قل لي من أين أنت، أخبرك كم سعرك. أنت مصري؟ إذن لنستبدل الأربعين منك بإنجليزي واحد، لكن لا تحزن، فالسوري أمره أصعب، لا بد أن يحضر معه قرابة مئة لإتمام نفس الصفقة، وحتى هو لم يصل للحضيض بعد، فإذا عبر هضبة الجولان، رأى قوماً في فلسطين لا يعني عددهم شيئاً طالما أنهم أحياء، وفقط موتهم هو ما يضع لهم سعراً.
من يضع السعر؟
هل جاءت الأوامر من خارج الحدود لتفرض على الوطن تسعيرة جبرية قليلة لمواطنيه، أم أن الوطن هو الذي يضع على ياقة مواطنيه سعرهم المتدني بنفسه؟ ربما الأمران معاً، الأكيد أن الإنسان يولد في أوطاننا مع أوراق تحمل كيانه، اسمه وجنسيته وبم يؤمن وبكم.
قرأت في مكان ما، بأنه في أحد رسائله، كتب نابليون لصديقه يخبره أنه اضطر لصرف خمسة عشر ألف جندي من أجل إتمام خطة ما. كان يقصد أنه أرسلهم لحتفهم. رأى نابليون أن الناس كالعملات في صرّته، يصرف منهم قدر حاجته، لو صدق نبأ تلك الرسالة فستكون الرسالة الأوضح في التاريخ لشرح كيف يُسعِّر الوطن ناسه.
قل لي من أين أنت، أخبرك كم سعرك. أنت مصري؟ إذن لنستبدل الأربعين منك بإنجليزي واحد، لكن لا تحزن، فالسوري أمره أصعب، لا بد أن يحضر معه قرابة مئة لإتمام نفس الصفقة
لكن الحروب ليست هي الطريقة الوحيدة التي تكشف لنا قيمة ما وصل إليه سعرنا في عيون من يتقلدون حكم الوطن، فكم من حوادث للقطارات راح ضحيتها مئات في شهور قليلة لم تكن سبباً لإقالة المسؤول من منصبه، دون الحديث عن محاسبته حتى. مرّ شريط الأخبار مرّات عديدة يبشّرنا بتغيير "فلنكات القطارات" رداً على حادث ما. كم توفي في الحادث؟ مئة؟ مئتان؟ أربعمئة؟ مهما كان الرقم فهو يساوي سعر تلك "الفلنكات" لا أكثر من ذلك.
وهناك أصواتنا الانتخابية، طريقة أخرى فعّالة لحساب سعرنا، ففي بلدان نسمع عنها، يضطرّ المرشحون لإغراء ناخبيهم بمستقبل مشرق وخطط تنموية قريبة وبعيدة، وإصلاحات تمس حياتهم، من تعليم وصحّة وغيرها من الأمور التي يجب أن تهم حقاً، هذا هو سعر الصوت الانتخابي في تلك البلدان: عمل ووعود وبرامج، أما في بلادنا فالسعر يساوي كيلو أو اثنين من السكر وزجاجة زيت، وربما إذا اضطرّ المرشح لذلك فسيضيف بضعة جنيهات، مثلاً وكما سمعنا، اعتاد رجال حسني مبارك أن يقطعون تلك الجنيهات لنصفين، الأول قبل التصويت والثاني بعده، وكأن سخرية القدر تخبر المواطن بأن سعره يشبه حياته، بالتقسيط.
خارج الوطن، ما سعرنا؟
المثال الأسهل على الإطلاق لمعرفة كم نساوي خارج الوطن هو مقدار ما نتلقاه مقابل عملنا. أحد الوسطاء أعلن عن وظيفة للعمل عن بعد لصالح عميل سعودي، تقدّمت للوظيفة وتم كل شيء على ما يرام وتبقى الاتفاق على الراتب، حينها وضع لي الوسيط راتباً لا يصل إلى 25% مما يتقاضاه نظيري في المملكة، أخبرته بأن متوسط الرواتب لنفس الوظيفة هناك أكثر من ذلك بكثير، فردّ علي ببساطة أن المتوسط لا يشملني لأنني مصري، لهذا فما قُدّم لي هو الثمن المناسب، إذن أربعة مصريين يشكلون سعودياً واحداً، لا لأنه أمهر منهم لكن لأنه أبعد ما يكون عن بلادهم.
هذه التجربة الشخصية المتكرّرة ليست بعيدة عن النقاشات الكبيرة التي تشمل الصناعات التي تقام في بلادنا لأن "موظفينا أرخص"، وعمالتنا، التي يعتمد الغرب والخليج على استقدامها لبلادهم لأن "عمّالنا أرخص"، بدون كثير كلام: بلادنا أرخص.
قليل من الخارج والداخل
أتذكر أنه في ليلة السابع من أكتوبر، وأثناء خوض نقاش مع صديق عن رد الفعل المتوقع لإسرائيل على ما حدث، أخبرته بأنه لو صحّت الأخبار بمقتل ألف ومئتي في أحداث طوفان الأقصى، فلا بد أن نتوقع رداً عنيفاً يتخطى مداه العشرين ألف قتيل من الفلسطينيين قبل الحديث عن وقف إطلاق النار. بالتأكيد كثيرون قالوا ذلك أيضاً. لم يتعجّب أحد بأن تساوي حياة واحدة أكثر من عشرين حياة مثلها طالما أن الجنسية قد اختلفت، وحتى بعد ذلك، في صفقات تبادل الأسرى، لن تشعر بغرابة وأنت تقرأ عن القواعد التي تقضي بأن تتم مبادلة ثلاثة فلسطينيين مقابل إسرائيلي واحد. أي حرية إسرائيلي تقارب حرية ثلاثة فلسطينيين، هذه أمثلة حديثة المشاهدة لتسعير فُرِض من خارج الوطن وآخر اقترحه الوطن، وحقيقة لا أدري أيهما أسوأ، هذا التسعير البيّن أم عدم غرابته على مسامعنا؟
هل جاءت الأوامر من خارج الحدود، لتفرض على الوطن تسعيرة جبرية قليلة لمواطنيه، أم أن الوطن هو الذي يضع على ياقة مواطنيه سعرهم المتدني بنفسه؟
العيب فينا أم...؟
لنترك الحديث العام عن رفض تسعير الإنسان، ولنلق نظرة على الواقع الذي نعيشه لنعرف إجابة سؤال: أين يقع الخطأ بالضبط؟ نعلم أنه لتسعير أي شيء هناك ثلاثة عوامل، المشتري والبائع والشيء ذاته، لماذا أشعر بأن الوطن يحمل اللوم الأكبر على تدنّي سعري في البورصة الإنسانية؟ لأن من خرج من هذا السوق وقرّر عرض نفسه في الخارج، حصل على صفقة أفضل بكثير من تلك الصفقات التي كان فيها الوطن شريكاً فعالاً، حتى العمالة التي استقدمتها بلدان أخرى حصلت على جودة حياة أفضل إلى جانب زيادة سعرها. إذن، إجابتي هي الوطن، وسؤالي للوطن: متى سيزيد سعري، إسوة بالبضائع التي زاد سعرها؟
وهنا أتذكر ذلك المشهد من فيلم "الإرهاب والكباب"، عندما سأل راكب داخل أتوبيس نقل عام في نقاش حول الأسعار: "يعني مفيش حاجة هترخص؟"، ليرد آخر: "حاجات كتير هترخص وتبقي بسعر التراب، أنا وأنت، والأستاذ وحضراتكم أجمعين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...