شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله (6)

سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله (6)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والحريات العامة

السبت 3 فبراير 202411:37 ص



غطت الحلقات الخمس الماضية من هذه السلسلة، مرحلة يمكن أن نسميها مرحلة الذات المعزولة. حلقة من الأصدقاء الجامعيين المتشابهين إلى حد كبير في الفكر وفي النظرة إلى الحياة، يشكلون فيما بينهم مجموعة للقراءة والنقاش في الشؤون العامة، الأمر الذي يشكل جريمة في ظل سلطة سياسية، كالسلطة الأسدية.

يُعتقل هؤلاء الأصدقاء، بناء على نشاطهم المذكور، ويُحقّق معهم في أحد فروع الأمن السياسي في دمشق، ويمكثون في الزنازين حوالي شهرين قبل أن يُنقلوا إلى السجن. طوال هذه الفترة كان الآخرون المختلفون عن هذه المجموعة، غرباء. وكان وعي شباب المجموعة يصوغ هؤلاء الغرباء، بناء على معطيات مسموعة وفقيرة عنهم، في صور منفرة، سهلة الرفض، فيرفضونها ويبقون راضين بنفسهم المتفوقة.

في السجن، ومع المعايشة اليومية لسجناء من مشارب فكرية وسياسية مختلفة، بدأت مرحلة جديدة يمكن أن نسميها مرحلة انكسار العزلة الفكرية النفسية أو مرحلة اكتشاف الآخرين واكتشاف حدود الذات.

في وعينا، كان "أبناء التهمة" الإسلامية كائنات متخيلة. بشر واجمون لا يعرفون الضحك، وعنيفون يكرهون ما عداهم ولا يتوانون عن قتلهم. لم يكن لنا من قبل أي صلة بأحد من الإسلاميين، ولا بأحد ممن يدافع عنهم أو حتى ممن يتفهمهم ولو بقدر ما. وقد صادف تفتح وعينا مع بروز حوادث اغتيالات منسوبة إلى الإسلاميين، تستهدف أشخاصاً يجمعون بين الموقع السلطوي (ضباط في الجيش أو الأمن) أو حيازة مكانة علمية أو وظيفية (أطباء أو أستاذة جامعيين)، وبين انحدارهم من عائلات من المذهب العلوي الذي ينحدر منه الرئيس السوري حينها (حافظ الأسد). أما من الناحية السياسية فقد كانت قناعتنا أنهم "رجعيون" في فكرهم وارتباطاتهم وفي مشاريعهم السياسية، ورافضون للعصر وللتقدم وقد تجاوزهم الزمن.

يمكن لمدقق أن يلاحظ فروقاً ناعمة بين أبناء التهم اليسارية وأبناء التهم الإسلامية، فهؤلاء أكثر تحفظاً في حياتهم اليومية، يميلون إلى الكلام بصوت منخفض، يبدون في سلوكهم أكبر من أعمارهم، يكثرون في أحاديثهم من العبارات الدينية... مجاز

المحصلة أننا كنا نعتقد أن هؤلاء يشكلون عقبة في سبيل التقدم الذي كنا نبتغيه، وكانوا بالتالي في خانة الأعداء. والحقيقة أن موقفنا السياسي "الواعي" رافق، أو بالأحرى ولّد، موقفاً نفسياً رافضاً لهم. والموقف النفسي أكثر ثباتاً وتأثيراً من الموقف السياسي، فهو قليل التأثر بالنقاش وقليل الخضوع للمنطق. على العكس، إن الموقف النفسي يجعل المنطق خاضعاً، بل خادماً، له، وتصبح غاية كل محاجة هي تدعيم الموقف النفسي المتشكل.

لم نكن ننتظر، بعد دخولنا السجن، أن يكون هؤلاء الشباب "الطبيعيون" الذين يلقون النكات ويضحكون أحياناً ويتسابقون في جودة الطبخ وفي تحسين المواد الغذائية التي تصلنا من إدارة السجن، هم "أبناء تهمة" إسلامية. إنهم لا يختلفون عنا، سوى أنهم في لحظة معينة من النهار، يمهدون لأنفسهم، في مساحة نومهم، مكاناً لأداء الصلاة التي يؤمها أكبرهم سناً. وما أن ينهوا صلاتهم حتى يعودوا بالتدريج إلى حياة المهجع، فيكمل أحدهم قصة كان يرويها قبل أن يعتذر ليذهب إلى الصلاة، أو يستأنف أحدهم حف بذور الزيتون على الحائط كي يصنع مسبحة، أو يستغل اشتعال البابور كي يتابع حرق لوحة مرسومة على الخشب، أو يعود لإتمام دق شطرنج لم ينته، قائلاً لخصمه: لقد أعطيتك ما يكفي من الوقت للتفكير ... الخ.

ذات يوم، بينما كنت أنتظر أحدهم وهو يتوضأ على المغسلة، لاحظ أني أتأمل حركاته. كيف يغسل وجهه ويمرّر أصابعه وراء أذنيه، ويمسح ساعده إلى ما بعد الكوع، ثم كيف يرفع رجله إلى جرن المغسلة كي يغسل قدميه... الخ. كنت بالفعل أفكر في دلالات هذه الحركات المتسقة التي ثابر أجدادنا على القيام بها منذ مئات السنين، والتي يقوم بها أمامي الآن هذا الشاب، بمهارة المعتاد وليونة الرياضي، فقد كان مهند رياضياً ولاعب كاراتيه بمستوى جيد، وكان فاقداً لإبهام كفه اليمنى خلال عمله في النجارة.

كنت في العشرين من عمري وكان يكبرني ببضع سنين. حين أنهى وضوءه، تناول المنشفة من على كتفه وتوجه إلي قائلاً بصوت هادئ: "هل تريد تعلم الوضوء"؟، قلت: "لا، ولكني استمتعت بمراقبة وضوئك". ابتسم الشاب ومضى. وكرر علي لاحقاً، أكثر من مرة، عرضه بأن يعلمني الوضوء، فقد استقر في نفسه، على ما يبدو، أن قشرة "ضلالي" رقيقة ويسهل كسرها.

وعلى كل حال، كان من شأن هذا أن جعله أكثر وداً معي طوال فترة بقائه معنا، قبل أن يُنقل مع آخرين من أبناء تهمته، في فجر يوم ثقيل، إلى سجن تدمر. كثيراً ما قال لي مهند وعلى وجهه ابتسامة راضية، وبنبرة تجمع بين اللطف والجد والمزاح: "إن في داخلك مؤمن". لم يكن مخطئاً، ففي داخل كل شخص مؤمن، لكن لكل شخص إيمانه الخاص الذي قد لا يوافق إيمان الآخرين، وقد لا يروق لهم.

يمكن لمدقق أن يلاحظ فروقاً ناعمة بين أبناء التهم اليسارية وأبناء التهم الإسلامية، فهؤلاء أكثر تحفظاً في حياتهم اليومية، يميلون إلى الكلام بصوت منخفض، يبدون في سلوكهم أكبر من أعمارهم، يكثرون في أحاديثهم من العبارات الدينية، وفي أحيان كثيرة يتمتمون كلاماً غير مفهوم يكون غالباً آيات من القرآن أو أدعية محفوظة، حتى تشعر أن صلتهم بالغيب أقوى من صلتهم بالحاضر، أو أنهم يعيشون تحت رقابة "غيب" يُملي عليهم.

فيما بعد أدركت أن هذا الجانب، الذي يفترض أن يكون قيداً يمنع أحدهم من الإساءة لغيره، هو مصدر خطير للأذى العام والخاص أيضاً. ذلك أن تسليم الأمر إلى "غيب" ما، يجعلك أداة صماء في يد من يحوزون، بطريقة ما، على تمثيل هذا "الغيب".

ولكن السلوك الغريب الذي لم أشهده عند غيرهم في السجن، هو أن أحدهم يجلس أحياناً في مكان نومه ويغمر نفسه بشرشف وهو جالس، فيكون عليه بمثابة خيمة مشدودة بين رأسه وقدميه وكوعيه المسنودين على ركبتيه المطويتين، ويبقى طويلاً على هذه الحال. هل هو هروب من ثقل العيون المحيطة بالسجين على مدار الساعة؟ (لكن ثقل العيون تطال الجميع وحاجة الهروب من هذه الرقابة الدائمة موجودة لدى الجميع). هل هو نوع من الخلوة الروحية والتواصل مع الخالق؟ لا أدري. الخسارة أنني لم أسأل أحداً منهم وأستوضح منه هذه الوضعية.

