شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
دليلك للاحتفال في زمن الحروب، أو الأمل كضرورة ملحّة

دليلك للاحتفال في زمن الحروب، أو الأمل كضرورة ملحّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الجمعة 12 يناير 202411:48 ص

يوصينا الفيلسوف نيتشه، ذو النزعة العدمية، في أولى كتاباته "مولد التراجيديا"، بأنه يجب على الإنسان الاحتفال "بصخب" في وجه موت الإله، ولا معنى الوجود الذي نستشعره أحياناً، وخصوصاً تحت وطأة زمن الحروب.

سألني أحد أصدقائي قبيل احتفالات رأس السنة الماضية: "كيف سنحتفل في ليلة رأس السنة؟". ذهبت في التفكير والتخطيط لحفل عربدة، بداية من نزول الليل حتى بزوغ فجر العام الجديد، تماماً كحفل باخوسي عريق، على طبول ديونسيس "إله السكر"، الذي كانت تأتيه النساء والرجال على السواء، آخذين في الرقص الشبقي والسكر حتى فقدانهم للوعي وعدم قدرتهم السيطرة على أنفسهم، قبل أن يخرجهم هو بقوته من حالة المجون تلك.

هذا تماماً ما أردت الشعور به، أن أحتفل حتى العمى، وأفقد وعي بكل ما هو حولي، لأتناسى مشاعر البؤس والخذلان التي غمرتني طيلة العام المنصرم، إثر خسارات لطموحاتي العبثية لتحقيق انتصارات سياسية، وتساقط لكل المبادئ الإنسانية التي طفقت أدرس طيلة شبابي، أمام براغماتية الواقع، وأمام ذلك الإحساس بالشلل الكامل في خضم مذابح نراها مباشرة، بيدين مربوطتين وعينين مقهورتين وفم فاغر.

الاحتفالات بالنسبة لي هي نوع من أنواع الانصياع لقواعد غير مرئية، عادات وتقاليد متصلة لمواقيت وأزمنة معينة، يجتمع عليها الأفراد بدون بيان لاتفاقهم الضمني، ولكونهم جزءاً من القطيع الذي يحركه الوعي الجمعي

التراجيديا ولَّادة

الشر، ذاك البؤس الدفين الذي يغلّف تاريخ البشرية بدماء أفرادها، هو المحرك لكل التغيرات الطارئة على وجودنا، فلا يمكن للإنسان أن يتقدم بدون "التراجيدي" في حياته، كما وصل الإغريق قديماً لذروة الحضارة وتفننوا في "حكي الدراما التراجيدية"، وصل أوديب للحقيقة وفقأ عينيه، أو قل إن الحقيقة هي التي فقأتهما. لم يتحملها، فسرب الوقائع المتتالية التي فتحت بصيرتنا على الحقيقة في الفترة الأخيرة، يمكن أن تودي بنا للانهيار العصبي، تماماً كما أوديب.

الاحتفالات بالنسبة لي هي نوع من أنواع الانصياع لقواعد غير مرئية، عادات وتقاليد متصلة لمواقيت وأزمنة معينة، يجتمع عليها الأفراد بدون بيان لاتفاقهم الضمني، ولكونهم جزءاً من القطيع الذي يحركه الوعي الجمعي الذي أرفضه في كثير من الأحيان بصرامة، محاولاً الانسلاخ من قبضته. فالاحتفالات المعدّة والمجهّزة سلفاً تجاه رمز أو فكرة ما، تمثل لي المياه الراكدة التي يتعفّن فيها هذا الوعي "المخصي"، الذي من خلاله تتبلّد نظرة الإنسان للعام المحيط – هذا ما وجدنا عليه آباءنا- تلك الصيغة المخضبة بالكسل نحو التغيير، لما هو ماثل أمامنا، والمحرّضة على التعود على أي ما كان الشكل الذي يتخذه واقعنا المعاش، حتى وإن شابه القتل والفتك ببعضنا البعض.

لم يكن الإنسان أبداً، حسب معرفتي الضئيلة، يحيا في حالة سلم دائم، أو في عالم طوباوي يتحاب وينسجم فيه مع الآخرين كلياً دونما اقتتال، بل خضنا صراعات دموية لا حد لها منذ بدء التاريخ، فـ "الألم الأبدي" لهو "أساس وحيد للعالم"، كما ينطق نيتشه، وقدرتنا على تحمل الحقيقة ضئيلة جداً، فالفارق الآن في عالمنا الرقمي، هو أننا نقف شهود عيان على سفك الدماء والمجازر والصرخات المنقولة مباشرة عبر شاشاتنا الصغيرة، التي تحيلنا بشكل ما لنوع أو جزء من الواقع المحيط، نجزع بعض الشيء تارة، نغضب ونفور أخرى، ونحاول تغيير "العالم" قبل أن يغيرنا تارة أكبر، فهول "الحقيقة الأوديبية" بشكلها اللاعتيادي يشل حركتنا.

