ربما تختلف قضيتنا، نحن العراقيين، عن القضية الفلسطينية قليلاً. نحن والفلسطينيون أبناء مأساة واحدة عنوانها الحرب الدائمة. أخبار الموت لا تأخذ منا استراحةً. بُنيت ذاكرتنا عن فلسطين منذ معركة جنين في تشرين الأول/ أكتوبر 1948، التي خاض فيها الجيش العراقي معارك شرسةً في فلسطين، لمنع تهجير أهلها، فأصبحت "معركة جنين" رمزاً لبطولة الجيش العراقي مع المتطوعين الفلسطينيين وقتذاك. قبورهم التي احتضنتها مدينة جنين في مقبرة خاصة توثِّق هذه الذكرى.
ثم أتت بعد ذلك حرب 1967، حين قامت القوة الجوية العراقية بتنفيذ العديد من الضربات داخل العمق الإسرائيلي (تل أبيب، وناتانيا، وكفر سيركين). وهكذا بقي الجيش العراقي حاضراً في كل المعارك دفاعاً عن فلسطين وأهلها، وصولاً إلى حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. ونُسجت على ذلك كله قصص لا تزال تتناقلها الأجيال إلى يومنا هذا.
أعدت النظر في شريط ذكرياتي عن حرب العراق. أصبحتْ أحداثه عبارةً عن فيلم فقدتُ دهشة مشاهدته مقارنةً بما يحل بالشعب الفلسطيني. أتذكر أول يوم تعرفت فيه على هذه القضية، وكنت طفلاً يشاهد الأخبار على قناة TV الشباب، التي كانت تبث في زمن النظام السابق، وظهر المذيع (وكان اسمه غضنفر عبد المجيد)، بزيّه الخليجي وصوته المميز، وهو يقرأ نشرة الأخبار، وفيها أطفال يطاردون الدبابات والعربات الإسرائيلية بالحجارة. وشاهدتُ أيضاً مقتل محمد الدرّة، وهو مختبئ في حضن والده خلف برميل حديدي، في اليوم الثاني من انتفاضة الأقصى عام 2000.
أتذكر أول قصيدة حفظتها عن فلسطين في الثانوية، وكانت من ضمن القصائد الواجب حفظها: "أخي جاوز الظالمون المدى"، وهي من أشعار علي محمود طه، وما زلتُ أحفظ كلماتها:
"أَخـي جَــاوَزَ الظَّــالِـمُـوْنَ الــمَـدَى/ فَــحَـقَّ الــجِـهَـادُ وَحَــقَّ الــفِـدَا/ أَنَتْرُكُهُمْ يَغْصِبُوْنَ العُرُوْبَةَ/ مَجْد الأُبُــوَّةِ وَالسُّؤْددا/ وَلَيَسَ بِغَيْرِ صَلِيْلِ السُّيُوْفِ/ يجيبون صوتاً لنا أو صدى"
هذا كان مدخل ذاكرتي إلى القضية الفلسطينية، وأتصور أن لكل منا نحن العراقيين مدخله الخاص إليها، لوجود ترابط وثيق وأحداث ومعارك كبرى كان العراق حاضراً فيها وتاركاً بصمته.
عجيب هذا التشابه بين العدوانين على بغداد وغزة. يتداول ناشطون صورةً من جزأين تُظهر حمماً ناريةً ترتفع حتى السماء في بغداد، عند بدء الهجوم عليها في العام 2003، وفي الجانب الآخر صورة غزة تُقصف من قبل طائرات الاحتلال الإسرائيلي
ولعل الشاعر العامي عبود الكرخي (1861-1946)، كان أول من كتب شعراً عن فلسطين: "يصير أنا أقبل بقسمة فلسطين... يصير أحب ملّة الصهيونية". وفي قصيدة أخرى يقول:
"فلسطين الشهيدة يا حسافة تصير... للصهيوني لقمة! سودة رايتنا"
تمنيتُ لو كان الشاعر العراقي مظفر النواب (1934-2022)، حيّاً ليشاهد امرأةً فلسطينيةً تقرأ على وقع صفارات الإسعاف قصيدته الشهيرة "القدس عروس عروبتكم"، بين جثث الأطفال والشباب، والركام وأنقاض ما خلّفه القصف الإسرائيلي على غزة. تصرخ المرأة بصوت أجشّ وتخرج منها الكلمات والدموع في آن واحد، وتقول:
"غزة عروس عروبتكم/ فلماذا أدخلتم كل زناة الليل إلى حجرتها؟/ ووقفتم تسترقون السمع وراء الباب لصرخات بكارتها/ وسحبتم كل خناجركم/ وتنافختم شرفاً/ وصرختم فيها أن تسكت صوناً للعرض/ فما أشرفكم/ أولاد القحبة، هل تسكت مغتصَبة؟/ أولاد القحبة/ لست خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم/ إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم/ تتحرك دكة غسل الموتى، أما أنتم/ فلا تهتز لكم قصبة".
