تخيل أنك تغرس نفسك في مجالٍ ما، تقضي فيه أغلب أوقاتك، تقرأ عنه كثيراً وتشاهد تاريخه. ويصادف أن ذلك المجال هو كرة القدم، التي تمتلك الشعبية الأكبر بين كل رياضات العالم، ثم تفاجأ دون سابق إنذار بما لم يكن مجرد حدث عابر. تكتشف أنه كانت هناك بطولة كأس عالم للسيدات في السبعينيات من القرن الماضي، لم تسمع عنها شيئاً بل لا تعرف أي أحد سمع عنها، تصبح أنت وإلى جانبك شخص لا يعرف شيئاً عن الكرة، وسيدة لا تزال تمارس اللعبة، وجميعكم لا تعرفون عن هذا الحدث الاستثنائي أي شيء. ذلك تحديداً ما حدث معي عندما عرفت بفيلم "كاس 71" أو copa 71، الذي عرض عربياً خلال فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي.
يُظهر فيلم "كاس 71" مشاهد أرشيفية عمرها الآن أكثر من خمسين عاماً لبطولة كأس العالم للسيدات المنسية "عمداً" كما يدعي الفيلم، التي أقيمت في المكسيك عام 1971 بمشاركة 6 دول هي الأرجنتين والدنمارك وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا والمكسيك، وهي الدول التي تشكلت فيها منتخبات نسائية للكرة قادرة على المشاركة في ذلك الوقت.
يوثق الفيلم ما أحاط النساء في ذلك الوقت من تشريعات متحيزة جنسياً بشكل مجحف، وتبدو الآن بعد مرور هذا الوقت جنونية في نظرتها للمرأة، وذلك من خلال المقابلات التي تظهر فيها اللاعبات اللواتي شاركن في تلك البطولة المنسية وتحدثن خلالها عن الصعوبات التي واجهنها في ذلك الوقت، كما تطرق إلى الفرحة المذهلة والمثيرة للتأمل التي شعرن بها لمجرد اللعب في مسابقة دولية كانت وقتذاك معترفاً بها، بينما تتخلل ذكرياتهن حكايات مثيرة عن المباريات نفسها.
يُظهر فيلم "كاس 71" مشاهد أرشيفية عمرها الآن أكثر من خمسين عاماً لبطولة كأس العالم للكرة النسائية، المنسية "عمداً"، منذ إقامتها في المكسيك عام 1971 بمشاركة 6 دول
لا ينسى الفيلم استعراض موقف المنظمات والجهات المتحكمة في اللعبة والمسيطرة عليها، وعلى رأسها الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" التي لم تدخر جهداً في محاولاتها إبعاد النساء عن الملعب بشكل عام.
يحكي الفيلم حدثاً استثنائياً في التاريخ الرياضي، يُعيده للحياة مرة أخرى لأغراض أخرى إلى جانب التوثيق والتعريف، وهما في عداد أغراض الاستنكار والتساؤل حول إدارة رياضة لا يزال الرجال البيض يتمتعون فيها بالقدر الأكبر من السلطة، التي يستغلونها في إقصاء من يرونه غير مفيد وغير مربح أو مهدد لسيطرتهم شبه المطلقة.
يستنكر الفيلم الفعل القديم مستدعياً تجلياته الحديثة والمستمرة، والتي تخرج عن المجال الرياضي وتمتد إلى مجالات أخرى تتصل بحق البشر الأصيل في الحياة والذي يتعرض لانتهاكات مستمرة بسبب من حماقات حكومات الرجل الأبيض.
هذه الحماقات تتجلى في السؤال الأبرز الذي يطرحه الفيلم: لماذا أُخفِي عنّا حدث بتلك الشهرة والانتشار، وحقق لمنظميه أموالاً طائلة وذاع صيته في العالم؟ لماذا يسعى الرجل الأبيض لإخفائه تمامًا لا منع أرشفته أو إعادة تكراره فقط، ليظل سراً عشرات السنوات من دون أن يتحدث عنه أحد؟
حماقات "الرجل الأبيض" تتجلى في السؤال الأبرز الذي يطرحه الفيلم: لماذا أُخفِي عنّا حدث بتلك الشهرة والانتشار، وحقق لمنظميه أموالاً طائلة وذاع صيته في العالم؟ لماذا يسعى الرجل المسيطر على الرياضة والاقتصاد والسياسة لإخفائه تمامًا ليظل سراً عشرات السنوات من دون أن يتحدث عنه أحد؟
"حدث صادم رغم كل شيء"
في مشهد الفيلم الأول، نتابع تعبيرات وجه السيدة براندي تشاستين، التي نشأت وهي تلعب كرة القدم مع شقيقها الأصغر تشاد وأولاد آخرين، وتملك قصة استثنائية مع اللعبة" بدأت براندي اللعب كمهاجمة ثم بعد تعرضها لحادث أثناء التدريب، كان عليها أن تبدأ اللعب بقدمها اليسرى، إذ أصيبت في كاحلها الأيمن. وهناك التقت بمدربها جيري سميث في ذلك الوقت الذي اكتشفها وضمها لفريق كرة القدم الذي خاضت معه بطولات عديدة، بما في ذلك كأس العالم للسيدات عام 1991.
بعد التخرج من الجامعة، بدأت بمواعدة جيري سميث، الذي علّمها مدى أهمية مركز الدفاع، لذلك بدأت تلعب في مركز الدفاع بدلاً من الهجوم. وفي عام 1998، تزوجا وأنجبا. ومنذ ذلك الحين، كانت براندي لاعباً أساسياً لفترة طويلة في منتخب الولايات المتحدة لكرة القدم، الذي فاز بكأس العالم مرتين ومعها ميداليات ذهبية وفضية أولمبية، وقادت فريق سان جوس ثلاث سنوات، هذه الفتاة التي قضت حياتها كلها في الملاعب تقف مذهولة مثل المشاهد، وهي تسمع عن كأس العالم للسيدات الذي أقيم عام 1971 بينما كانت تظن أن كأس العالم للسيدات الأول كان الذي لعبته في 1991.
لا ينسى الفيلم استعراض موقف المنظمات والجهات المتحكمة في اللعبة والمسيطرة عليها وعلى رأسها الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" التي لم يدخر جهداً في محاولاته إبعاد النساء عن الملعب بشكل عام
المخرجان جيمس إرسكين وراشيل رامزي بالتعاون مع الكاتبة المشاركة والمنتجة فيكتوريا جريغوري يضعان أشهر لاعبات الكرة على الإطلاق أمام الكاميرا في المشهد التأسيسي ثم يركّزان من خلالها على ردود فعل اللاعبة المخضرمة التي تمثّل المُشاهد وردود فعل محترفي اللعبة الذين لم يسمعوا بها من قبل، بعد ذلك يستكمل الفيلم من خلال مقابلات مع النساء اللاتي لعبن في ذلك النهائي الاستثنائي، في فيلم وثائقي رياضي لا يتجاهل القضايا السياسية حول موضوعه ولكنه لا يركز عليها بقدر ما يحكيه ليظهر إلى أي مدى تبدو فداحة إخفاء الحدث.
لا يبدو أن هناك شيئاً لدى صنّاع العمل تركوه ليظهر كإجابة عن سؤال صحافي، بدا الفيلم صرخة تحمل كل الإجابات عن أسئلتهم التي مثّلت حصاراً على كل مسؤول قديم وحديث، أحياناً يبدو وثيقة يمكن اتهام الفيفا وغيرها مباشرة من خلالها بمدى الانتهاك والظلم الذي على لاعبات شاركن في هذا الحدث وتسبب الظلم والتعتيم في إخفاء مواهبهن الكروية الممتعة التي أثبتتها الكاميرات التي صورت الحدث عموماً.
تقول المخرجة راشيل رامزي لرصيف22 إن الفيلم عموماً بدا مغامرة قوية، لكنها صادمة بالرغم من كل شيء، أن يكون حدث بمثل تلك الأهمية مخفي عن عمد كما يبدو، أمرٌ صادم ليس في حق السيدات فقط، لكن للجميع، إذ لا يستطيع سوى القليل أن يقولوا إنهم شاهدوا ذلك عند دفن لقطات الحدث في الأرشيف لسنوات، ومحوها من الذاكرة الجماعية.
