رجل ستيني يرتدي جلباباً بلدياً يجوب شوارع منطقة كفر حكيم في الجيزة حاملاً في يده حقيبة سوداء كُتب عليها "علاج البواسير بدون جراحة"، أثارت صورته في 2017 على موقع فيسبوك تساؤلات حول صحة ادعائه، البعض سخر من فرضية اعتماد المرضى على طُرق شعبية في العلاج، في حين رأى آخرون أن اللجوء لوسائل غير عيادات الأطباء أمر مقبول وأن سبيل "الطب الشعبي" ينتهجونه هم أنفسهم لحماية أجسادهم "من الآثار الضارة للأدوية".
في ظل أزمة اقتصادية خانقة وندرة في الأطباء وتناقص العلاج المتاح بالصيدليات، بدأت أسر كثيرة في مصر تلجأ من جديد لطرائق التداوي الشعبي والعلاجات المنزلية للتعامل مع الآلام والأعراض المختلفة مستغنين عن زيارات الأطباء وتشخيص أسباب ما يعانونه من آلام وأعراض، ووصف أعضاء في مجلس النواب أسعار الكشف والخدمات الصحية في العيادات والمستشفيات والمراكز الصحية في مصر بأنها "جنونية" وذلك وفقاً لطلب إحاطة ناقشته لجنة الصحة في البرلمان المصري في أكتوبر/ تشرين الأول الفائت.
في ظل أزمة اقتصادية خانقة وندرة في الأطباء وتناقص العلاج المتاح بالصيدليات، بدأت أسر كثيرة في مصر تلجأ من جديد لطرائق التداوي الشعبي والعلاجات المنزلية للتعامل مع الآلام والأعراض المختلفة مستغنين عن زيارات الأطباء وتشخيص أسباب ما يعانونه من آلام وأعراض
من العظام للأعصاب والمعدة
محال المعالجين الشعبيين ليست مظهراً غريباً في الشارع المصري، خاصة في المناطق الفقيرة والريفية التي اعتادت غياب الخدمات الصحية المنظمة خاصة مع خفض مصر للإنفاق الحقيقي على الصحة واعتراف الرئيس المصري بتجاهل الدولة - اضطراراً- للنسب الدستورية المطلوبة للإنفاق على الصحة والتعليم كذلك.
وتذكر استراتيجية منظمة الصحة العالمية للطب البديل (نشرت في 2014) أن عدد المداوين الشعبيين إلى عدد السكان في أفريقيا يصل إلى 500:1، بينما لا تتعدى نسبة أطباء الطب الحديث إلى السكان 40.000:1؛ ولذلك يظل المعالجون التقليديون المحليون هم الجهة التي تقدم الخدمات الصحية لملايين السكان في المناطق الريفية.
ومع انتشارهم، لم يقتصر دور المُعالجين الشعبيين على علاج "البواسير" كما أعلن صاحب الصورة المثيرة للجدل، فامتد لعلاج أمراض العظام والأعصاب، والعُقم وكثير من الأمراض العضوية، إذ يعتمد المُعالج على مجموعة من الأعشاب والزيوت والوصفات الشعبية، أو استخدام العصا والأسلاك المعدنية، بينما يستخدم البعض القرآن أو الإنجيل والجلسات الروحية للتخلص من الضغوط النفسية وحالات الاكتئاب وغيرها، نحاول في تقريرنا البحث عن تاريخ العلاج الشعبي في مصر وأسباب تفضيل البعض له عن غيره من العلاجات.
تقول هناء إنها ذهبت لرجل يعالج العظام بـ"ردها"، فجعلها تستلقي على الأرض ووقف بجسده فوق ظهرها لتسمع فور ذلك صوت"طقطقة" وتشعر بدوار فأخبرها أن ذلك دليل نجاح العلاج، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فكتب لها أدوية وذهبت إليه مرة أخرى لعمل"حجامة" لإخراج الدم الفاسد من المناطق المصابة
"يا عدسايتي خدي سنطايتي"
في الإسكندرية تقطن هناء محمد 67 سنة ربة منزل، منذ خمس سنوات عانت من آلام في الظهر وعظام الجسد لم يُحدد الطبيب السبب وراء آلامها فقرر إخوتها القاطنين في قرية بمركز إيتاي البارود في البحيرة أن يجربوا طريقة أخرى، وأقنعوها بذكر حالات شُفيت بهذه الطريقة.
