من بين بلاد ثورات الربيع العربي، امتلكت تونس لبعض الوقت قدراً واسعاً من الحرية مكّن صناع السينما لديها من التعبير عما يحدث في واقعهم السياسي والاجتماعي، والآثار التي تركتها ثورتهم على نظام زين العابدين بن علي، بشكل أكثر تنوعاً وحرية، على العكس من السينما المصرية التي اتجهت إلى تجاهل ثورة 25 يناير/ كانون الثاني أو المرور بها بشكل عابر.
منذ الشرارة الأولى للثورة، باحتجاج محمد بو عزيزي على إهانة شرطية تونسية له، بإشعال النيران في جسده فداء لكرامته، وصولاً إلى انتصار موجة الاحتجاجات السلمية الواسعة بإطاحة زين العابدين بن علي في 14 يناير/ كانون الثاني 2011، وعلى مدار 13 عاماً تلت تلك اللحظات، لم يتوقف مخرجو تونس عن التسجيل والرصد وصنع وتقديم السرديات السينمائية التي تؤرخ وتحلل وتستكشف أبعاد ذلك الحدث الهائل وما ترتب عليه. فقدموا أفلاماً عدة ترصد المتغيرات التي طرأت على البلد، وتنتقد ما آلت إليه الثورة التي تاهت بين الصراعات السياسية ومحاولات سيطرة جماعات الإسلام السياسي المتطرفة، وضياع حقوق المتضررين من اعتداءات الشرطة، وعدم تحقق العدالة الاجتماعية وتوفر لقمة العيش للفقراء والمهمشين الذين بهم ومن أجلهم اشتعلت هذه الثورة.
من تلك الأفلام، ستةٌ تدور على ما آلت إليه الثورة التونسية. بعضها يرى أن البلد يعيش واقعاً مظلماً ومستقبلاً مجهولاً، وآخر يرى أن الثورة ضاعت للأبد، ويرى ثالث بعض التفاؤل رغم الواقع المظلم عاقداً الأمل على الأجيال القادمة.
من بين بلاد ثورات الربيع العربي، امتلكت تونس لبعض الوقت قدراً واسعاً من الحرية مكّن صناع السينما لديها من التعبير عما يحدث في واقعهم السياسي والاجتماعي، والآثار التي تركتها ثورتهم على نظام زين العابدين بن علي، بشكل أكثر تنوعاً وحرية
"فتوى"... التهاون يؤدي إلى التهلكة
عرض فيلم "فتوى" لمخرجه محمود بن محمود للمرة الأولى في مهرجان قرطاج السينمائي عام 2018، ويسلط الضو على سيطرة الجماعات الدينية المتطرفة على عقول الشباب التونسي، وإهدار دم كل من يكتشف مخططاتهم ويحاول كشفها للناس.
تدور الأحداث في 2013 بعد عامين من الثورة، إذ يعود إبراهيم من فرنسا بعد وفاة ابنه الشاب مروان في حادث غامض. يُصر إبراهيم على معرفة حقيقة موت ابنه، ومن خلال تحرياته الفردية يكتشف انتمائه إلى إحدى الجماعات المتطرفة، وأنهم حاولوا استخدامه لقتل أمه التي ألفت كتاباً تكشف فيه عن أجندتهم ومؤامراتهم، وعندما يرفض الابن قتل أمه يقتلونه.
ربما تبدو القصة ساذجة، لكن أهمية الفيلم تكمن في أنه تعرض مبكراً لإرهاصات صعود الجماعات المتطرفة في تونس والحصور القوي للإسلام السياسي في معادلة السياسة التونسية، خاصة ان تونس شهدت عدة حوادث واعتداءات إرهابية بالفعل في وقت لاحق تمثلت في الاغتيال السياسي للمعادين لتيار الإسلام السياسي وحوادث أخرى راح ضحيتها مدنيون.
"في بلاد العم سالم"... ما الفائدة من علم جديد
تدور أحداث الفيلم القصير في بلاد العم سالم إخراج سليم بالهيبة في نفس الفترة الزمنية لفيلم فتوى وهي أواخر عام 2013، ويرصد جوانب مختلفة لما آلت إليه الثورة من استمرار القمع وغياب العدالة والمستقبل المجهول في ظل عدم تحقق أبسط مطالب الشعب.
سالم عامل بسيط في مدرسة ابتدائية في قرية تبدو بعيدة عن الحضر، يقوم بإصلاح الزجاج المكسور وطلاء الأبواب والجدران قبل بدء العام الدراسي الجديد بهمة ونشاط. يقرر النزول إلى المدينة لشراء علم جديد بدلاً من المُهترئ، فيلقى القبض عليه عرضاً ضمن مجموعة من المتظاهرين ويحكم عليه بالسجن خمسة عشر يوماً ليعود بعدها إلى قريته بغضب مكتوم تاركاً العلم المُهترئ في مكانه.