في وعينا، كان "أبناء التهمة" الإسلامية كائنات متخيلة. بشر واجمون لا يعرفون الضحك، وعنيفون يكرهون ما عداهم ولا يتوانون عن قتلهم... مجاز

بصورة عامة، كان يبدو لي أن لديهم شعوراً بنقص ما تجاهنا، يتجلى في قلة انبساطهم وفي لطفهم الزائد وانخفاض صوتهم في الحديث والتخاطب. كنا نحن، اليساريين، في صخبنا ولعبنا وضحكنا، أصحاب الحضور الأبرز في المهجع. كنت أشعر أن في عيونهم ما يشي بانكسار ما، أو بحمل عبء ثقيل لتهمة ينسب إليها عمليات دموية. وكما قلت من قبل، التهمة التي يعتقل الشخص باسمها تبقى أقوى من المتهوم الذي سوف يبقى "ابن التهمة" ويحمل عبئها مهما كان بريئاً منها، أو ربما ناقداً لها. والحق أن معظم الذين كانوا يملؤون السجون كانوا أبرياء من تهمهم. لم أدر حينها مدى دقة إحساسي هذا، وكان من الطبيعي أن أظن أن هذه المجموعة التي عشنا معها في مهجع واحد في بداية سجننا في سجن "الشيخ حسن"، لا تعطي فكرة كافية عن أبناء هذه التهمة، فلا صلة فعليه لهم بالإسلاميين "الحقيقيين".

أحد أبناء التهمة هذه كان يمتلك صوتاً رخيماً ومعرفة بأصول الغناء. في السهرات، أي الفترة الفاصلة بين العشاء (حوالي السادسة مساء) وتغطية إضاءة السقف (العاشرة مساء)، التي تعني بدء النوم، كان يغني أناشيد دينية، وقد دخلت إلى قلوبنا تلك الأناشيد محمولة على حلاوة صوته وحسن أدائه. الجمال يقرب بين الناس، ويسهّل القبول.

منه سمعت لأول مرة موشح "اسق العطاش"، بتنوعه اللحني الجميل، وجمعه الغزل الرقيق إلى مناجاة الخالق واستعطائه. كان يبدو لي هذا الشاب أقل "أبناء التهمة" تزمتاً. مع الوقت بدأ أيضاً يغني لأم كلثوم وعبد الوهاب. حين طلبت منه مرة أن يغني لفيروز، ابتسم معتذراً وقال "فيروز تُسمَع ولا تُقلَّد". كانت محزنة خسارتنا له، في ذلك الفجر الفاجر مع مهند وباقي أفراد المجموعة.

كثيراً ما كنت أتأمل هؤلاء الأشخاص فيبدون لي، من الناحية السياسية، بائسين يستحقون الشفقة، لأنهم يذهبون في عكس "اتجاه التاريخ"، في حين كنت أرى أننا نركب نحن في القاطرة الأمامية منه. هكذا كان تقديري قبل أن تبدي لي الأيام بساطة هذه التقدير. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

لا ليل يطول، ولا خريف

بعد ربيعٍ عربي كان يزهو بفورات الأمل ونشوة الاحتجاج، ها هي نوستالجيا الحريّة تملأ قلوب كلّ واحد/ ةٍ منّا حدّ الاختناق.

نوستالجيا أفرغها الشلّل القسريّ الذي أقعدنا صامتين أمام الفساد العميم والجهل المتفشي. إذ أضحت الساحات أشبه بكرنفالاتٍ شعبية، والحقيقة رفاهيةً نسيناها في رحلتنا المضنية بحثاً عن النجاة.

هنا في رصيف22، نؤمن بالكفاح من أجل حياةٍ أفضل لشعوب منطقتنا العربية. ما زلنا نؤمن بالربيع العربي، وربيع العالم أجمع.

Website by WhiteBeard
Popup Image