منذ أسابيع، تشهد السوق المحلية في مصر غياباً للسكر المعبأ وغلاءً في أسعار ما يتوفر منه حتى تخطى سعر كيس السكر المعبأ زنة 800 جراماً مبلغ 50 جنيهاً، وعادت طوابير الأسواق والمجمعات الاستهلاكية تمتد في الشوارع أملاً في الحصول على "كيلو سكر" سواء بالسعر الرسمي الذي حددته وزارة التموين والتجارة الداخلية في مصر بمبلغ 27 جنيهاً للكيلو أو بالسعر "الحر" الذي وصل في بعض المناطق 52 جنيهاً للكيلو، إن وُجِد.
هذه هي أزمة السكر الثانية التي تشهدها مصر في أقل من 10 سنوات، ففي العام 2016، شهدت مصر أزمة مماثلة، في ظل أزمة أوسع واجهتها مصر وقتها في وقت شح العملة الأجنبية؛ مما أعاق البلاد عن استيراد حصة تغطي الاحتياجات المحلية من السكر، وتأتي الازمة هذه المرة في ظل شح في العملة الاجنبية أيضاً وإن كان أشد وطأة وتحت ضغط ديون هائلة بات الاقتصاد المصري يرزح تحت ثقلها.
منذ عقود، تجدد الدولة المصرية الإعلان عن عزمها إعانة المزارعين على التوسع في زراعة "بنجر السكر"، كون نبات البنجر لا يستهلك كميات كبيرة من المياه كما محصول قصب السكر الذي تعتمد عليه مصر في إنتاج السكر منذ قرون. إلا أن أزمة السكر الحالية تكشف أن الدولة ربما لم توفق في مسعاها الذي تعلنه منذ سنوات لتحقيق الاكتفاء المحلي من السكر عبر التوسع في زراعة البنجر، فماذا حدث؟
منذ عقود، تجدد الدولة المصرية الإعلان عن عزمها إعانة المزارعين على التوسع في زراعة "بنجر السكر". إلا أن أزمة السكر الحالية تكشف أن الدولة ربما لم توفق في مسعاها الذي تعلنه منذ سنوات لتحقيق الاكتفاء المحلي من السكر عبر التوسع في زراعة البنجر، فماذا حدث؟
عزوف له ما يبرره
عزف بعض مزارعي البنجر هذا العام عن زراعته، فيما قلص آخرون المساحة المنزرعة منه استجابة لما واجهوه من عقبات العام الماضي تسببت لهم في خسائر هائلة، نجمت عن ضعف سعر التوريد وتأخر المتعهدين والمصانع في تسلم المحصول منهم مما أدى إلى تلف المحصول أو انخفاض سعره نتيجة لتراجع قدرته الإنتاجية في صناعة السكر.
ويعد البنجر أحد أهم مصادر إنتاج السكر في مصر حيث يستخرج منه نحو 1.8 مليون طن سكر من أصل 2.8 مليون هم إجمالي إنتاج مصر من السكر من مصادره المختلفة، فيما يقدر الاستهلاك المحلي للأغراض المنزلية والتجارية والتصنيعية نحو 3.2 مليون طن سنوياً.
هذه هي أزمة السكر الثانية التي تشهدها مصر في أقل من 10 سنوات، ففي العام 2016، شهدت مصر أزمة مماثلة، في ظل أزمة أوسع واجهتها مصر وقتها في وقت شح العملة الأجنبية
خسائر فتقليص
لم ينس علاء سالم، مزارع البنجر بمحافظة الدقهلية ما تعرض له العام الماضي من خسائر تخطت 70 ألف جنيهاً (أكثر من 2000 دولار حسب السعر الرسمي)، بعد أن قام بتحميل محصوله على عربات النقل متجهاً لأحد مصانع الدلتا لتوريد إنتاجه البالغ 210 طن بنجر، حصيلة زراعة 5 أفدنة؛ إلا أنه فوجئ برفض المصنع تسلم المحصول في ذات اليوم. يحكي سالم تفاصيل ما حدث لرصيف22 قائلاً: "فوجئنا أن المصنع قرر تأجيل الاستلام من دون أن يصدر لنا إخطارات تأخير تخليع (جنيّ) المحصول. بعدما تحملنا تكلفة النقل الكبيرة، رفض المصنع الاستلام وتكدست العربات أمامه 11 يوماً، والنتيجة كانت تراجع إنتاجي نتيجة فقدان الثمار جزء كبير من مياهها، فبعدما كانت زنة الإنتاج 210 طن، تقلصت إلى 175 بخلاف 10 طن شوائب".
قلّص سالم الذي يزرع البنجر منذ 20 عاماً مساحة زراعته للبنجر من 5 إلى 3 أفدنة فقط هذا العام. ومثله طلعت عبد السلام، الذي يزرع البنجر منذ العام 1991، إلا أنه عزف عن زراعته كلياً هذا العام نتيجة لخفض وزارة التموين سعر التوريد إلى 850 جنيه للطن
وتحاسب المصانع المزارعين على نسبة السكر في البنجر وليس الكمية بالأطنان، فنتيجة لفقد الثمار للمياه، وبالتالي نسبة السكر المستخلص من المحصول ونقاؤه؛ حوسب سالم على نسبة استخلاص سكر 16 وليس 21، بعد أن فقدت ثماره جزء كبير من نسبة السكر جراء تأخر عملية التوريد.
كانت نتيجة ذلك أن قلّص سالم الذي يزرع البنجر منذ 20 عاماً مساحة زراعته للبنجر من 5 إلى 3 أفدنة فقط هذا العام. ومثله طلعت عبد السلام، الذي يزرع البنجر منذ العام 1991، إلا أنه عزف عن زراعته كلياً هذا العام نتيجة لخفض وزارة التموين سعر التوريد إلى 850 جنيه للطن، وذلك بعد أن زرع العام الماضي 3 أفدنة فقط بسبب سعر التوريد المنخفض، والثابت منذ حينها.
ويرى المزارع الستينى أن السعر العادل للتوريد لا يجب أن يقل عن 3000 جنيهاً للطن بحسب تقديره.
قصب السكر مقابل "عصب السكر"
حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في مصر مارس/ آذار 2023، يمثل السكر المستخرج من البنجر نحو نصف إنتاج السكر عالمياً، لما يتمتع به من خواص تحسين التربة، فضلاً عن نواتجه الثانوية المستخدمة كعلف للحيوانات وأغراض الصناعة المتعددة.
وتمثل قيمة إنتاج بنجر السكر في مصر نحو 38% من إجمالي قيمة إنتاج مجموعة المحاصيل السكرية والبالغة حوالي 17 مليار جنيه في الفترة (2018-2020)، وتحتل محافظات الدقهلية والشرقية وكفر الشيخ المراكز الأولى في إنتاج بنجر السكر بنسبة 53.4% من إجمالي المساحة المزروعة به في الجمهورية والبالغة 602 ألف فدان.
إعلان مصر تصدير سكر وجلوكوز ولاكتوز بـ 364 مليون دولار خلال الفترة من يناير/ كانون الثاني، إلى سبتمبر/ أيلول 2023، غير مناسب لمعاناتنا من عجز سنوي يقدر بنحو 400 ألف طن يتم استيراده من الخارج، حيث أن استهلاكنا في الظروف العادية 3.2 مليون طن وقد يزيد عن ذلك
وفقاً لحسين أبو صدام نقيب الفلاحين، زرعت مصر نحو 600 ألف فدان من محصول بنجر السكر العام الماضي نتج منه نحو 1.8 مليون طن من السكر، وتوقع أبو صدام في حديثه مع رصيف22 أن يكون إنتاج هذا العام في الحدود ذاتها خاصة بعد إضافة أراضى زراعية جديدة. ويبدأ حصاد إنتاج 2023 في إبريل/ نيسان 2024، ويقول نقيب الفلاحين إن سعر توريد طن البنجر طبقاً لآخر تعاقد هو 1000 جنيه غير مشمول العلاوات.
أسباب أزمة السكر
وأرجع نقيب الفلاحين أسباب ارتفاع أسعار السكر للاستهلاك المتزايد للمواطنين، متهماً احتكار التجار "فضلاً عن قيام البعض بتهريبه للتصدير بطرق غير رسمية" على حد قوله.
ويرى صدام أن إعلان مصر تصدير سكر وجلوكوز ولاكتوز بـ 364 مليون دولار خلال الفترة من “يناير/ كانون الثاني، إلى سبتمبر/ أيلول 2023″ حسب بيانات المجلس التصديري للصناعات الغذائية، "غير مناسب لمعاناتنا من عجز سنوي يقدر بنحو 400 ألف طن يتم استيراده من الخارج، حيث أن استهلاكنا في الظروف العادية 3.2 مليون طن وقد يزيد عن ذلك في بعض الأحيان".
فيما نفى نجيب المحمدي مزارع بنجر ونقيب فلاحين الدقهلية أن يكون الفلاحين سبباً في خلق أزمة السكر التي تشهدها البلاد هذا العام قائلاً "محصول عام 2023 لم يتم حصاده بعد، ولن يحصد قبل إبريل 2024، لذا ارتفاع سعر السكر في الأسواق لا علاقة لنا به، ما يباع بأسعار مبالغ فيها إنتاج العام الماضي". ويضيف "تحمل المزارعين أعباء ارتفاع تكاليف النقل عليهم نتيجة تقاعس المصنع عن استلام المحصول منهم في مواعيده، ما ترتب عليه فقدان الثمار جزءاً من نسبة السكر بها لتكدس العربات أمام المصانع لنحو 20 يوماً في ظروف غير ملائمة على الطرقات، ما حملهم أعباء تأخر التوريد والنقل ودفع بعضهم للعزوف عن زراعته هذا العام".
بينما يرجع النائب مجدي الوليلي عضو مجلس النواب، وعضو مجلس إدارة غرفة صناعة الحبوب باتحاد الصناعات أزمة السكر لعدم التنسيق بين الجهات المختلفة، حيث تم تصدير كميات كبيرة من السكر "أكبر مما يجب"، مشيراً لعدم تحبيذ المزارعين زراعة البنجر لانخفاض سعره.
يباع كيلو السكر بأقل من 30 جنيه من المصنع للتاجر، في حين يباع في الماركت بأعلى من 50 جنيه وهذا السعر المبالغ فيه لا علاقة للمصانع به ومطالبة المزارعين برفع سعر التوريد أمر قد لا يمكن تطبيقه لأن الدولة توازن بين المحاصيل وبعضها البعض؛ فزيادة سعد توريد أحدها يعني ضرورة زيادة المحاصيل الأخرى
بحسب أحمد السيد عطية رئيس قسم التربية والوراثة بمعهد المحاصيل السكرية التابع للبحوث الزراعية؛ فإن تأخر التوريد يؤثر على نسبة السكر في المحصول ما يعود بالخسارة على المزارع، مشيراً إلى أن سعر توريد طن البنجر شامل العلاوات لا يتخطى الـ 1500 جنيه.
وعن مطالبة المزارعين بالموازنة بين سعر السكر في الأسواق وسعر توريد البنجر وغيره من الحاصلات السكرية؛ قال عطية "يباع كيلو السكر بأقل من 30 جنيه من المصنع للتاجر، في حين يباع في الماركت بأعلى من 50 جنيه وهذا السعر المبالغ فيه لا علاقة للمصانع به". ويرى الباحث أن مطالبة المزارعين برفع سعر التوريد أو زيادة المساحة المنزرعة أمر قد لا يمكن تطبيقه لأن الدولة توازن بين المحاصيل وبعضها البعض؛ فزيادة سعد توريد أحدها يعني ضرورة زيادة المحاصيل الأخرى.
ويحمل الباحث أزمة الدولار التي تشهدها مصر منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 مسؤولية ارتفاع أسعار الأسمدة وزيادة التكلفة على المزارعين، ما أدى لنقص ربحيتهم.