يطرح كلام راشيل المباشر كل شيء تحرك من خلاله الفيلم، إذ بدا في جوهره ليس استنكاراً قاسياً فحسب، بل محاولة لفهم غرابة الأمر في إخفاء حدث كهذا عن الجميع، كيف تمكن من سعوا إلى ذلك من إتقان جريمة بهذا الشكل، لم يتم كشفها سوى بصدفة محضة بمقابلة إحدى اللاتي شاركن في ذلك الحدث الاستثنائي.
كل مشهد منذ البداية حتى النهاية تحاول اللاعبات أنفسهن فهم مدى الكراهية التي كان يكنها لهن رجال الفيفا وكل المسؤولين الذين حاولوا إبعادهن عن الملاعب بكل الطرق، في أحد المشاهد تقول إحدى اللاعبات ذلك الأمر بسخرية لصديقاتها وهي تضحك، بينما تتوقف الأخرى للحظات لمحاولة التأمل في تلك المزحة التي ضيعت متعتهن الكبرى دون أدنى مبالغة في الأمر.
يفهم الفيلم جيداً أنه يحكي حدثاً استثنائياً في التاريخ الرياضي، يُعيده للحياة مرة أخرى لأغراض أخرى إلى جانب التوثيق والتعريف، وهي أغراض الاستنكار والتساؤل حول إدارة رياضة لا يزال الرجال البيض يتمتعون فيها بالقدر الأكبر من السلطة، التي يستغلونها في إقصاء من يرونه غير مفيد وغير مربح أو مهدد لسيطرتهم شبه المطلقة
أسباب الرجل الأبيض
بحسب الفيلم، لم يكن الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا" مسؤولاً عن تلك البطولة ولا داعماً لها، بل نظمها الاتحاد المستقل لكرة القدم الأوروبية للسيدات، واستغرق التنظيم وحشد الدعم المادي للبطولة وقتاً طويلاً، إلا أن الجمهور استقبلها بترحاب كبير وملأت الحشود أكبر الملاعب في المدن لمشاهدة لاعبات الدول الستة المشاركة، ولا تزال تلك البطولة تحمل الرقم القياسي لأكبر قرعة شهدها حدث رياضي نسائي على الإطلاق. لكن على الرغم من كل ذلك يُظهر "كاس 71" اللحظة التي امتلأت فيها مكسيكو سيتي في الاستاد الذي يتسع لـ110 آلاف متفرج، وملعب أزتيكا الذي يتسع لـ56 ألفاً متفرج.
ظهرت المباراة وتم الموافقة عليها كمجرد حدث دعائي يمكن أن يجني أموال من الإعلانات، حدث استغله الرأسمالي الذي قاده الاستثماري مارتيني روسي، ونجح بوجود حوالي 110 آلاف مشجع في المباراة النهائية. أما على مستوى اللعبة والبطولة فقد حظرت الدول مشاركة السيدات، وحافظ الفيفا على قبضته على الملاعب التي سيطر عليها رافضاً الاعتراف بالبطولة.
وعلى الرغم من الإغراء التجاري الذي يدعو لتكرار الحدث لم يتم تنظيم بطولة تالية حتى العام 1991 وجرى محو كأس العالم لكرة القدم للنساء 1971 من تاريخ الكرة، وربما تكون الأسباب كانت متجذرة تحديداً في كراهية النساء، ودعم البطولة ومبارياتها كحدث اقتصادي فقط، إذ رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم الاعتراف ببطولة لم تكن له عليها سيطرة، حتى نظم الاتحاد بطولته في 1991، التي ظن عشاق كرة القدم - قبل ظهور هذا الفيلم- أول كأس عالمية نسائية لكرة القدم على الإطلاق بما فيهم براندي التي قضت حياتها في الملاعب.
أيضاً يمكن القول إن السبب في أن النساء اللاتي شاركن في تلك البطولة نادراً ما يتحدثن عنها، بل يظهر من شهاداتهن في الفيلم أنهن ربما شعرن بالخجل من المشاركة فيما بعد، نتيجة المؤثرات الخارجية والسخرية الكبيرة التي قوبلن بها آنذاك.
يبدأ الفيلم فعلاً عندما تتحدث اللاعبة كارول ويلسون عضو في فريق كرة القدم البريطاني الذي شارك في الكأس عن وثيقة "كوبا 71" لوصف مشاعرها، تقول: "تذكرت أنني اعتقدت أنني لن أرى شيئاً كهذا مرة أخرى في حياتي، لأنه منع علينا أن نشارك في بطولات رياضية".
