضع فيها عشرات الغزيين، أحياء، ثم أعدمهم بإطلاق الرصاص المباشر عليهم، قبل دفنهم بالجرافات.

أولاد الحرام أعدموا ابني بدون ذنب. كان قصي يحب الحياة وكان يرغب بالزواج وإنجاب الأطفال. كان دائمًا يقول لي أريد أن أسمي ابنتي مريم، تيمناً باسمك

إعدام يطال الباقين والنازحين من بيوتهم

إن فظاعة القصص التي تتكشف في ظل جرائم الإعدامات الميدانية تتأتى من تقطيع الأوصال وتفريق الأحبة ومنعهم من وداع أحبتهم ودفنهم، وحتى معرفة مصيرهم في الكثير من الأحيان. فقد وثقت حالات كثيرة أعدمت فيها عائلات أو أفراد عائلات في بيوتهم ولم يتسن لأحد أن يصلهم. ذلك فضلاً عن الحالات التي ارتكبت فيها إعدامات ميدانية بحق غزيين وغزيّات خلال رحلة نزوحهم، باحثين عن مكان آمن وسط الإبادة. تقول أم قصي: "حين رأيت ابني على هذه الحال فقدت وعيي، ولم أستيقظ إلا بعد ساعات. أخبروني أنه تم دفن قصي على عجالة في مقبرة شمال المخيم مع مجموعة من الشهداء". وتضيف: "أولاد الحرام أعدموا ابني بدون ذنب. كان قصي يحب الحياة وكان يرغب بالزواج وإنجاب الأطفال. كان دائمًا يقول لي أريد أن أسمي ابنتي مريم، تيمناً باسمك. منذ تهديد الاحتلال لمخيم البريج، اقترحت عليه النزوح إلى رفح، لكته رفض وقال لي:"ما بترك بيتي لو على موتي".

قابلنا في رصيف22 شهادات عديدة تؤكد قيام جنود الاحتلال بقنص نازحين من بيوتهم، وإعدامهم ميدانيًا في رحلة نزوحهم المارة على خط صلاح الدين في غزة، والذي سمي بالممر الآمن، منها قصة لبنى (ثلاثينية، اسم مستعار). تقول لبنى بأن قناصاً إسرائيلياً أطلق النار صوبهم خلال نزوحهم من منطقة الصبرة، شرق غزة، نحو الجنوب. أطلق هذا رصاصة وأعدم شابين كانا يمشيان أمامها. تُركا ينزفان على الأرض ولم يجرؤ أحد على إنقاذهما أو حتى جرهما لدفنهما. بل ولم يجرؤ أحد على الالتفات إليهما خوفاً من أن يلقى نفس المصير.

أما مكرم عز الدين (38 عاماً) فقد كان شاهداً، أثناء رحلة نزوحه على إعدام ميداني لا يقل بشاعة. "أثناء توغل الاحتلال لمخيم جباليا، رفضنا الخروج أنا وعائلتي من المخيم نحو الجنوب. لكن عندما ازداد الأمر خطورة توجهنا إلى مخيمات ساحات المستشفى الإندونيسي. ثم سرعان ما وجدنا أنفسنا نواجه نفس مصير النازحين في مستشفى الشفاء حينما اقتحمه جنود الاحتلال. هربنا والقذائف فوق رؤوسنا، والدبابات على مسافة قصيرة منا"، يقول لرصيف22. ويردف: "كان قناصة الاحتلال يعتلون العمارات المرتفعة. وأثناء فرارنا شاهدت امرأة حامل كانت في طريقها إلى مستشفى العودة للولادة، وتحمل في يديها راية بيضاء، فقام القناص الإسرائيلي بإطلاق النار عليها وإعدامها". شهادة مكرم ليست الأولى أو الوحيدة لنساء حوامل أعدمن في طريقهن إلى الولادة، وحيدات. فقد وثقت سابقاً حالات إعدام لنساء متوجهات إلى مستشفى كمال عدوان شمال القطاع.

إنه منهج إسرائيل التاريخي

تتوالى الجرائم الإنسانية التي يرتكبها جنود الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين في قطاع غزة. فالإعدامات تضاف إلى المجازر اليومية التي ترتكب بحق المدنيين عبر قصف منازلهم، وإلى تهجير السكان قسراً، وإلى التجويع ومنع إدخال الوقود والأدوية والغذاء. وفي كل مرة تخلق إسرائيل مبررات واهية وأكاذيب تدعي من خلالها اضطرارها لمثل هذه العمليات بسبب "محاربتها للإرهاب في غزة"، سيما على لسان مسؤوليها الذين يتحدثون لوسائل إعلام غربية مختلفة. وفيما يتعلق بجرائم الإعدامات الميدانية، يدعي الاحتلال بأن حماس تستخدم هؤلاء المواطنين دروعاً بشرية. بينما ما وثّق فعلاً هو قيام الاحتلال نفسه، تاريخياً والآن في الحرب على غزة والضفة الغربية، باستخدام فلسطينيين دروعاً بشرية.

تأتي هذه التصفيات والإعدامات الميدانية كأداة منهجية ومخططة في الحرب على غزة، وبوصفها فعلاً يتماشى مع جميع التصريحات السياسية والعسكرية الإسرائيلية التي شرعنت قتل الفلسطينيين في غزة

فمن يتتبع تاريخ الاحتلال يرى سجله الأسود الحافل بالمجازر البشعة واتباعه سياسة الإعدامات الميدانية، منذ مجازر النكبة كمجزرة دير ياسين والطنطورة، ثم صبرا وشاتيلا، فالانتفاضة الفلسطينية، والإعدامات المتفرقة التي تحصل بشكل شبه يومي عند حواجز الاحتلال أو في محافظات الضفة والقدس.

خلال فترة الانتفاضة مثلاً، تعمد جنود الاحتلال تصفية الفلسطينيين المدنيين من خلال إعدامهم ميدانياً في جنح الظلام، عبر فرق خاصة أطلق عليها الفلسطينيون اسم "فرق الموت". ثم ظهرت فرق المستعربين لملاحقة وتصفية الفلسطينيين في وضح النهار، متخفين بهيئة مدنية. وقد اشتهرت فرقتان لدى الاحتلال الإسرائيلي بتنفيذ الإعدامات الميدانية خلال الانتفاضة الثانية وهما فرقة " دوفدوفان" وفرقة " شمشون" نسبة إلى أسطورة شمشون الجبار.

أما اليوم، فتأتي هذه التصفيات والإعدامات الميدانية كأداة منهجية ومخططة في الحرب على غزة، وبوصفها فعلاً يتماشى مع جميع التصريحات السياسية والعسكرية الإسرائيلية التي شرعنت قتل الفلسطينيين في غزة على اعتبار أنه لا يوجد مدنيين أبرياء في غزة، وأن جميع من فيها أعداء إسرائيل.

هل ستنصف المحكمة الدولية قصص الأبرياء؟

استخدمت إسرائيل حججاً كثيرة في قتلها لعشرات آلاف المدنيين بالقصف، فاعتبرتهم ثمناً عرضياً للحرب. فهل تبرر أيضاً إعدام عائلات بأكملها في بيوتها وفي المدارس والشوارع؟ وكيف ستفعل ذلك أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، والتي من المنتظر أن تحدد في الأيام المقبلة خطواتها المستقبلية بالدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد الاحتلال الإسرائيلي.

"إن الوقائع والشهادات التي أكدت تنفيذ إعدامات ميدانية بحق الفلسطينيين المدنيين تثبت أن الاحتلال يرتكب جرائم حرب وفق القوانين والأعراف الدولية، التي تحظر قتل المدنيين، كما تحظر قتل أي شخص مدني يرفع راية بيضاء دليلاً مثبتاً على الاستسلام وطلب الأمان"، يقول لرصيف22 مصطفى إبراهيم الحقوقي ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان. ويشير إلى مخالفة جنود الاحتلال للمادة الثالثة من اتفاقية جنيف والتي تنص على" لمعاملة الإنسانية لأي شخص لا يُشارك مباشرة بأعمال عدائية".

تدعو مؤسسة الضمير وغيرها من المؤسسات الفلسطينية إلى عدم التلكؤ في تقديم شكاو في المحاكم الدولية ضد جرائم الاحتلال في غزة. فالدلائل والبراهين ترتكب يومياً على الأرض، وتبث مباشرةً عبر حسابات الغزيين والغزيات في صفحات التواصل الاجتماعي وعبر الشاشات. وكانت جنوب أفريقيا عرضت في دعوتها المكونة من 84 صفحة، دلائل على انتهاك إسرائيل وتورطها في ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. فهل سينتظر العالم دلائل أكثر من هذه حتى تتوقف المجزرة؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image