أكملت المرأة القصيدة، ولا أظن أن عراقياً لم يبكِ وهو يشاهدها ولم يتمنَّ في الوقت نفسه لو كان مظفر النواب بجانبه ليشاهد قصيدته تُقرأ في زمانها ومكانها المناسبين.
نخال أحياناً أننا نحن العراقيين فلسطينيون، وأنّ جذورنا نبتت هناك في تلك الأرض، وربما لدى الفلسطينيين الشعور نفسه؛ أنهم عراقيون ونبتوا في أرض الرافدين. سألتُ مرةً شاعراً فلسطينياً يقيم في المهجر: هل أنت عراقي؟ سألته لأني رأيته قد كتب الكثير عن العراق وأوضاعه السياسية بشكل أذهلني. ومن الظريف أن الشاعر الفلسطيني نجوان درويش، كتب في أحد دواوينه هذا النص:
"في كلِّ مكانٍ ذهبتُ إليه ظَنّوني عِراقيّاً".
غزة وبغداد وقرب الموت
عجيب هذا التشابه بين العدوانين على بغداد وغزة. يتداول ناشطون صورةً من جزأين تُظهر حمماً ناريةً ترتفع حتى السماء في بغداد، عند بدء الهجوم عليها في العام 2003، وفي الجانب الآخر صورة غزة تُقصف من قبل طائرات الاحتلال الإسرائيلي.
ليس هذا فحسب، بل حتى الذرائع التي يبرر بها المحتلون جريمتهم هي ذاتها. زعموا بأن العراق يمتلكُ أسلحة دمارٍ شامل، وهي كذبة فاضحة، فالحقيقة كما يقول لويس رويدا، رئيس مجموعة عمليات العراق في وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه": "كنا سنغزو العراق، حتى لو كان ما بحوزة صدام حسين هو مجرد رباط مطاطي ومشبك ورق... كنا سنقول إنه سيستخدم هذه الأشياء لفقء عينك".
في الحرب على غزة، بُرّر الهجوم الوحشي الذي راح ضحيته حتى كتابة هذه السطور أكثر من 24 ألف شهيد غالبيتهم من النساء والأطفال، وأكثر من 61 ألف جريح، عدا عن الآلاف من المفقودين الذين ما زالوا تحت الأنقاض، على أساس أن "المقاومة الفلسطينية" قطعت رؤوس 40 طفلاً، وهذا الخبر بثّته قناة إسرائيلية اسمها "آي 24 نيوز"، ومنها انتشر إلى وسائل إعلام وصحف أجنبية، بالإضافة إلى محاولات ربط "المقاومة الفلسطينية" بتنظيم داعش الإرهابي كجزءٍ من البروباغندا الإسرائيلية. حتى أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، استند إلى هذه الكذبة المفضوحة لتبرير تشجيعه إسرائيل على المضي "بلا خطوط حمراء"، كما قال الناطق باسم البيت الأبيض. شوّهتْ الأسلحة المحرّمة وجه بغداد وغزة وأخفت معالمهما وأحرقت أهاليهما.