من اللحظة الأولى يدين الفيلم الفيفا في محاولاته لقتل الحدث منذ البداية؛ بداية من عدم الحماسة إلى إقامته، وبروزة السخرية من اللاعبات والمباريات من قبل الجمهور الذكوري نسبياً، وتقديم الحدث في العموم باعتباره حدثاً ساخراً يقدّم من أجل الضحك والاستمتاع ليس باعتباره حدثاً كروياً عالمياً يستحق الاهتمام مثل كأس العالم للرجال تماماً، وتتوقف عدة مشاهد في الفيلم للتركيز على إظهار تلك السخرية الجماهيرية بالتوازي مع المباراة النهائية والتجهيز لها.
على الرغم من أن الفيلم يسعى من البداية حتى النهاية إلى توضيح تلك المؤامرة الرجالية، فإنه يظل متابعاً للمباراة النهائية بإخلاص، من كل مشهد فيها يخرج للحديث الجانبي لتوريط الآخرين ثم يعود لاستكمال المباراة، يبدو الفيلم تعويضاً عادلاً لإعادة بروزة الحدث بالتوازي مع تجريم من أخفاه، بل أحياناً يبدو الفيلم مباراة كرة قدم طويلة حميمة جداً بتعليق اللاعبات أنفسهن تعليقاً أفضل من بعض التعليقات الساخرة المحيطة بهن، عندما تشعر بالملل يوقظك صوت الجمهور الذي يبدو ثائراً في سياق الأحداث ليذكر الجميع أن ثمة حدثاً عظيماً آنذاك رغم تجهيله من قبل أصحاب القرار.
هل كانت متعة جنسية؟
في ذلك الوقت من سبعينيات القرن الماضي، كانت هناك اتحادات كرة نشطة، يعرفها الهواة جيداً، ليس لديها التمويل الكافي، نشأت متحدية الذرائع التي ساقتها الاتحادات الرياضية القومية الرسمية لمنع النساء من ممارسة كرة القدم، مستندة إلى "تحذيرات الأطباء من ممارسة أي رياضة تضر بصحة المرأة"، على حد زعمهم. على سبيل المثال "في البرازيل وإيطاليا كانت المشاركة بمثابة جريمة جنائية، حتى أنه في العشرينيات من القرن الماضي، تم حظر كرة القدم النسائية الاحترافية في انجلترا لعقود"، ينقل الفيلم معلومات مرعبة مثل تلك.
لكن لم يتم تنظيم أول كأس عالم رسمية للسيدات إلا بعد عشرين عاماً في عام 1991، ينقل الفيلم أنه "حتى يومنا هذا، يقاوم الاتحاد مساواة النساء بالرجال في كل شيء، وينكر المساواة فيما يتعلق بالأجور والامتيازات وظروف السفر". لذا، فإن بعض الأشياء لم تتغير بما فيه الكفاية. في الواقع، تم منع النساء من لعب كرة القدم في المملكة المتحدة منذ عام 1921 ولم يتم رفع هذا الحكم إلا في عام 1970، وعندما عاد الفريق الإنجليزي من المكسيك في عام 1971، حصل على حظر آخر لمدة ثلاثة أشهر من الاتحاد الإنجليزي، مع قراره بمنع النساء من ممارسة كرة القدم، أما المدرب الثوري هاري بات، مدرب الفريق وقتها، فقد تلقى قراراً بالإيقاف مدى الحياة.
تقول إحدى اللاعبات في الفيلم "بمجرد وجودي في التدريبات كنا نجد رجالاً يحدقون في أردافنا بنهم شديد ويخبروننا أشياء غير لائقة. حتى أن هناك جماهير كانت تطارد حافلاتنا"، لسخرية القدر يخرج هذا الفيلم في لحظة انتهت فيها بطولة كأس العالم لكرة القدم للسيدات، التي انطلقت هذا العام في أستراليا ونيوزيلندا. بطولة تابعها العالم كما لم يكن قد حدث من قبل، متجاهلين أو جاهلين بهؤلاء اللاعبات اللاتي حققن الأسطورة قبل أكثر من خمسين عاماً بمجهودهن، ولم يكنَّ كما نقل البعض: "الفرجة عليهن كانت مجرد متعة جنسية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...