سالم عامل بسيط في مدرسة ابتدائية في قرية تبدو بعيدة عن الحضر، يقوم بإصلاح الزجاج المكسور وطلاء الأبواب والجدران قبل بدء العام الدراسي الجديد بهمة ونشاط. يقرر النزول إلى المدينة لشراء علم جديد بدلاً من المُهترئ، فيلقى القبض عليه عرضاً ضمن مجموعة من المتظاهرين ويحكم عليه بالسجن خمسة عشر يوماً ليعود بعدها إلى قريته بغضب مكتوم تاركاً العلم المُهترئ في مكانه
يقدم الفيلم الذي أنتج عام 2019 صورة غائمة لواقع هذه الفترة إذ لم تتحق مطالب الثورة ولا يزال الشعب يخرج في احتجاجات بعد عامين من انطلاقها من أجل تحقيق العدالة في حين ما زالوا يُطاردون ويُعاقبون على مطالبتهم بحقوقهم الأساسية.
يشير الفيلم إلى المستقبل المظلم الذي قد ينتظر الأجيال الجديد إذا ظلت البلاد تعيش تحت مظلة فساد النظام القديم، حيث تتحرك الكاميرا في مشهد النهاية على وجه أطفال المدرسة الذين ينشدون قصيدة "إذا الشعب يوماً أراد الحياة" لأبي القاسم الشابي، بينما تتوجه أنظارهم نحو العلم المهترئ، فما الفائدة من علم جديد بينما الواقع مهلهل.
"غدوة حي"... عندما يصبح الجاني مجنياً عليه
في فيلم "غدوة حي" (إنتاج 2016) يسلط المخرج لطفي عاشور الضوء على إهدار حقوق ضحايا ومصابي العنف الذي مارسته السلطة على المتظاهرين أثناء الثورة، وتجاهل محاسبة من قاموا بالاعتداء عليهم، بينما تتجه حكومة ما بعد الثورة إلى البحث عن حقوق أفراد الشرطة المصابين عوضاً عن ذلك، وكأنها تقتص للجاني بدلاً من المجني عليه بينما كان في حالة دفاع عن نفسه.
في سرد متوازٍ تدور أحداث في الفيلم في زمنين، الزمن الحاضر وهو بعد ثلاث سنوات من الثورة، والماضي وهو يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011، حيث تكتشف زينب أن والد حبيبها هو الشرطي الذي قامت بضربه على رأسه إنقاذاً لفتى مراهق قام هذا الشرطي باغتصابه في 14 يناير.
يرسم المخرج صورة قاسية موحشة لما آل إليه مصير هؤلاء الذين خروجوا في مظاهرات سلمية مطالبين بأبسط حقوقهم الإنسانية من خلال مصير هذا الفتى الذي برغم وحشية الاعتداء الذي وقع عليه إلا أنه ظل مختبئاً لسنوات بسبب اتهامه بإصابة هذا الشرطي، حيث ظل متخبطاً بين صدمة الأذى وعدم قدرته على التعافي منه وبين منعه من العيش بشكل طبيعي وتخفيه بين المهربين حتى لا يعتقل، إلى أن يموت ككلب ضال في تبادل لإطلاق النار دون أن تتحقق له العدالة.
"غدوة "... الأمل في الأجيال القادمة
ظلت قضية ضحايا الثورة موضوعاً حاضراً في المشهد التونسي حتى بعد عشر سنوات من إنطلاقها إذ لم يتلفت أحد إلى تحقيق العدالة لهم في حين اتجهت السلطة إلى عقد مصالحات مع المنتمين لنظام ما قبل الثورة الذي أعتدى عليهم، وهذا ما تطرق إليه الممثل ظافر العابدين في فيلمه الأول كمخرج (غدوة) والذي أنتج عام 2021، ولكن من زاوية مختلفة.
حبيب محام حقوقي التهمته رومانسية الثورة وسعيه وراء حقوق ضحاياها وتحقيق العدالة لهم، وصارت قضيتهم أولويته التي تسبق نفسه وأسرته وولده، إلى أن أفقدته عقله وأصيب بمرض نفسي يستوجب دخوله المصحة فوراً.
