قبل عام ونصف، وأمام صخرة الروشة ببيروت، كنت أفاوض سائق تاكسي على تسعيرة مشوار، قبل أن يُخبرني بنبرة تهكمية، أن ما يطلبه لا يتخطى الـ 7 دولار، ما دفعني إلى الردّ بنبرة أكثر تهكمية: "هو حد قالك إني بقبض بالدولار، ولا شايف الباسبور الأمريكي في إيدي؟".
تلك المفاوضة التي انتهت بالوصول إلى حل وسط بيننا، لم تكن غريبة علي، ففي لبنان معظم السلع لها ثمنان، الليرة والدولار، ناهيك عن بعض الأماكن التي لا تتعامل إلا بالأخير، مثلما رأيت في بعض متاجر الكتب، وكمصري تعجّب من أن تساوي عشرات الآلاف من العملة المحلية للدولار الواحد، كما هو الحال بالنسبة لليرة اللبنانية، كان اندهاشي الأكبر من اختفاء العملة المحلية في الوجدان اللبناني، للدرجة التي تدفعهم إلى تدبير حياتهم بناء على قيمة عملة أخرى.
على كل، لم يطل اندهاشي طويلاً، ففي مصر نعيش الآن نفس الحالة، لا لأن الدولار الأمريكي الذي كان يساوي 24 جنيهاً في أواخر 2022، صار يساوي حتى كتابة تلك السطور 56 جنيهاً في السوق الموازية، أي أكثر من الضعف ومازال الرقم مرشح للزيادة، لكن لأن المصريين أنفسهم صاروا يدبّرون حياتهم بناء على العملة الأمريكية، في ظاهرة يُمكن تسميتها بـ"دولرة عقول المصريين".
لا أتذكر أن كلمة الدولار كانت تأخذ أي حيز في حياتنا. لم يقلها أبي أمامنا وهو يشتكى من غلاء الأسعار، لم يردّ بها بائع لتبرير ارتفاع ثمن بضاعته أو يلمّح بها أستاذ يريد رفع أجره
متى بدأت عملية "الدولرة"؟ بصفتي صحفياً منذ 2009، ومواطناً بلغ الرابعة والثلاثين من عمره، لا أتذكر أن كلمة الدولار كانت تأخذ أي حيز في حياتنا. لم يقلها أبي أمامنا وهو يشتكى من غلاء الأسعار، لم يردّ بها بائع لتبرير ارتفاع ثمن بضاعته أو يلمّح بها أستاذ يريد رفع أجره، حتى الصحف، كان الأمر فيها مقتصراً على صفحات الاقتصاد وآراء بعض الخبراء فقط، بالتأكيد هذا لا يعني أن الجنيه المصري وقتها كان ثابتاً، لكن انخفاضه كان تدريجياً وعلى فترات طويلة وبنسب قليلة، ومع الزيادات السنوية في الرواتب كان الأمر مقدوراً عليه.
ومع ثورة 25 يناير 2011، وما صاحبها من مصطلحات كان كثيرون يسمعونها لأول مرة، مثل الاحتياطي النقدي وسعر الصرف وما إلى ذلك، كان الأمر لا يتخطى تحذيرات من انخفاض الجنيه المصري، وفي العموم لم يتأثر بها المواطن العادي الذي كان يرى في ثبات الأسعار أو ارتفاعها بشكل طفيف حينها، مؤشراً جيداً لعدم الالتفات.
كل ذلك تغير في 3 نوفمبر 2016، حين استيقظ المصريون ليجدوا أن الدولار الذي كان يساوي نحو 9 جنيهات، صار يساوي 17 جنيهاً، وهو ما يعني انخفاض قيمة مدخراتهم إلى النصف تقريباً، بالتزامن مع ارتفاع أسعار معظم السلع، أي "موت وخراب ديار".
ورغم تحمّلنا هذا الخراب على أمل أنه الأخير، لكن اتضح أنه الأول، فمازال الجنيه المصري يبحث عن قاع أعمق ليغوص فيه، والمدخرات فقدت أكثر من نصف قيمتها بكثير، بجانب ارتفاع أسعار الوقود سنوياً بسبب شُحّ الدولار، ارتفاع أسعار الكهرباء وانقطاعها لاحقاً بسبب تدبير الدولار، ارتفاع أسعار الأعلاف ما ترتب عليه زيادة ثمن اللحوم نتيجة قلة العملة الصعبة، وطابور طويل من السلع، إن لم يكن كلها، على هذا المنوال.
ولأن مكانة العملة المحلية تتعلّق بقدرتها على ما تستطيع فعله، ولأن المصري بمختلف مستوياته الثقافية والاجتماعية، أدرك أن حياته كلها باتت لا تتعلق بالجنيه المصري كما كان يعتقد، بل بالدولار الذي يتحكم في عدد ساعات إضاءة بيته، حجم كمية اللحوم التي يأكلها، ونوع سجائر التي يدخنها. لم يكن غريباً أن يكون الهم الأكبر هو الحصول على تلك الورقة الخضراء التي ستؤمن الحياة اليومية من ناحية، وتحفظ قيمة المدخرات من ناحية أخرى.
لم تتوقف عملية الـ"دولرة" بالبحث عنه فقط، بل زامنها سخرية من الجنيه الذي أضحى في الوجدان مادة خصبة لـ"الكوميكسات"، خاصة المتعلقة بسوق العمل
ما أقوله لم يعد مجرّد تفكير، بل حقيقة تجسّدها تحويلات المصريين من الخارج، والتي تعد أحد أهم الروافد التي تعتمد عليها مصر لتوفير سيولة دولارية، إذ تراجعت التحويلات بنسبة 30% خلال العام المالي 2022-2023 وفقاً للبنك المركزي المصري، وهذا التراجع لا يعود إلى توقف هؤلاء عن العمل، لكن لأن الفجوة بين السعر الرسمي للدولار في البنوك والذي يتراوح من (30.7-31) والسعر الموازي الواصل إلى 56 جنيه، دفع كثيرون لتغيير أموالهم في المنافذ غير الرسمية لتحقيق أرباح تعينهم على الغلاء، فيما اختار آخرون أن يحتفظوا بجزء من أموالهم بالدولار، ويحوّلوا ما يحتاجون إليه فقط إلى العملة المحلية.
أما من لا يتقاضون أجرهم بالدولار، فصاروا يبحثون عن كل السبل التي تؤدي لذلك، ولهذا انتشرت مئات الإعلانات خلال العام الماضي توضح للمصريين كيف يحصلون على وظيفة راتبها بالعملة الصعبة، ولأن أسهل الطرق كان الإنترنت، تكالب مصريون كثر على كل التطبيقات التي يمكن من خلالها الربح وفعل من أجل الدولار الكثير والكثير.
وأخيراً، لم تتوقف عملية الـ"دولرة" بالبحث عنه فقط، بل زامنها سخرية من الجنيه الذي أضحى في الوجدان مادة خصبة لـ"الكوميكسات"، خاصة المتعلقة بسوق العمل، وصار أبلغ رد على متطلبات مديرين العمل الكثيرة هو: "100 دولار بتتكلم... أول مرة أشوف 100 دولار بتتكلم"، في إشارة إلى الحد الأدنى للأجور والبالغ 3 آلاف جنيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.