أتذكر تصريحاً أدلت به مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، في مقابلة أجراها معها برنامج "60 دقيقةً" لقناة CBS في 12 أيار/ مايو من العام 1996، عندما سألتها المذيعة: "سمعنا أن نحو نصف مليون طفل ماتوا في العراق، وهذا عدد أطفال أكثر من عدد الذين ماتوا في هيروشيما. هل تستحق الغاية؟". أجابت أولبرايت قائلةً: "أعتقد أن ذلك خيار صعب جداً، ولكننا نعتقد أن الثمن يستحق". وقد صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي: "قد أمرتُ بفرض حصار كامل على غزة. لن يكون هناك كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود. نحن نقاتل حيوانات بشريةً ونتصرف وفقاً لذلك". وهي حرب الحضارة ضد الهمجية كما قال نتنياهو، مستدعياً ثقافةً وعقليةً راسخةً قائمةً على ثنائيات الخير والشر ومدعومةً بأحاسيس عنصرية تدور حول مركزية الذات وثانوية الآخر.
نخال أحياناً أننا نحن العراقيين فلسطينيون، وأنّ جذورنا نبتت هناك في تلك الأرض، وربما لدى الفلسطينيين الشعور نفسه؛ أنهم عراقيون ونبتوا في أرض الرافدين
أبو غريب جرح يتجدد في غزة
20 سنةً مرّت على فظائع ارتكبها جنود أمريكيون بحق معتقلين في سجن أبو غريب، والتي سرعان ما افتضح أمرها أمام العالم، معتقلين جُرّدوا من ملابسهم وأصبحوا عراةً يرمونهم مثل الجثث واحداً فوق الآخر، ويطلقون عليهم الكلاب المتوحشة، ويعرضونهم لصعقات كهربائية في مناطق حساسة، ويغتصبونهم ويصلبونهم مثلما جرى للمسيح تماماً، بحسب ما تسرب من الصور وشهادات المعتقلين.
كانت هذه الذكرى الأليمة غافيةً في جراحنا حتى استيقظت بعد أن شاهدنا فيديو تداولته المنصات الإسرائيلية يظهر عمالاً معتقلين من غزة أُجبروا على خلع ملابسهم بالكامل ويتعرضون للضرب المبرح وتُسحق وجوههم بالأحذية العسكرية، ويضعونهم واحداً فوق الآخر مثلما حصل في سجن أبو غريب مع المعتقلين العراقيين قبل عشرين عامًا!
نسخ الدمار والمجازر
لا تزال جراح أهل الموصل والفلوجة نديةً. الفلوجة في عام 2004، يوم شنّ الجيشان الأمريكي والبريطاني حرباً عليها، استخدما فيها الأسلحة المحرمة، ووصفها الجيش الأمريكي بأنها "من أعنف المعارك المدينية التي شارك فيها مشاة البحرية الأمريكية منذ معركة مدينة هو، في فيتنام، عام 1968". ومن الآثار المأساوية التي تركتها هذه المعركة جراء استخدام الأسلحة المحرمة دولياً، هي أن مواليد الفلوجة بعد 2004، يولد الكثير منهم بتشوهات خلقية حتى هذه اللحظة.
أما معركة الموصل، فقد راح ضحيتها 11،000 مواطن خلال المعارك التي خاضها الجيش العراقي والتحالف الدولي لتحرير المدينة من قبضة "داعش"، ولا تزال آثار الدمار شاخصةً إلى اليوم.
الرئيس الأمريكي جو بايدن، استفز ذاكرة العراقيين بعد أن نصح الإدارة الإسرائيلية بأن تكون الحرب على غزّة أقرب إلى ما حدث في الموصل عام 2016، وليس الفلوجة عام 2004، وأرسل إليها الجنرال جيمس غلين الملقب بـ"سفاح العراق" وفقاً لموقع "أكسيوس"، وهو الذي ترأس سابقاً العمليات الخاصة لمشاة البحرية الأمريكية (المارينز). وشارك غلين في الحرب على الفلوجة، حيث قصف المنطقة بأسلحة محرمة دولياً واستخدم الفوسفور الأبيض.
وعلى الرغم من انكساراتنا وجراحنا الندية، ليس لدينا غير التضامن ومعه عزاء يأبى أن ينتهي... وكل جثة تُسحب من تحت الأنقاض تَحجز لها قبراً في قلوبنا. مكبلون بالعجز نحن، وقلة الحيلة، بسبب أنظمتنا السياسية الهجينة التي حطمت فينا كل شيء.
فهل ستبقى راياتنا سوداء إلى الأبد، كما قال الشاعر العراقي الشعبي عبود الكرخي متحسراً؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه