تنعكس خلافات الدول القوية على السياسات الداخلية للدول أو الحراكات الأضعف، لا سيما تلك التي تعتمد جزئياً في تمويلها ودعمها السياسي على الطرف الأقوى اقتصادياً.
تركت الخلافات السابقة بين بعض الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي أثرها الممتد في المنطقة، وفيما يدور الحديث الآن عن اختلافات لا خلافات مستجدة بين دعم قطر لمشروع الإخوان المسلمين -وهو ما ترفضه السعودية والإمارات على سبيل المثال-، لا يمكن القول إن هذه الخلافات ترتقي أو حتى تقترب مما حدث في العقد الماضي.
جذور الأزمة الخليجية
مثَّلت أزمة سحب كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين لسفرائها من الدوحة في العام 2014، العلامة الفارقة في طبيعة الخلافات بين دول مجلس التعاون الست، كونه الحدث الأول من نوعه على مرِّ تاريخ المجلس منذ نشأته بحسب البحث الذي نشره الباحث إسلام حسن على موقع "أكاديميا" في العام 2015.
تعود أسباب الأزمة إلى الربيع العربي، وتحديداً في العام 2013 حين وقعت الدول الأعضاء على "اتفاق الرياض"، وحددت موقفها من الثورات العربية، هذا الموقف أو تغيير الموقف الخليجي بالأحرى، كان قد تزامن مع وصول حركة الإخوان المسلمين لسدة الحكم في مصر، وهي الحركة التي يجمعها خصام مع دول الخليج لا سيما السعودية، في هذا الوقت الذي اختارت فيه قطر من خلال مؤسساتها الإعلامية جانباً مختلفاً في دعم بعض الثورات وانحازت لصوت حركة الإخوان المسلمين، كما اتهمتها البحرين بأنها تؤجج الحركات الانفصالية والتخريبية من خلال إعلامها.
لكن، بعد وساطة كويتية حثيثة وقعت قطر على اتفاق الرياض التكميلي، إذ تعهدت قطر حينذاك التوقف عن دعم "الإرهاب"، و"جماعة الإخوان المسلمين"، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأعضاء مجلس التعاون الخليجي، ووقع الشيخ تميم بن حمد أمير قطر والشيخ صباح الأحمد أمير الكوبت على الاتفاق. واستؤنفت العلاقات الدبلوماسية وأعيد السفراء في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، وتم عقد القمة 35 لدول مجلس التعاون في الدوحة في كانون الأول/ ديسمبر من العام 2014.
تعود أسباب الأزمة الخليجية إلى الربيع العربي، وتحديداً في العام 2013 حين وقعت الدول الأعضاء على "اتفاق الرياض"، وحددت موقفها من الثورات العربية، بالتزامن مع وصول حركة الإخوان المسلمين التي يجمعها خلاف مع السعودية لسدة الحكم في مصر، في الوقت الذي اختارت فيه قطر جانبهم
لكن أزمة جديدة عادت للظهور في حزيران/ يونيو 2017 وأشد من سابقتها، لامتدادها العربي، وعزتها السعودية لإخلال قطر باتفاق 2014 ودعم الإرهاب، فقطعت علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، ومثلها فعلت البحرين، الإمارات، اليمن، جزر القمر، موريتانيا، كما خفضت جيبوتي والأردن تمثيلهما الدبلوماسي، وسحبت الأخيرة ترخيص قناة الجزيرة. قبل أن تعود المياه إلى مجاريها في كانون الثاني/ يناير 2021، حيث ترأس أمير قطر وفد القمة الخليجية بالسعودية. وصدر بيان عقب القمة يُعلن إنتهاء الأزمة وعودة العلاقات.
إبحث عن الإخوان... السعودية لا تتسامح
الدعم القطري لجماعة الإخوان المسلمين والذي اعترفت به قبيل مصالحة 2021، كان السبب الرئيسي في موقف المملكة العربية السعودية من قطر، لا سيما خلال حكمهم لمصر في فترة الرئيس الراحل محمد مرسي، واقتراب الخطر من انتشارهم في الخليج العربي.
لفهم الحساسية التاريخية بين المملكة والإخوان، وعدم تسامحها مع دعم الحركة، يجدر العودة في التاريخ إلى فترة حكم الملك فيصل.
يرى بعض المفكرين أن أصل الخلاف هو بالأساس على "نسخة الإسلام المقبولة"، وأن الفترة التي تواجد بها الإخوان في السعودية خلال حكم الملك فيصل شكلت زعزعة لثوابت المملكة.
في حين يرى آخرون أن السعودية قد ترى في المنهج الإخواني من "الإسلام السياسي" تهديداً للاستقرار الاجتماعي، ومنافساً قوياً فيمن يمثل الإسلام السني في العالم، وهو ما يفسر بالضرورة المنافسة بين السعودية وتركيا كامتداد للحركة على تمثيل السنة ومصالحهم وصوتهم. إذ نجد في الموسوعة الإخوانية التوصيف التالي:
"بدأ نشاط تنظيم الإخوان المسلمين في السعودية بشكل واضح في فترة حكم الملك فيصل بن عبد العزيز ملك السعودية في الفترة بين (1964 - 1975). وقتها كانت العلاقات بين السعودية ومصر التي كان يرأسها وقتئذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في أقصى توترها بين الدولتين ذواتي النظامين السياسيين المختلفين جذرياً. لاحقا وبعد رحيل الرئيس عبد الناصر، وحدوث تقارب بين خلفه الرئيس أنور السادات والملك فيصل بن عبد العزيز، سعى فيصل لإحداث تقارب بين الإخوان والسادات. سيطر المنتمون للإخوان المسلمين على المناحي التعليمية في الجامعات تحديداً في عقدي السبعينات والثمانينات، وكذلك على المنابر الإعلامية خاصة في فترة حكم الملك فيصل في السعودية".
فلسطين ساحة حرب بين اللاعبين
التفوق السعودي الذي نجحت فيه المملكة عبر عقود في تقديم نفسها ممثلة للمسلمين والسنة تحديداً ليس محل شك، ولا حتى مع الانفتاح الذي تعيشه المملكة أخيراً. وعلى الرغم من الرمزية القصوى لوجود مكة المكرمة والمدينة المنورة، وإدارة مراسم الحج والعمرة، وتسمية الملك بـ"خادم الحرمين الشريفين" تظل رمزية ثالث الحرمين "المسجد الأقصى" في القدس عالية لدى المسلمين، يزيدها أنه يقع تحت الاحتلال، لذا تشكل حركة حماس أداة قوية لحركة الإخوان المسلمين في فلسطين وبالتالي وجوداً قطرياً، وهو ما يطرح السؤال عن الجهة التي تدعمها السعودية.
هل "السلطة الفلسطينية" هي الرهان السعودي؟
ينفي الكاتب السياسي عامر بدران هذا الأمر، مشيراً إلى عدم وجود فصيل أو جهة فلسطينية يمكن أن نحسبها على السعودية على نحو كامل، يقول: "السعودية ليس لديها رهانات في فلسطين كالتي لدى القطريين على حركة حماس، بالطبع لديها أدواتها، لكنها كدولة أكبر من أن تحرك هذه الأدوات، ما تهدف إليه السعودية هو بقاءها كدولة مركزية للسنة، وبوجود المحور الإيراني فقد يضعها التطبيع في المحور المقابل لإيران، لكنها ستنتظر ولن تخوض في علاقات طبيعية إلا إذا دفعت إسرائيل ما تستطيع السعودية أن تروّجه كثمن مرتفع أو كحل مرضي للفلسطينيين، كحقن دمهم في هذه الحرب، أو قبول إسرائيل بمبادرة السلام العربية التي قدمتها جامعة الدول العربية بقيادة السعودية".
ويقول لرصيف22: "المملكة تدعم السلطة إنما ظاهرياً فقط، لكنها لن تأخذها كخيار للنهاية، لكن السعودية ستنتظر اللحظة المناسبة لتدخل في علاقات طبيعية مع إسرائيل، أولاً بسبب مصالحها الداخلية كدولة كبرى في المنطقة، وثانياً للتفوق على المحور الإيراني".
ويشير بدران إلى ضرورة "أخذ المعطي الاقتصادي السياسي في الاعتبار، فالدول الريعية التي يأتي ريعها بدون جهد، لا بد أن تقوي وجودها الإقليمي والعالمي من خلال وجود دول شبه ريعية تعتمد بشكل جزئي على المساعدات والمنح التي تقدمها الأولى، مثلما تفعل الولايات المتحدة مع حلفائها في العالم، وهذا يجوز ليس فقط على الدول الصغيرة أو المتعثرة اقتصادياً، وإنما على الفصائل أيضاً، وتحديداً في السودان وسوريا وفلسطين أكثر من غيرها، لذا شكّل المال الخليجي مغنطة باتجاه سياسات الدول الخليجية من قبل الفصائل الفلسطينية".
بدران: "المملكة تدعم السلطة ظاهرياً فقط، لكنها لن تراهن عليها كخيار حتى النهاية".
يتفق معه في الجزئية الإيرانية الخبير الاستراتيجي عمر الرداد، الذي يرى أن المصلحة الإيرانية سعت إلى إشعال الحرب لصناعة حرج سعودي من التطبيع. يقول لرصيف22: "أعتقد أن إيران تسعى لوضع عقبات أمام السلام والتطبيع السعودي مع إسرائيل، لكنني أعتقد أنها عقبات مؤقتة، فتصريحات بلينكن في زيارته الأخيرة للمنطقة تؤكد بأنه لا يزال هناك أفق وأن السعودية لا تزال ملتزمة بهذا السلام وفق شروط سعودية بالطبع، وهي المرتبطة بالأساس بتحقق الدولة الفلسطينية المستقلة بوحدة أراضيها في قطاع غزة والضفة، وربما كان في تصريحات السفير السعودي في لندن مؤخراً ما يؤكد هذه النية".
ويضيف: "إيران نجحت مرحلياً في وضع عقبات أمام هذا السلام، إذ ليس بمقدور أي نظام عربي الآن أن يذهب في اتجاهات تطبيعية مع إسرائيل بينما هي تشن حرب على قطاع غزة، فحتى دول السلام كالأردن ومصر جمدت علاقاتها، مثل رفض الأردن عودة السفير الإسرائيلي إلى عمان وسحب السفير الأردني من تل أبيب، وإلغاء اتفاقية الغاز والمياه، وإعلانه وضع معاهدة السلام 1994 على الرف.
ويختم: "لكن كل هذا يجري في ظل القصف الوحشي على أهلنا في غزة، إنما أعتقد أن ما بعد الحرب حديث آخر، وربما يتخذ ملامح سياسية أكثر جدية تجاه إسرائيل، بالأخص بعد ما شهدته القضية الفلسطينية من انبعاث دولي جديد اليوم".
انعكاس التجاذبات الخارجية على الداخل الفلسطيني
يطرأ هنا سؤال حول المسؤولية الفصائلية لفصائل كبرى مثل فتح وحماس والجبهة الشعبية في انعكاس الانقسامات الخارجية على الانقسام الداخلي، فهل كان يمكن أن تتحقق الوحدة الفلسطينية وبالتالي وحدة القرار الوطني لو تحصنت الجبهة الداخلية من التجاذبات الخارجية؟
يلفت الكاتب والباحث معاذ دهيسات إلى أن أخطر ما مرت به القضية الفلسطينية هو عدم إدراك مسؤوليها أهمية بناء مرجعية وطنية ضمن اعتبارات مبنية على أسس قانونية وأولويات الصراع ومراكمة التجارب، وهو ما يصنع الدستور العميق الذي يحصن المشروع من العبث بمرور الزمن وتبدل القيادات والمرجعيات، ويرى أن إغفال هذا السياق عند المؤسسين للعمل الوطني الفلسطيني صنع ثغرة قاتلة في المشروع الفلسطيني ككل.
الرداد: "إيران نجحت مرحلياً في وضع عقبات أمام التطبيع السعودي، إذ ليس بمقدور أي نظام عربي الآن أن يذهب في اتجاهات تطبيعية مع إسرائيل بينما هي تشن حرباً على قطاع غزة".
يقول دهيسات لرصيف22: "بسبب ترك إعدادات ما يعرف بمصالح المشروع العليا عرضة للتعديل، بات التلاعب بالذاكرة الشعبية يخضع لرغبات الفصائل على الساحة الفلسطينية، وهو ما أدركته الدول الطامحة لمشاريع توسعية واستثمرت فيه من خلال تبني فصيل أو قوى سياسية على الساحة الفلسطينية وتالياً استثمار قدرة هذا الفصيل وصلاحياته في الولوج للوحة الإعدادات الرئيسية لمشروع الدولة الفلسطينية وقيمه العليا، وبالتالي تعديله وتوجيهه لخدمة مصالح الممول، فتحول الفلسطيني من مركز القضية إلى الهامش بالمعادلة الوطنية الجديدة ، ومن كونه الغاية إلى مجرد لأداة".
ويتابع: "بات من السهل أن نجد دماء الشعب الفلسطيني اليوم هي مجرد جزء من مشاريع تصفية الحسابات بين دول العالم كله وليس فقط على مستوى الإقليم، حتى وصلنا إلى اللحظة التي نرى فيها نظريات تتحدث عن صراع الطاقة العالمي وامتدادات حرب روسيا وأوكرانيا إلى سواحل غزة ونظريات جيوسياسية متداخلة ومتشابكة وصلت للتلاعب بسلاسل تمديد الغذاء العالمي وخطوط الملاحة عبر مسرحيات الضغط على المضائق البحرية وغيرها من المشاريع التي نراها اليوم".
ويختم: "لقد عانى الفلسطينيون للوصول إلى مرحلة التخلص من إرث الفصائل التاريخي التي تورطت بذات الخطأ من خلال رهن نفسها لصالح مشاريع إقليمية تحت ذات الذرائع، ودفعوا الثمن غالياً للوصول إلى مسار الدولة في مطلع التسعينات من القرن الماضي قبل أن تستغل بعض الفصائل للدخول من ذات الثغرة المصنعية القاتلة وتعيد القضية إلى ضبط المصنع كما شاهدنا في الأحداث الأخيرة ، ببساطة ما تقوم به كل دولة اليوم من استغلال طرف فلسطيني ضد آخر هو امتداد لذات الخطأ التاريخي ومن الصعوبة فكفكة وتحليل ما يحدث دون أن تتهم بالانحياز لصالح دول وعواصم اقليمية فجميعنا اليوم نملك صلاحيات الوصول للوحة الإعدادات الوطنية الفلسطينية".
تغذية عكسية للخلافات
لكن هل تغذي الحرب على غزة الخلاف الخليجي الخليجي؟ وهل ما يحدث في غزة اليوم قد يزيد من التوتر بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، على غرار ما حدث سابقاً في أزمة العام 2013 من خلال دعم قطر لحركة الإخوان المسلمين في مصر وهو ما اعترفت به؟ أو في أزمة 2017 من خلال دعمها لبعض الفصائل المعارضة في سوريا وهو ما أنكرته؟
دهيسات: "بات التلاعب بالذاكرة الشعبية يخضع لرغبات الفصائل على الساحة الفلسطينية ، وهو ما أدركته الدول الطامحة لمشاريع توسعية واستثمرت فيه من خلال تبني فصيل أو قوى سياسية على الساحة الفلسطينية"
يجيب عن هذا السؤال أستاذ دراسات الشرق الأوسط المعاصر في جامعة نورث ويسترن خالد الحروب: "ربما نجد أن هناك تأثيراً بسيطاً على العلاقات الخليجية الخليجية بسبب الحرب على غزة، لكنها علاقات متوترة وتغلفها الشكوك العميقة من قبل الحرب، وحتى خلالها وبعدها، هناك الكثير من الأسباب والدوافع التي تجعل هذه العلاقات غير مستقرة وهناك توترات عميقة تحت السطح بالأصل، ولا تحتاج إلى عوامل خارجية لتفعيلها".
ويقول لرصيف22: "إنما من الممكن القول إن نتائج الحرب سوف تقرر نفوذ هذا الطرف الخليجي أو ذاك، فالدول الخليجية التي تأمل أن تنتهي الحرب بهزيمة حماس، تعتقد أن هذا الأمر قد يصب في نفوذها الإقليمي، وعلى العكس منها، هناك من يعتقد من الدول الخليجية أن استمرار قطاع غزة تحت حكم حماس بشكل أو بآخر وانتهاء الحرب بهذا الاتجاه سيصب لصالحها، كل هذا قد يزيد من الخلافات الخليجية الداخلية بنسب بسيطة لكنها لن تكون الجذر المؤسس لخلافات جديدة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...