تقول هناء إنها ذهبت لرجل يعالج العظام بـ"ردها"، فجعلها تستلقي على الأرض ووقف بجسده فوق ظهرها لتسمع فور ذلك صوت"طقطقة" وتشعر بدوار فأخبرها أن ذلك دليل نجاح العلاج، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فكتب لها أدوية وذهبت إليه مرة أخرى لعمل"حجامة" لإخراج الدم الفاسد من المناطق المصابة، فتوضح أنها لم تشعر بتحسن بعد هذه الخطوات فبحثت عن طبيب آخر "جعله الله سبباً للشفاء".
هناك ما يقرب من ثماني برديات تكشف العلوم الطبية في مصر القديمة، والتي شملت فرعين رئيسيين للعلاج، أحدهما يقوم على مبادئ العلماء وملاحظة المريض وتُسمى بالعلاجات "العقلانية"، وأخرى تعتمد على التمائم والتعاويذ والطقوس لطرد العوامل غير المرئية والخارقة للطبيعة المفترض أنها تُسبب بعض الأمراض وعُرفت بالعلاجات"غير المنطقية"
اختلف الأمر قليلا مع سميرة (اسم مستعار)، وهي سيدة خمسينية تقطن في إحدى قرى الجيزة، تقول لرصيف22 إنها مرت بأكثر من تجربة مع العلاج الطبي والشعبي كان الثاني هو الأكثر فائدة بالنسبة لها، ففي عام 88 أصيبت بـ"سنط" في اليد أي زائدة لحمية، لم ينجح علاج طبيب الجلدية في القضاء عليها، فنصحتها جارة لها بأن تذهب لسيدة تُعالج هذه الحالة بالبيض والعدس الأصفر.
قررت سميرة خوض التجربة فليس هناك ما تخسره، أجلستها السيدة أمامها وفتحت البيضة نيئة وأدخلت فيها العدس الأصفر على مراحل وكانت تردد"يا عدسايتي خدي سنطايتي"، إلى أن خرج البياض والصفار فوضعتهم في ورقة وطلبت منها دفنها في غرفة مظلمة وكلما أكلتها الأرض اختفت "السنطاية" وهو ما حدث، حسبما تؤكد لنا سميرة.
تكررت التجربة ذاتها مع ابنتها وابنة شقيقها بعد إصابتهم بـ"عين سمكة" في القدم (ورم جلدي حميد لكنه مُعدي وسريع الانتشار)، تقول سميرة إن عملية الكي عند طبيب الجلدية كانت الحل الأول، لكن بعد عامين عادت للظهور مرة أخرى فقررت الذهاب لمُعالج شعبي كان ينفث في مكان الإصابة ويردد كلمات كالتعويذة وخلال ثلاثة أيام اختفت من أقدامهن.
تراث قديم
في دراسة بعنوان "البرديات الطبية في مصر الفرعونية، دراسة في علم الكوديكولوجيا" يذكر الدكتور محمد خميس الحباطي أن هناك ما يقرب من ثماني برديات تكشف العلوم الطبية في مصر القديمة، والتي شملت فرعين رئيسيين للعلاج، أحدهما يقوم على مبادئ العلماء وملاحظة المريض وتُسمى بالعلاجات "العقلانية"، وأخرى تعتمد على التمائم والتعاويذ والطقوس لطرد العوامل غير المرئية والخارقة للطبيعة المفترض أنها تُسبب بعض الأمراض وعُرفت بالعلاجات"غير المنطقية".
يتتبع الحباطي نشأة الطب في مصر القديمة، مرجحاً بدايته في أقدم العواصم المعروفة (أون) الواقعة الآن شمال شرق القاهرة والمعروفة باسمها اليوناني "هليوبوليس"، ومنها إلى الوجه البحري. وينقل الباحث أن الكهنة هم من اشتغلوا بالطب وقتها ويتفق هذا مع كون المعابد المصرية كانت هي بيت العلوم والفنون في عصور ما قبل الأسرات وما تلاها.
امتد دور المُعالجين الشعبيين لعلاج أمراض العظام والأعصاب والعُقم، إذ يعتمد المُعالج على مجموعة من الأعشاب والزيوت والوصفات الشعبية، أو استخدام العصا والأسلاك المعدنية، بينما يستخدم البعض القرآن أو الإنجيل والجلسات الروحية للتخلص من الضغوط النفسية وحالات الاكتئاب وغيرها
وفي دراسة أخرى بعنوان "ارتباط الطب في مصر القديمة بما يُعرف بالطب البديل أو التكميلي" ذكرت الباحثة راندا بليغ، أن العالم شهد أخيراً اهتماما بالطب البديل أو التكميلي مستعرضة عدداً من البرديات المصرية التي وصلت إلينا وتوضح طرق العلاج المستخدمة في مصر القديمة ومنها بردية كاهون، أقدم البرديات المصرية المعروفة الآن والتي يعود تاريخها إلى عهد أمنمحات الأول وهو أحد ملوك الدولة المصرية القديمة، وبرديتي إيبرز وإدوين سميث وهيرست وغيرها (تعرف البرديات إما باسم مكتشفها أو مكان الحفريات التي عثر عليها فيها إلا إن كان اسم مؤلفها مذكوراً فيها أو وجدت في مقبرة كاهن أو طبيب فتعرف باسمه).
وتحدد الباحثة المختصة في الآثار في ورقتها أشكال العلاج التي وردت في البرديات المصرية القديمة وكثيرها من بين تدخلات الطب الحديث كتجبير العظام وتخفيف الضغط على المخ والنزيف الدماغي بإحداث ثقوب في الجمجمة والتدخلات الجراحية وزراعة الأسنان البديلة وجراحات اللثة وجراحات أخرى غيرها.
ولكن إلى جانب ذلك هنالك طرق تداوي ضمن ما يوصف بالطب التكميلي/ الشعبي، مثل العلاج بالضغط لآلام العظام "يشبه طرق العلاج الطبيعي الحديثة وإنما بأدوات بدائية، وكذلك العلاج بالأعشاب والزهور والعصي والروائح والأحجار الكريمة، وتلك الاخيرة لا يزال البعض حول العالم يؤمن بـ"طاقتها" في تعزيز الشفاء ودفع الأمراض وتحسين الحالة النفسية وغيرها.
علاج أم خرافة؟
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد من الأنواع العلاجية، ففي مصر استخدم المعالجون في مرسى مطروح بول الإبل في علاج الأمراض، أو وضع مؤخرة حمامة على الشخص خاصة لعلاج فيروس الكبد سي، والعلاج بوخز النحل، تذكر الباحثة في دراستها أن هذه الأساليب رغم إثارتها للرأي العام لمدى غرابتها إلا أن اللافت في الأمر أن كثير ممن خضعوا لها قالوا إنهم تحسنوا بعدها، لكن الباحثة لم تلجأ إلى فحص طبي مقارن كما يقتضي الحال في هذا النوع من الدراسات.
تقر منظمة الصحة العالمية بدور الطب التقليدي/ التكميلي والتكاملي كونه يسهم في تحقيق شمول الخدمات الصحية وضمان توفير العلاج لغير القادرين على الوصول للمنظومة الصحية الحديثة
لعبت المصادفة دورها في عمل صلاح الحر 67 عاماً كمعالج شعبي، حسب وصفه، في إحدى قُرى الجيزة، يُعالج الحر البواسير "بدون تدخل جراحي"، يقول لرصيف22 إنه كان في رحلة لدولة المغرب أُصيب خلالها بنزيف شديد بسبب "البواسير" وساعده أصدقاء مغاربة على معالجتها بمجموعة من الأعشاب وُضعت في فتحة الشرج فشُفي بسببها، موضحاً أنه لم يبدأ في ممارستها كمهنة إلا بعد عامين من عودته عندما شكا له أحد معارفه من آلام البواسير فقرر مساعدته بالطريقة ذاتها وأثبتت جدواها.
طوال 20 عاماً مارس الحر مهنته في المعالجة بالأعشاب، في البداية كان يستجلب الأعشاب المستخدمة من المغرب، ثم قرر البحث عنها في مصر بين المناطق الجبلية. ويوضح لرصيف22 أنه لا يتقاضى أجراً لقاء معالجة المرضى، لكنه يقبل الهدايا بعد الشفاء، وقد زوج بناته بهذه الطريقة فبعضهم يُهدي إليه أحد الأجهزة الكهربائية وآخر قد يُهدي إليه طاقم أكواب، كلٌ حسب قدرته المادية، ويزعم أن طريقته لم تفشل في علاج أي من المرضى حتى الآن.
الصحة العالمية: "دُعامة للرعاية الصحية"
بحسب موقعها الرسمي، تقر منظمة الصحة العالمية بدور الطب التقليدي/ التكميلي والتكاملي كونه يسهم في تحقيق شمول الخدمات الصحية وضمان توفير العلاج لغير القادرين على الوصول للمنظومة الصحية الحديثة.
وفي ورقة الموقف المنشورة عبر موقعها الرسمي، وصفت منظمة الصحة العالمية الطب الشعبي بأنه "مجال حيوي هام وجزء لا يتجزأ من الثقافات المحلية"، وهو ما دفعها للمطالبة بدمجه مع منظومة الصحة الرسمية في بلدان العالم التي تملك إرثاً طويلاً من ممارسات الطب والعلاج التقليدي، وأنه قادر على أن يشكل "دعامة أساسية للرعاية الصحية في بعض الأحيان ومكملاً أو مُتمماً لها في أحيان أخرى".
على الرغم من تبني منظمة الصحة العالمية لبعض طرق العلاج التقليدية كمكمل لسبل العلاج الطبية الحديثة، لا تزال وزارة الصحة المصرية ترفض الاعتراف بهذا النوع من التداوي رغم انتشاره ما يترتب عليه غياب التنظيم والرقابة تماماً على هذا القطاع في مخالفة لتوصيات الصحة العالمية
تُعرّف إستراتيجية الصحة العالمية الطب الشعبي بأنه حصيلة مجمل المعارف والمهارات والمُمارسات القائمة على النظريات والمعتقدات والخبرات المتأصلة في مختلف الثقافات، سواء كانت قابلة للشرح والتفسير أم لا، وتُستخدم في صيانة الصحة والوقاية من الاعتلال البدني والنفسي وتخفيفه ومعالجته.
وسبق أن وضعت المنظمة في عام 2010 دليلاً لممارسات الطب التقليدي التي تعترف بها ناجعة ومفيدة في تقليل أعراض بعض الأمراض أو شفائها، ويضم الدليل أشكال من التطبيب والعلاج التقليدي من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
مصر ترفض الاعتراف والتنظيم
على الرغم من تبني منظمة الصحة العالمية لبعض طرق العلاج التقليدية كمكمل لسبل العلاج الطبية الحديثة، لا تزال وزارة الصحة المصرية ترفض الاعتراف بهذا النوع من التداوي رغم انتشاره ما يترتب عليه غياب التنظيم والرقابة تماماً على هذا القطاع في مخالفة لتوصيات الصحة العالمية، وبالمخالفة أيضاً لبيانات رسمية صادرة عن الوزارة نفسها حول انتشار التداوي بالأعشاب وضرورة إخضاعه للتنظيم والرقابة.
وتصدر وزارة الصحة في مصر تراخيصاً لإنتاج المشروبات والمواد العشبية التي تباع باعتبارها "مكملات غذائية" رسمياً بينما يستخدمها الأفراد في التداوي. وتحتل مصر المركز الرابع عالمياً في تصدير "الأدوية العشبية" بحسب بيانات مجلس الوزراء المصري.
كما تعد السياحة العلاجية (غير المنظمة طبياً) واحدة من أدوات الترويج السياحي التي تعتمد عليها الدولة المصرية، لكنها تُخضِع العيادات والفنادق العلاجية في الواحات (خاصة سيوة) وأسوان لرقابة جهات تنظيم السياحة من دون أية رقابة طبية على الإطلاق نظراً للموقف الرسمي للدولة المصرية الذي يرفض تنظيم الطب التقليدي.
ورفضت هيئة مفوضي الدولة - خبراء قانونيون يضعون الأوراق البحثية والتوصيات التي تستند إليها المحكمة الإدارية العليا في قراراتها- في تقرير لها صدر في العام 2017 إلزام وزارة الصحة المصرية بالاعتراف بالطب التقليدي وتنظيمه وإخضاعه للرقابة.
وجاء رفض هيئة مفوضي الدولة استناداً إلى اعتبار ممارسات الطب التقليدي من قبيل التجارب الطبية التي لا ينظمها القانون المصري (وقتها)، وأنها "تقوم على وسائل لا تعتمد المنهج العلمي الصارم المتبع في كليات ومدارس الطب والصيدلة الحديثة المعترف بها"، وواصل التقرير أن "تلك الممارسات أو العلاجات غالباً ما تقوم على التقاليد والموروثات والثقافات الشعبية أو الخرافات والمعتقدات المحلية [...] أو وسائل الاحتيال والتدليس".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون