أول ما يتبادر للذهن عند ذكر "الأفلام الفلسطينية" هو أنها تصور معاناة الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال الغاشم، وتسجل فظائع القصف المستمر فوق رؤوس الأطفال. لكن الحقيقة هي أن الأفلام الفلسطينية التي تصل للعالمية وتحصد الجوائز هي الأفلام التي تناقش مواضيع أخرى. بكل تأكيد يكون الاحتلال عاملاً في بناء الفيلم لكنه ليس محوره الرئيسي. وقد تنجح تلك الأفلام في إيصال الصوت الفلسطيني عندما يكون أبطالها هم الأفراد أنفسهم ومعاناتهم الشخصية.
من تلك الأفلام، فيلم "علم" الذي حصد ثلاث جوائز في الدورة الاخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي (2022) أهمها الهرم الذهبي. وناقش علم النضال الفلسطيني من خلال عيون مراهقين عرب الداخل في إطار قصة إنسانية تنشغل باكتشاف الهوية والحب والصداقة والفقد؛ بينما الاحتلال عامل جانبي لكل هذه الأحداث. كذلك الحال في فيلم "باي باي طبريا" للمخرجة الفرنسية- الجزائرية - الفلسطينية لينا سوالم، المشغولة جدا بالرجوع لجذورها ومعرفة هويتها الحقيقية. فبعد فيلمها الأول "جزائرهم" الذي تتبعت فيه تاريخ نضال عائلة والدها مع الاستعمار الفرنسي والغربة من خلال علاقة الجد والجدة، تقدم فيلمها الثاني عن تاريخ سيدات عائلة والدتها الفلسطينية مع النضال، نضال ضد التهجير والاغتراب المستمر.
"بعيداً عن الأرض... بعيداً عن البحيرة"
ينتمي الفيلم لنوع الدوكو- دراما، أي يجمع بين الحكي الوثائقي والدرامي، وكأن الخط الفاصل بينهما تلاشى مع الوقت، وهو ما يجعل الأفلام الوثائقية تلاقي اهتماماً أكبر.
عرض فيلم "باي باي طبريا" في إطار البرنامج الخاص للسينما الفلسطينية في مهرجان الجونة السينمائي في دورته السادسة، التي عقدت في نهاية العام الماضي.
أول المشاعر التي نختبرها مع لينا هو الجملة التي بدأت وأنهت بها فيلمها باي باي طبري "ولدت بعيدة عن الأرض، ولدت بعيدة عن البحيرة" وكأنها تمهد لنا بعرض علاقتها بالقصة التي أوشكت أن ترويها: قصة عن أرض وعائلة ومعاناة متوارثة بين أجيال سيدات عائلة تنتمي لهم سوالم؛ لكنها لا تشكل جزءاً منها
ومثلما قدمت لينا قصتها وقصة عائلة والدتها محاولة من خلال الفيلم الوصول لما يربطها مع هذه العائلة، عرض في المهرجان أيضاً فيلم "من عبدول إلى ليلى" للمخرجة الفرنسية العراقية ليلى البياتي، التي تقدم أيضاً تجربتها الشخصية جداً في محاولتها للتواصل مع عائلتها وجذورها التي نشأت بعيدة عنها.
يقدم لنا الفيلمان تجربة شخصية خالصة جداً في طريق معرفة الذات وجذورها، من خلال الدوكيو- دراما، فكانت النتيجة النهائية تجربة حياتية حقيقية جداً وخاصة جداً تتحقق بها كل جوانب الفنية المنتظرة من الفيلم السينمائي من حبكة وتصاعد للأحداث ومبررات شخصيات قوية، فضلاً عن الصورة السينمائية المميزة.
وأول هذه المشاعر التي نختبرها مع لينا هو الجملة التي بدأت وانهت بها فيلمها باي باي طبري "ولدت بعيدة عن الأرض، ولدت بعيدة عن البحيرة" وكأنها تمهد لنا بعرض علاقتها بالقصة التي أوشكت أن ترويها: قصة عن أرض وعائلة ومعاناة متوارثة بين أجيال سيدات عائلة تنتمي لهم سوالم؛ لكنها لا تشكل جزءاً منها. فهي الفتاة البعيدة التي تسمع حكايات عن فلسطين المحتلة التي هي مسقط رأس والدتها. تسمع الفتاة قصصاً عن جدتها وجدة والدتها اللتين عانتا ومن بعدهما أمها من الاغتراب وفراق الأسرة، قصصاً عن الشخصية المميزة لكل سيدة من هؤلاء في مواجهة الألم.
قدمت سوالم فيلماً عن أربعة أجيال من النساء من أسرة فلسطينية واحدة كانت كل منهن قادرة على تحقيق هدف أساسي في حياتها بشكل أو بآخر
وعلى عكس حضور لينا سوالم الواضح في فيلمها الوثائقي الأول من خلال الحوار المستمر والأسئلة التي توجهها لجدتها وجدها لأبيها، في هذه الحكاية اختارت أن تظهر أقل، فنجد إجابات الأسئلة تظهر - سواء بالتمثيل أو بالحكي- دون أن نسمع سؤال لينا نفسها. لتظل هي البعيدة التي لا تدرك المعاناة اليومية لسيدات فلسطين بشكل عام وسيدات عائلتها بشكل خاص إدراكاً كاملاً، ولكنها مع ذلك تشترك وجدانياً في هذه المعاناة بدليل تقديمها فيلماً صادقاً.
ورغم اختلاف لغة التواصل بين لينا وأهل والدتها فقد كانت قادرة على إيصال كل مشاعرهم بدقة.
فلسطينية؟ أوروبية؟
لينا وفق قوانين عالم غربي متظاهر مدعي الإنسانية: فتاة أوروبية بيضاء متحضرة، ليست فلسطينية، ليست "إرهابية"، كذلك والدتها الحاصلة على الجنسية الفرنسية. وأكدت لينا على هذا المظهر في بداية فيلمها، إذ ترى سيدة تتحدث الفرنسية في منزل أوروبي أنيق مليء بالإضاءة البيضاء، تتكلم بشغف عن حبها للفن والسينما والتمثيل، ومع الوقت وانتقال التصوير إلى بيت العائلة في فلسطين، يطغى على الجو العام إحساس بالدفء مألوف جداً في بيوت العرب، دفء يفتقده كل مغترب. وأظهرته لينا في منزل عربي بسيط مليء بأشعة الشمس من دون الاعتماد في الأغلب على إضاءات صناعية.
على الرغم من عدم تعرض الفيلم بشكل واضح للاحتلال، فهو في الأساس فيلم عن الاحتلال، الذي تسبب في اختناق هيام ودفعها للهرب بعيداً، وغيّر معالم كل شيء بما فيها شوارع القدس الجميلة وأشجارها وجبالها
ولكن هل هذا يعني أن الفيلم يقدم نظرة استشراقية تضع الأسرة الفلسطينية في موضع الرجعية والتخلف؟ بالعكس تماماً، قدمت سوالم فيلماً عن أربعة أجيال من النساء من أسرة فلسطينية واحدة كانت كل منهن قادرة على تحقيق هدف أساسي في حياتها بشكل أو بآخر.
كتبت عليهن المقاومة
شخصياً، لو كنت سيدة فلسطينية، ورغم من كوني لاإنجابية، سيكون جزء من مقاومتي هو إنجاب الأطفال، الكثير من الأطفال. تنشئة طفل قوي صلب في مثل تلك الظروف أمر صعب، وهو الرأي الذي تتشاركه معي هيام عباس، والدة لينا التي قررت في شبابها أنها لن تستطيع - على عكس سبع من أخواتها- تكوين أسرة في هذه الظروف، أي أنها لن تستطيع إنجاب طفلة في بلد لا يستطيع الفرد فيها التنفس، فاتخذت قرار الهجرة المرفوض من جميع أفراد أسرتها، تقول عباس: "مينفعش نحاسب حد يا لينا علشان كان عايز ياخد نفس".
تصف عباس إحساساً مستمراً بالاختناق. وعلى الرغم من عدم تعرض الفيلم بشكل واضح للاحتلال، فهو في الأساس فيلم عن الاحتلال، الذي تسبب في اختناق هيام ودفعها للهرب بعيداً، وغيّر معالم كل شيء بما فيها شوارع القدس الجميلة وأشجارها وجبالها. وعلى الرغم من شجاعة هيام التي دفعتها إلى الذهاب لوالدها في مراهقتها والاعتراف بأنها على علاقة بشاب ولا تنوي الزواج منه في مجتمع ذكوري محافظ، ما قد يؤدي إلى قتلها، فتظهر كأنها الحلقة الأضعف في سلسلة سيدات عائلتها، فهي رأت أن والدتها عاشت عمرها كله في عجلة الحياة الطاحنة بين العمل والمنزل ولم تحصل إلا على أقل القليل، كما رأت جدتها التي هُجِّرت من طبريا مع بداية الاحتلال وحكم عليها طوال عمرها أن تعيش بعيدة عن بيتها وهي تعلم أن آخرين يعيشون به، كما حكم عليها أن تحرم من رؤية ابنتها التي نقلت إلى مخيم اليرموك حتى الموت.
من المهم جداً أن يكون هناك "باي باي طبريا"، ومن المهم أن توثق السينما كل ما حدث ويحدث وسيحدث في فلسطين، ومن المهم كذلك أن تتحدث السينما في الوقت الذي خرست فيه كل ألسنة العالم
بدأت رحلة لينا من التهجير والنفي - الأمر الذي عانت منه هي شخصياً ولكن بشكل مختلف- منذ بداية الاحتلال، إذ نقلت عائلة أم علي (الجدة) عنوة من بيتها للخارج حيث استقرت في القدس. مات زوج أم علي حسرة على ما فقد: بيته، ابنته، حريته ووطنه، في نفس الوقت ألقيت مسؤولية الأسرة كاملة على عاتق أم علي التي وجدت نفسها في منتصف الطريق بلا بيت، وفي عهدتها أطفال في بلد محتلة يمارس ضد شعبها عمليات التطهير العرقي بشكل مستمر. ولكنها لم تنهزم، مثلها مثل كل نساء عائلتها من بعدها، وكل نساء فلسطين العظيمات.
من المهم جداً أن يكون هناك "باي باي طبريا"، ومن المهم أن توثق السينما كل ما حدث ويحدث وسيحدث في فلسطين، ومن المهم كذلك أن تتحدث السينما في الوقت الذي خرست فيه كل ألسنة العالم. كذلك فإن تجربة لينا الشخصية مهمة جداً لأنها تتصل بجذورها، حتى تعرف من هم حقاً الذين تجمعها بهم صلة دم قوية، وتتصل كذلك بشعبها القوي الصلب القادر - على الرغم من كل المعاناة التي يعيشها- على أن يقدم صوراً رائعة للدفء والمحبة والدعم والتواصل العاطفي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.