يضع المخرج الثورة في مواجهة مع الحاضر والمستقبل، إذ لا يزال حبيب يضع آماله في الثورة وفي السلطة التي جاءت بعدها لتحقيق العدل والكرامة للضحايا والمهمشين والضعفاء ومحاسبة من تسبب في الأذى لهم قبل الشروع في عقد أي مصالحة مع عناصر النظام السابق، في حين تخبره زوجته السابقة وهي غاضبة على ما وصل إليه حاله، أن الثورة قد انتهت والحاضر أصبح مختلفاً الآن، وأنه يجب أن يتعايش معه، بينما ابنه المراهق الصغير، رمز المستقبل، لا يستطيع فهم الهدف الذي يضيع أباه حياته من أجله، فهو من الجيل الذي لم يكن واعياً للثورة.
في مشهد النهاية عندما يركض الابن خلف سيارة الشرطة التي اعتقلت والده وهو يهتف "أعتمد علي يا والدي ستعرف الناس الحقيقة" يقدم المخرج رؤية متفائلة للمستقبل، حيث يرى الأمل في الأجيال المستقبلية التي يجب أن تدرك ماهية الثورة والتضحيات التي بذلت من أجلها حتى يستأنفوا الطريق الذي بدأه آبائهم.
"أشكال"... وطن تضيّعه الصراعات السياسية
في فيلمه الطويل الأول يرى المخرج يوسف الشابي الواقع التونسي غارقاً في الصراعات السياسية بين حرس السلطة القديم ومحاولات الإسلام السياسي السيطرة الحكم، بينما لا أحد يلتفت لآلام الشعب من الفقراء والمهمشين الذين يحترقون كل يوم دون أن يهتم بمتاعبهم وهمومهم أحد. أما هؤلاء الذين يحاولون الإمساك بالعصا من المنتصف دون أن يكون لهم موقف واضح، فيتحولون بسهولة إلى وليمة سائغة للوحوش المتصارعة على السلطة.
تدور أحداث الفيلم في أجواء كابوسية حيث يقوم المحققان فاطمة وبطل بالتحقيق في قضية عامل بسيط أحرق نفسه في موقع بناء لحي يخص الأغنياء، يتكرر الحادث في نفس الموقع ويكتشف المحققان أن هناك شخصاً ما يساعد هؤلاء الناس على الانتحار، في حين يسود المشهد التونسي حالة من الاضطراب بسبب تَشكُل لجنة لمحاسبة أفراد الشرطة الذين اعتدوا على المدنين في فترة الثورة يترأسها والد فاطمة، ما يجعل زملاءها ينبذونها ويحاولون عرقلة عملها.
ويتورط بطل بين القوى السياسية المتصارعة ويصبح عميلاً مزدوجاً بينهم في محاولة للبحث عن منفذ لإعفائه من المحاسبة على ماضيه.
في النهاية عندما تجد القوى المتصارعة أن مصالحهم الشخصية تتطلب عقد هدنة بينهم يتم التضحية ببطل وقتله بطريقة بشعة أمام عيني ابنته، فهذا عالم لا تصلح فيه الموائمات والسير على حبل مشدود ولا يمكن فيه أيضاً الثقة في المتقاتلين على السلطة، ويُغلق ملف القضية دون الانتهاء من التحقيقات ومعرفة الحقيقة، بينما تظل النيران المشتعلة في التهام الشعب.
"حرقة"... لن يكون هناك بوعزيزي آخر
يقدم المخرج لطفي ناثان في فيلمه الذي أنتجه عام 2022 محاكاة لحياة محمد البوعزيزي بعد مرور أكثر من عشرة أعوام عليها، ففي واقع ما بعد الثورة حيث لا يزال المهمشون يعانون من ضنك العيش وضيق الحال لدرجة الاقتراض من أجل العلاج من أمراضهم، يحاول علي جمع المال اللازم للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا من خلال بيع الوقود بطريقة غير شرعية في مقابل الرشوة التي يدفعها لرجال الشرطة.
يكتشف علي اقتراض أبيه للمال، قبل وفاته، من البنك بضمان البيت من أجل علاجه، وتصبح أخواته مهددات بالتشريد إذا لم يتم تسديد القرض، يحاول علي جمع المال اللازم من خلال العمل مع المهربين تارة والبحث عن عمل شرعي تارة أخرى بينما يرفض البنك إعطاءه أي مهلة للسداد، ويعتدي عليه أفراد الشرطة بوحشية لرفضه دفع الرشوة، ويُعتدى عليه مرة أخرى عندما يذهب للشكوى.
في مشهد النهاية المأسوي يقدم المخرج رؤية يائسة لواقع تونس ومستقبلها، ففي ظل كل هذا الضغط والاحتقان يقرر علي حرق نفسه أمام دار البلدية بينما يمر الناس من حوله وكأنهم لا يرون إنسان يحترق أو أنهم اعتادوا المشهد ولم يعد يحركهم، فليس هناك أي أمل في إصلاح هذه البلاد وتحقيق العدالة لهؤلاء الناس حتى ولو أحرق ألف بو عزيزي نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.