شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
ما ليس إرهاباً في نظرهم!

ما ليس إرهاباً في نظرهم!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الثلاثاء 24 أكتوبر 202304:55 م

كنتُ طفلاً ألعب أمام البيت مع مجموعة من أبناء الجيران، حين قطع لعبنا، سقوط صاروخ أمريكي بالقرب منّا. بدأت الأرض تمور تحتنا، وقلوبنا اكتوت برعب نتحسس حرارته إلى اليوم. عدنا إلى بيوتنا مترنحين مثل السكارى، ولم نسمع غير كلمات متقاطعة. وهكذا بدأت حياتنا في العراق الجديد الذي فتح ستارة المسرحية بسقوط الصواريخ والجثث الملقاة في الشوارع.

أتذكر وأنا أشاهد الحرب الهمجية على فلسطين من قبل الاحتلال الإسرائيلي والصواريخ التي تطلقها الطائرات التي تدكّ البيوت والمستشفيات في غزة على ساكنيها كيفما اتفق، ذلك اليوم الذي كنت فيه بالقرب من النافذة في الليل، حين كنت أقوم بلصق الشباك بأشرطة لتجنّب خطر تهشّمه عند أي غارة، لكن سرعان ما انفجر الزجاج في وجهي، بعد سقوط صاروخ في الحي الذي أسكن فيه. حينها غادرت الغرفة مسرعاً بوجه ترك فيه الزجاج نتوءات منقوعة بالدم.

هذا العدوان الإرهابي على فلسطين، والمدعوم من دول الغرب، كان بمثابة درس فلسفي عميق جعلنا نعيد النظر في كل شيء.

وأنا أتابع أخبار الحرب على فلسطين، أعدت النظر في شريط ذكرياتي عن حرب العراق؛ أصبحت أحداثه عبارةً عن فيلم فقد لذة المشاهدة والإثارة من جديد، مقارنةً بما يحصل مع الشعب الفلسطيني. سألت نفسي: هل ما يحصل إرهاب أم ماذا؟ وإذا كان إرهاباً، فأين الدول والمنظمات التي تدّعي محاربته من أجل أن يعمّ السلام العالم كما تزعم؟ لماذا لم أسمع مصطلح الإرهاب خلال هذه الحرب؟ لماذا أسمعه فقط يُطلَق على من يدافع عن نفسه ويريد تحرير أرضه من احتلال امتد لـ75 سنةً، ويغيب عن المحتل الذي ارتكب كل الجرائم غير مكترث بشيء؟

هذا العدوان الإرهابي على فلسطين، والمدعوم من دول الغرب، كان بمثابة درس فلسفي عميق جعلنا نعيد النظر في كل شيء: الليبرالية، حقوق الإنسان، الأمن الجماعي، والإنسانية. صرنا نحذف أكثر مما نضيف. تفسّخت هذه المفاهيم في مقبرة الأفكار، ولم تعد رائحتها تطاق. صرنا نهرب من أنفسنا بحثاً عن أفكار جديدة تشكّل لنا أرضيةً نقف عليها، بعيداً عن تلقين الإعلام الغربي ومعلّباته الفكرية.

وأنا أتابع أخبار الحرب على فلسطين، أعدت النظر في شريط ذكرياتي عن حرب العراق؛ أصبحت أحداثه عبارةً عن فيلم فقد لذة المشاهدة والإثارة من جديد، مقارنةً بما يحصل مع الشعب الفلسطيني. سألت نفسي: هل ما يحصل إرهاب أم ماذا؟ وإذا كان إرهاباً، فأين الدول والمنظمات التي تدّعي محاربته من أجل أن يعمّ السلام العالم كما تزعم؟

ومن ضمن المفاهيم التي أرّقتني منذ بدء العدوان على غزّة، مفهوم الإرهاب. ما هي معاييره ومحدداته؟ ولماذا لا يطلَق على الدول والأنظمة السياسية التي تمارس أعمالاً إرهابيةً؟ ولماذا لا يُطلق على الدول التي ترعى الجماعات الإرهابية؟ على سبيل المثال تعرِّف وزارة الدفاع الأمريكية الإرهاب بأنه: "الاستعمال والتهديد بالاستعمال غير المشروع للقوة، أو العنف ضد الأشخاص أو الأموال غالباً لتحقيق أهداف سياسية أو دينية". وتعرِّفه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية: "التهديد الناشئ عن عنف من قبل أفراد أو جماعات". وبعض الكتّاب الإسرائيليين يعتمدون على هذا التعريف، وغالباً ما يكررونه في كتاباتهم: "الاستعمال المنتظم للعنف من قبل أفراد أو جماعات أدنى من الدولة". وعلى هذا المنوال جاءت بقية التعريفات التي تتفق على إخراج الدولة من هذا المفهوم.

وهكذا كانت هذه التعريفات محملةً بأبعاد سياسية وأيديولوجية قائمة على الـ"نحن" والـ"هُم". فأنصار هذه السردية، وخصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل، يطلقون مفهوم الإرهاب على كل ما يهدد العالم الغربي فحسب. أعداؤهم بالضرورة من الهمجيين (الآخرين)، الذين هم خارج سرب التحالفات ويخوضون معارك من أجل تحرير بلدانهم ومحاربة الاستبداد والاستعمار. ولذلك كانت الدولة خارج مفهوم الإرهاب، فكل ما يصدر عنها لا يُعدّ عملاً إرهابياً حتى لو قتلت الآلاف، وهشّمت رؤوس الأطفال وقطعت المياه والكهرباء، وألقت القنابل على المستشفيات، ومارست أعمالاً عنصريةً وتطهيراً عرقياً، وحتى لو قتلت 1،046 طفلاً في 10 أيام مثلما يحصل الآن في فلسطين، وحتى لو تم وصف شعب كامل بأنه عبارة عن حيوانات بشرية، ويجب أن يعامَلوا وفق ذلك! يظل مفهوم الإرهاب صامتاً مفقوء العينين، غاطّاً في سبات عميق، لا يقطعه سوى صوت رصاص "المقاومة" وحركات التحرر، فيسارع إلى وصفها بالإرهاب في ماكيناته الإعلامية، بغية تجريد "الآخر" من إنسانيته وشرعيته، بينما يُضفي الشرعية على استخدامه العنف ضدّها. كما نجد من خلال التعريفات السابقة كيف عملت الإدارة الأمريكية على نحت تعريف يجعل الجماعات التي تخوض حرباً بالوكالة عنها في منأى عن شبكة مصاديق هذا المفهوم.

بدأت هذه المحاولات منذ عهد حكومة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان (1981-1989)، إذ صيغ مفهومُ الإرهاب بهذا الشكل: "الإرهاب شكل من أشكال العنف السياسي غير الأخلاقي الذي لا يمارسه سوى الآخرين". وصياغة تعريفٍ جامعٍ مانعٍ يمكن أن يصنّف أمريكا دولةً إرهابيةً وداعمةً للإرهاب، مثل ممارساتها في فيتنام وأفغانستان والعراق التي تشكّل "إرهاباً من قِبَل دولة". وبناءً عليه، ظل التركيز فقط على عنف الجماعات الصغيرة أو الأفراد، في حين جرى تجاهل العنف واسع النطاق من قِبَل الدول، على الرغم من أنه أشدّ أثراً وانتهاكاً للقانون الدولي الغائب الأبرز في تعريف الإرهاب بعد غياب الدولة، حتى تبقى مسألة انتهاكه خاضعةً للمزاجيات.

كانت الولايات المتحدة تدعم أنظمةً عديدةً قائمةً حول العالم من أجل احتواء الاتحاد السوفياتي، ولكن أيضاً، وللمرة الأولى منذ بداية الحرب الباردة، كانت تدعم العديد من الأطراف غير الحكومية لإسقاط الحكومات الموالية للسوفيات من أجل "تحطيم الشيوعية". كذلك دعمت عصابات الكونترا، وفي أفغانستان دعمت المجاهدين، وفي كوبا العمليات التي نفّذها المناهضون لكاسترو. ودعمت شركة "بلاك ووتر"، التي ارتكبت أعمالاً إرهابيةً في العراق، كذلك دعمت إسرائيل وأمدّتها بالسلاح والأموال لممارسة أعمال إرهابية ضد الشعب الفلسطيني كما يحدث الآن.

ظل مفهوم الإرهاب عائماً مطاطياً بشكل متعمّد ومحمّلاً بدلالات سياسية وأيديولوجية، ومصاديقه يحددها الطرف الأقوى، إذ بإمكانه أن يعدّ ما يجري في أوكرانيا احتلالاً، وما يجري ضد الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض والتاريخ، دفاعاً عن النفس!

ومن أجل إيجاد مخرج من هذا الحرج الذي يصمهم بإرهاب الدولة، رفضت الولايات المتحدة ذلك وذهبت إلى أنَّ "الأعمال التي يرتكبها أفراد أو مجموعات تدعمها دولة، هي نفسها أفعال الدولة، وتالياً لا ينبغي عدّها أعمالاً "إرهابيةً". كما يمكن أن يلاحَظ، على ضوء التعريفات السابقة، الحرص الكبير على قضم قطعة كبيرة من التاريخ، بحيث يبدو التعريف حديثاً ولا يتجه إلى الوراء، فتشمل دلالاته أعمالاً لا تُمحى من ذاكرة الشعوب، قامت بها الحركات الاستعمارية، فماذا يمكن أن يسمّى الاستعمار الأوروبي للأمريكيتين والاعتداء على السكان ومحوهم إن لم يكن إرهاباً في وقتنا الحاضر؟!

والأنكى من ذلك، نجد أن حركة النازيين الجدد، وهي حركة متطرفة عنصرية سياسية أيديولوجية توصف بالنازية، تكون بعيدةً عن مفهوم الإرهاب هذا، ونجد أن الإعلام الغربي يحاول خلق تبريرات تحسِّن من صورة الجماعة التي ارتكبت أعمالاً وحشيةً ضد الانفصاليين من الشعب الأوكراني، على الرغم من صراحة الجماعة في أنها تتبع أهداف الحركة النازية ومبادئها! ونالت الحركة الاعتراف من قبل الحكومة الأوكرانية علناً ورسمياً بصفتها مقاتلةً! ومن المؤكد أن الدول الاستبدادية ترعى هذا المفهوم المبستر والموارب وتضخ فيه الدماء لأنها بطبيعة الحال تسعى إلى القفز فوق الحقيقة، وتحاول لصق تهمة الإرهاب فقط بحق خصومها المطالبين بالحرية والعدالة، تأثّراً بالإعلام الغربي وآلية تقديمة لمفهوم الإرهاب.

يقول كرس هدجز في كتابه "الحرب حقيقتها وآثارها": "إننا ننظر للإسلام نظرةً مشوّهةً تنطوي على عنصرية واضحة المعالم، وتصف جميع المسلمين بأنّهم ميَّالون إلى العنف ومعادون للتقدم فضلاً عن كونهم منغلقين في تفكيرهم. إنَّ التصدي لمثل هذه النظرة وحتى محاولة فهم الظلم التاريخي الذي ارتكبناه بحق من يُعادوننا اليوم صار ضرباً من ضروب الخيانة الوطنية".

وبناءً عليه، ظل مفهوم الإرهاب عائماً مطاطياً بشكل متعمّد ومحمّلاً بدلالات سياسية وأيديولوجية، ومصاديقه يحددها الطرف الأقوى، إذ بإمكانه أن يعدّ ما يجري في أوكرانيا احتلالاً، وما يجري ضد الشعب الفلسطيني، صاحب الأرض والتاريخ، دفاعاً عن النفس! لذلك تصدرت الصحف ووسائل الإعلام الغربي كلمة "terrorism" بحق "المقاومة الفلسطينية"، وحاولوا شيطنتها من خلال بث كذبة أن المقاومة تقطع رؤوس الأطفال وتغتصب النساء... إلخ. لكن الأكاذيب سرعان ما كُشفت وسقطت، وما حاولوا شيطنته تمهيداً لعملياتهم الإرهابية نراه أمراً واقعاً عند المحتل الذي يدافعون عنه!

وما العجب في ذلك؟ تأسست الأمم المتحدة على أساس القوة وهيمنت عليها أمريكا، وحتى نقاط التصويت والاعتراض وحق "الفيتو" مبنية على ذلك. لقد أصبح هذا الكيان يشبه الإله الذي يرى بعين واحدة، ولا يهمه أن يدير هذا العالم بالأكاذيب، فهذه الأكاذيب عنده قد تكون نوعاً من حلّ!

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image