أرقص غصب عني أرقص

هنا تتجلى الفلسفة النيتشوية بأن نواجه العدمية بحس ديونوسي، وإن كان واقعنا المعاش بصعوبة كنبض كموني في الحياة، فلا بد لنا أن نرقص ونتمايل مع حسّ تلك الطبيعة، في وجه الأسى، بكل رعونة وطاقة خلاقة، وبذلك لا نكون فقط قد تناسينا بؤسنا الحتمي، بل انخرطنا أيضاً في لحظة عملية "التخطِّي" أو "التعدِّي" للواقع، نصبح ليس أداة للواقع، بل أداة لتغييره والتأثير فيه، كي نستطيع تغيير ما يمكن بدافع من "الأمل الضروري".

تتفتق هنا فلسفة الاحتفالات عن سلاح ذي حدين، وجه للانصياع الأبدي ووجه للعصيان والمقاومة، يمكن للاحتفاليين أن ينعموا بالسلام من خلال التماشي مع ما يقدمه المجتمع من أفكار مطرزة ومميكنة، أو أن يثوروا عليها مقاومين لديمومتها التي تنساب خالقة فينا حالة من "الاعتيادية"، والممكن لصخبنا وخروجنا عن المألوف أن نتوقف عن تملقنا إياها، حيث يستدعي هذا الحديث عن الاحتفال أمام التبلد الفكري الجمعي، عندما قامت حركة "في الليل نقف" الفرنسية في عام 2016م، بتحويل "ساحة الجمهورية" لحفل تكنو صاخب، كنوع من أنواع المقاومة والاستبسال، بل للتأكيد على اجتماعهم وانسجامهم السياسي الاجتماعي.

لا يمكن للإنسان تقريباً إلا أن "يتخيل سيزيف سعيداً"، لو قرّر البقاء على قيد الحياة

تلك الموسيقى الصاخبة والأضواء المتوهجة، التي تشبه حفل الإله الروماني باخوس الذي عرف بجنون تجمعاته، حيث وصف المنظر الأمريكي فريدريك جيمسون، في كتابه " تكافؤ الديالكتيك" تلك الحالة بأنها "كلفحات أشعة شمس باروكية، فجأة ترسل خيوطها الضوئية من عالم آخر، وقتها ننتبه إلى أن اليوتوبيا موجودة، وأن نظماً ومساحات أخرى جديدة ممكنة".

أحجية النور في آخر النفق؟

فالأمل هنا في التغيير ليس فقط مطلب شخصي، بل هو ضرورة حياتية، لا مفر منها، فمن أحشاء الميلانكوليا يظهر لنا رفيف النجاة، و"إن عليكم يا أحبابي الشباب أولاً أن تتقنوا فن مواساة هذا العالم – يجب أن – تتعلموا كيف تضحكون إذا كنتم مصمّمين على البقاء متشائمين"، فالأمل في واقع أفضل وأكثر سلماً هو القمة التي نصبو إليها، وإن لم تتحقق اليوتوبيا فعلى الأقل أن نستطيع إليها سبيلاً. الضحك، الاستهزاء، الاحتفاليات الصاخبة، هي كلها مجازات عن الأمل، أوصى بها أرباب التشاؤم عبر التاريخ، لأنه ليس أمام بؤسنا الحتمي حل إلا أن نتبنى الحلم بالتغيير، لأنه "ليس من دون جدوى أن يتطلع الأبطال الكبار جميعاً إلى البقاء ومواصلة الحياة، حتى وإن كانت كدح وشقاء"، يدلل هنا نيشته على أننا حتى لو لم نكن على يقين بما نكدح من أجله أو فاهمين لهدف هذا الشقاء، فإنه لا سبيل لنا إلا في اعتقادنا بأن هناك شيئاً ما وراء هذا العذاب.

ولأنه "أن أعيش بسعادة، هو أن أموت آملاً"، مثلما قال شيشرو، سأقيم الاحتفالات في وجه العدم، وسأتخذ شقائي وقوداً لمقاومتي التيار الجمعي، وإن دعاني صديق ما للذهاب إلى حفل موسيقي صاخب في الصحراء مثلاً أو ميدان عام، لن أومئ بـ"لا"، لأني سأعيش على الأمل في استحضار لحظة التعدي لعوالم أخرى يمكن أن توجد مساحات جديدة مختلفة عن واقعنا الهزيل، ولأنه لا يمكن للإنسان تقريباً إلا أن "يتخيل سيزيف سعيداً"، لو قرّر البقاء على قيد الحياة.

* كل الإحالات والاقتباسات من كتاب "مولد التراجيديا"، كما ذكر في مستهل المقال، وأي إحالة أخرى قد ذكرت للتفرقة بينها وبين المرجع الأساسي. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image