شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"بطن الحوت"... الهروب من أَسْر الحكايات المقدّسة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الأربعاء 24 يناير 202404:25 م

"فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها. تائهاً وهارباً تكون في الأرض"

سفر التكوين 11:4-15

التاريخ هو منبع الحكايات، منها الأسطوري ومنها الحقيقي. ومن أقدم الحكايات المعروفة لدينا حكاية الشقيقين اللدودين: أوزير (أوزوريس) وسِت، رومولوس وريموس، والنسخة الأشهر: قابيل وهابيل، ولاحقاً قصة أبناء يعقوب/ إسرائيل الذين حاولوا قتل أخ وتخلوا عن آخر للأسر حقداً وغيرة. 

تختلف نسخ الحكاية في تفاصيل كثيرة، لكنها تتفق جميعها على غيرة أحد الشقيقين من الآخر وحقده عليه الذي ينتهي إلى القتل، في بعض النسخ حلت اللعنة على القاتل، وفي نسخ أخرى عاش القاتل ونعم بالنصر إلى نهاية العمر.

مسلسل بطن الحوت يتناول في ظاهره قصة عن صراعات تجارة المخدرات في منطقة شعبية، قائم في جوهره على الحكاية القديمة حيث يتصارع الأخوان ضيا وهلال ممثلين لطرفي معادلة الخير والشر القديمة ولكن في "تويست" مختلف

ولأن كل حكاية يتولد من رحمها حكايات، أصبحت تلك القصة مدخلاً لقصص أخرى كثيرة نهلت منها السينما والدراما أفلاماً وأعمالاً درامية قائمة على تيمة الأخوة الأعداء الذين يشتعل بينهم الحقد والغل والدم أحياناً، ويمل كل منهم أحد طرفي معادلة الخير والشر الثنائية الوعظية.

بناء على هذه التيمة، عرض مسلسل "بطن الحوت" الذي انتهى عرض آخر حلقاته قبل أيام، وهو من تأليف وإخراج أحمد فوزي صالح وبطولة محمد فراج، باسم سمرة وآخرين.

المسلسل الذي يتناول في ظاهره قصة عن صراعات تجارة المخدرات في منطقة شعبية، قائم في جوهره على الحكاية القديمة حيث يتصارع الأخوان ضيا وهلال ممثلين لطرفي معادلة الخير والشر القديمة ولكن في "تويست" مختلف.


قابيل الذي أضحى هابيلَ

للوهلة الأولى ستظن أن هلال هو قابيل وضياء هو هابيل، لكنها مجرد انطباعات مبدئية يعطيها لك المسلسل حتى منتصف حلقاته الأولى التي يتحول بعدها كل شيء، فالقصة ليست مجرد إخوة بينهم حقد، القصة هي: ماذا يفعل الحقد والغل بالإنسان. فهل نجح المسلسل في النجاة من فخ الوعظ الأخلاقي المرتبط بتلك الحكاية الأزلية؟

يسعى المخرج والكاتب أحمد فوزي صالح لأن يجعلنا نرى شخصياته من منظور فلسفي، حيث الشخصيات رمادية ويصعب تصنيفها، فلا يوجد شرير مطلق الشر، ولا خيّر حد الملائكية؛ تتغير الشخصيات وتتبدل مع المواقف وتتشكل كقطعة فخار تصنع ببطء شديد، فهلال الذي كان يبخ سمه فيما حوله قاتلاً ابنته وأعداءه وكل شيء، أصبح مع دخوله السجن ضعيفاً هشاً، أما ضيا الذي يعمل في صناعة أبيه ويلتزم طريقاً "قويماً" على العكس من أخيه، فيفيض محبة وسماحة على محيطيه، سرعان ما تتبدل أحواله وتجعله شراهته للمال قاتلاً بلا رحمة، ولو وصل الأمر بالبطش بأمه وتوأمه السجين. 

باستخدام أدوات الحكي الأقرب للسينما نجد الكاتب والمخرج أحمد فوزي صالح يكسر أنماط الحكي المعتادة ولا يستسلم لها، لنرى عملاً دراماً لا يستكين للتوقعات

يهوذا الذي رفض الـ30 فضة

”إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي يُسلَّم به ابن الإنسان، كان خيراً له لو لم يولد”

مرقس 21: 14

مقابل ثلاثين من الفضة، باع يهوذا الإسخريوطي المسيح وسلمه لمن يتآمرون عليه سراً، لكي يمسكوه بعيداً عن عيون الشعب.

يهوذا هنا هو بكر، الدور الذي أداه ببراعة شديدة جداً عصام عمر، لكن يهوذا "بطن الحوت" ينتفض ضد مصيره على عكس من خان المسيح الذي مضى في خيانته ثم قتل نفسه ندماً. باستخدام أدوات الحكي الأقرب للسينما نجد الكاتب والمخرج أحمد فوزي صالح يكسر أنماط الحكي المعتادة ولا يستسلم لها، لنرى عملاً دراماً لا يستكين للتوقعات. 

مسلسل بطن الحوت

نحن أمام عمل آخر يثبت فيه مخرج "بطن الحوت" تفرده كمخرج ومؤلف. عمل تظهر من خلاله لمحاته المميزة التي تجلت منذ فيلمه الوثائقي المميز "جلد حي" وصولاً للفيلم الطويل البديع "ورد مسموم"، والفيلمان يربط بينهما المكان. فالمكان في أعمال صالح بطل لا يمكن التغافل عنه، فهو المحرك الذي يتدخل ليوجه مصائر الشخصيات وتفاعلاتها. والمكان في بطن الحوت ينبض بحيوية البيوت، فتشعر كمشاهد بصلة كل شخصية بالأسرة والطبيعة وتعاملات الشخصية المختلفة مع تلك العناصر الثابتة أو شبه الثابتة نفسها. 

المكان هنا ليس مجرد ديكور، أو موقع تدور في الأحداث وله وظيفة جمالية وإنما نحرك للشخصيات ومعبر عنها وعن طبيعتها، كل هذه الحيوية والتصوير الخارجي مع لمحة صوفية لم يهملها مصمم الإنتاج في رسومات الحائط الموسيقى وغيرها.

في "بطن الحوت" نحن أمام عمل أراد الفكاك من أسر الحكاية المقدسة والثنائية الجامدة السطحية للخير والشر، فاستطاع عبر شخصيات مكتوبة بعناية، وصراعات داخلية أكثر منها خارجية وإيقاع صوفي كحضرة خاصة، في أن ينجح في مهمته، ويقدم أوراق اعتماده كعمل يعيش طويلاً، ويجعل كل مرة لمشاهدته تختلف عن غيرها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image