وتواصل رصيف22 مع دكتور أحمد كمال المتحدث الرسمي باسم وزارة التموين والتجارة الداخلية للتعرف على الخطوات التي تعتزمها الوزارة لحل أزمتي السكر وعزوف المزارعين عن زراعة البنجر بسبب سعر التوريد الذي تحدده الوزارة؛ إلا أنه امتنع عن الرد، فيما رفض هشام الدجوي رئيس شعبة المواد الغذائية باتحاد الغرف التجارية التعقيب عن وجود أزمة في السكر أو الإدلاء بأى تصريحات تخص الأمر.
أزمة وشيكة
يعتبر أبو صدام أن سعر توريد البنجر "زهيد بالنسبة للمزارعين"، حيث تزرع مصر البنجر بنظام الزراعة التعاقدية، ما يعني التعاقد بين الفلاح والمصنع قبل زراعته. مطالباً الحكومة بإعادة النظر في إجراءات تسلم المحصول للمشاكل المتكررة التي تواجه المزارعين سنوياً مع شركات الإنتاج لتأخرها في الاستلام أو مطالبتها باقتلاع البنجر قبل موعده، ما يترتب عليه مشاكل يتضرر منها المزارع والقطاع الغذائي بصفة عامة.
بحسب صدام ينتج طن واحد من السكر عن كل 7 أطنان من البنجر، بما يعادل 142.86 كيلو سكر/للطن، فيما تتراوح إنتاجية الفدان من 20 لـ 35 طن، ويعد البنجر المصدر الأساسي لإنتاج السكر في مصر، يليه القصب الذي زرع 375 ألف فدان منه العام الماضي، ونتج عنها نحو مليون طن سكر. وينتج طن القصب 120 كيلو سكر إلا أنه من المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه ما يجعله غير مناسب للوضع المائي في مصر حالياً رغم إنتاجيته العالية.
تزامن الحصاد مع درجات الحرارة المرتفعة التي شهدتها البلاد في يوليو 2023 والتي تخطت الـ40 درجة مئوية، ما أثر على نسبة السكر بالجذور خلال الفترة ما بين الحصاد والتوريد ما يتطلب سرعة التوريد، كما تؤدي الحرارة المرتفعة لتكسير نسبة من السكر في الثمار
ويؤكد أبو صدام على ضرورة الانتباه لزيادة المساحة المنزرعة من البنجر باعتباره أحد المحاصيل الموفرة للمياه، وقدراته العالية في تحمل الملوحة والجفاف على عكس القصب، وبلغ سعر توريد طن القصب 1100 جنيهاً للطن لعام 2023 وفقاً لوزارة التموين.
ويطالب الوليلي بوضع ضوابط للتصدير والاستيراد ومنح المزارعين حوافز ليقبلوا على زراعة البنجر، حيث بلغ إنتاج مصر من السكر محلياً 2 مليون و300 ألف من البنجر، 300 ألف طن سكر من قصب السكر علاوة على 200 ألف طن من الجلوكوز والفركتوز ليبلغ مجمل الإنتاج 2 مليون و800 ألف طن في وقت يبلغ استهلاكنا ما يتراوح من 3.1 لـ3.2 مليون طن، وتقدر الفجوة بما يتراوح من 400 لـ 500 ألف طن.
التغيرات المناخية وأزمة السكر
أثرت التغيرات المناخية على كافة المحاصيل الزراعية هذا العام الذي شهد طقساً مرتفع الحرارة لم تشهده مصر من قبل، رغم أن البنجر أحد المحاصيل المتكيفة مع التغيرات ولديه قدرة على تحمل درجات الملوحة وتوفير المياه إلا أنه بحسب أبو صدام أثرت درجات الحرارة المرتفعة على معدل نمو المحصول ما أدى لظهور الحشائش وحاجة المحصول للرش المنتظم.
يكشف رئيس قسم التربية والوراثة بمعهد المحاصيل السكرية تأثير التغيرات على محصول البنجر قائلاً "تزامن الحصاد مع درجات الحرارة المرتفعة التي شهدتها البلاد في يوليو 2023 والتي تخطت الـ40 درجة مئوية، ما أثر على نسبة السكر بالجذور خلال الفترة ما بين الحصاد والتوريد ما يتطلب سرعة التوريد، كما تؤدي الحرارة المرتفعة لتكسير نسبة من السكر في الثمار".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون