شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"ذكي جداً بس مبيحبش المذاكرة"... من يحبّها؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والطفولة

الثلاثاء 23 يناير 202411:00 ص

"ابني ذكي جداً بس مبيحبش المذاكرة"، جملة أسمعها مئات المرات من أمهات تظهر على ملامحهن علامات الغضب والاستياء، بسبب ابن أو ابنة يضيّع عليهن فرص التفاخر والزهو بين الصديقات، لأنه فقط لا يطيق المذاكرة لفترة طويلة ولا يستطيع أن يكون من الأوائل، وتبدأ كل منهن في البحث على الإنترنت عن الطرق الخزعبلية التي تجعل ابنها يغير جلده ويأكل الكتب من المذاكرة، مثل باقي أقرانه.

شكوى قديمة عمرها مئات السنين وستظل دائماً دون أن نجد لها حل جذري، ربما لأننا لم نفكر أنها بلا أساس وأننا نريد أن نحقق المستحيل. فهل هناك أحد منا حقاً، كبيراً كان أم صغيراً، شديد الذكاء أم محدود الذكاء والاستيعاب، يحب المذاكرة؟

عقدة أزلية

كنت في سن صغير عندما بدأت أسمع المقارنات بيني وبين أقراني في الصف رغم أنني متفوقة، ولكن دائماً الأمهات والآباء يجدوا ما يمسكونه عليك. وقتها درجة واحدة أنقصها في الامتحان كانت تضعني في موقف لا أحسد عليه. تبدأ أمي في التنظير: "زميلتك جارتنا حصلت على الدرجة النهائية"، "ابنة فلان لم تنقص ولا درجة"، وهكذا وربما وقتها فقط بدأت أكره المذاكرة واعتبرها ورقة ضغط واضطهاد من قبل الأهل فقط.

شكوى قديمة عمرها مئات السنين وستظل دائماً دون أن نجد لها حل جذري، ربما لأننا لم نفكر أنها بلا أساس وأننا نريد أن نحقق المستحيل. فهل هناك أحد منا حقاً، كبيراً كان أم صغيراً، شديد الذكاء أم محدود الذكاء والاستيعاب، يحب المذاكرة؟

تجدني أختي بين الحين والآخر أجلس سارحة بين الكتب لا أعرف إلام أنظر. تهزني بقوة قائلة: "ذاكري ماما جاية"، فأسألها: "ألا تفكرون في شيء إلا المذاكرة"، فتقول: "المذاكرة هي المستقبل". لم أفهم أبداً هذه المقارنة المستمرة بين المذاكرة وبين المستقبل، بين كثرة المذاكرة وبين تحصيل الدرجات.

جلست جارتي بجوار أمي عندما كنت في الثانوية العامة، وكانت تتباهى أن ابنها يذاكر لساعات قليلة في اليوم ولكنه ذكي ويحصل على أعلى الدرجات. وقتها مصمصت أمي شفتيها، وعندما خرجت المرأة من منزلنا حذرتني من أن أصدق، وقالت وقتها: "لازم تذاكري على الأقل 7 ساعات في اليوم"، ففتحت فمي من الدهشة وأنا أفكر كيف سأتحمل المذاكرة طوال هذا الوقت.

أكثر ما كان يزعجنا من المذاكرة، وما يزعج كل الأجيال، هو الامتحان. هذه الورقة التي تضعك في اختبار زمني يحدّد وزنك وقدرك أمام كل الناس دون استثناء، حتى أهلك الذين يعرفون من أنت، لو لم تنجح وتتفوق في الامتحان يغيرون رأيهم عنك في لحظة، وتسقط من عليين إلى أسفل سافلين دون شفقة.

لم يعرف أحد منهم، ولم يسأل، ما الذي أشعر به وأنا محبوسة في تلك الغرفة الصغيرة وسط كل هذه الكتب والمراجع. الحقيقة أنني مع الوقت كنت أختنق، أخرج هذه القصص والروايات التي كنت أشتريها سرّاً وأبدأ في قراءتها دون أن يعرف أحد، وأخبئها عندما أسمع أحدهم يقترب. المذاكرة كانت مملة ورتيبة. كانت كل ما يمكنني أن أكرهه رغم أنني كنت أحبه، ولكنهم ببساطة لم يعطوني سبباً لأستمر بحبها.

مطاردة الوهم

أجد صديقات لي يبحثن باستمرار على الإنترنت عن تلك الأكلات التي تزيد من التركيز، وتجعل الطالب يقبل على المذاكرة ويكون من الأوائل. كنت أندهش سابقاً أن هذه الموضوعات فعلا موجودة، ولكن ربما عرف أربابها أن المغفلين كثر وأن هذا سيزيد من فرص قراءتها.

تبدأ واحدة منهن تخبرني عن تلك الأقراص التي ستجعل ابنها صاروخ في التركيز، وتقول الأخرى إنها بدأت في شراء المكسرات واللوز وكل ما يلزم ليخلص ابنها من داء السرحان والتناحة وعدم الفهم، ثم تقرأ لي الثالثة موضوع "5 طرق تجعل ابنك يحب المذاكرة ويكون من الأوائل".

ورغم أن هذه الأمور أصبحت كثيفة وذات هوس لدى الكثيرات إلا أنها ليست جديدة بصورة كبيرة، فأتذكر عندما كنت صغيرة في الإعدادية، وحتى في الابتدائية، وكانت أمي تطبخ لي السمك باستمرار لأنها سمعت الدكتور يقول إنه يزيد من التركيز. الموضوع ربما له أساس علمي، ولكنه مع الوقت تحول إلى مزحة بيني وبين زميلاتي، فأكثر ما كنا نحبه وقت الامتحانات أن خلاله يقدم لنا أشهى الطبخات والمأكولات، ليس من أجل سواد عيوننا ولكن على أمل أن نستمر ونستمر في المذاكرة دون تعب أو ملل.

ابنتي والجيل الجديد

الجيل الجديد لا يخجل من الاعتراف بشكل صريح أنه لا يحب المذاكرة ولا يفضلها، وخاصة أن المناهج تزداد صعوبة بمرور الوقت. تسألني ابنتي باستمرار: "احنا بنذاكر ليه؟"، وعندما أحاول أن أخبرها حتى تكون متفوقة في الامتحان، تسألني مرة ثانية عن السبب الذي يجعلني أريدها أن تكون متفوقة إن كانت هي ليست حريصة بشكل كبير على ذلك.

الجيل الجديد لا يخجل من الاعتراف بشكل صريح أنه لا يحب المذاكرة ولا يفضلها، وخاصة أن المناهج تزداد صعوبة بمرور الوقت

في أوقات أخاف أن أكون أدور في نفس الدائرة المفرغة التي تدور فيها الأخريات وأن أكون أماً متسلطة مثلاً، ولكن أجدها تتدلّل بشكل زائد، فأحاول أن أحكم سيطرتي عليها، حتى تنفخ بين كل هذه الكتب الكثيرة على طفلة في سنها قائلة: "أنا بكره المذاكرة".

منحتها ورقة بها بعض كلمات باللغة الإنجليزية لتحفظها، بدأت تدور حولي وأنا أكتب هذا المقال، استطاعت بسهولة أن تقرأ العنوان، ربما لأنه يلمس فيها ما تريد قوله "من الذي يحب المذاكرة؟". فعايرتني ابنة الثامنة وهي تضحك: "هذه فكرتي.. قلتلك يا ماما مفيش حد بيحب المذاكرة".

ربما علينا حقاً أن نخبرهم أنهم لا يجب أن يحبوا المذاكرة، ولكن يتعاملوا معها بشكل آخر مثلما نتعامل مع الأشياء الواجبة التي نفعلها حتى رغماً عنا، أو ربما يجب أن نخفّف من هذا الضغط وننسى طموحنا التي نخزنها لأجلهم، ووقتها فقط قد تتحقق تلك المعجزة ويحبون المذاكرة.

فلا تتصوروا أن هناك أحداً يحب المذاكرة كفعل في حد ذاته، ولكن هناك من يخضع فقط لهذا الضغط والزن والإلحاح ليتخلص من اللوم والعتاب المستمر، ويجعل منكم أشخاصاً فخورين، راضين عما قدمتموه في حياتكم من خلال هذه الدرجات والشهادات اللامعة المعلقة.

الأمر نسبي ويختلف بالفعل بين إنسان وآخر ومتغير من وقت إلى آخر. لا يمكن قياسه بشكل محدّد وبصورة قطعية. لماذا لا تحاولون فقط أن تصبحوا راضين، وتخلعوا عنكم تلك الفكرة التي تقول إن درجات الابن هي مصدر الفخر؟ لماذا لا تخرجوا عقولكم من هذا الخندق وتتحرروا وتحرروا أولادكم؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image