في الفرنسية مثل يقول، يمكن لملعقة صغيرة أن تفرغ البحر. في حالة المعتقلين الثلاثة عشر الذين تروي هذه الحلقات سيرتهم، كانت الملاعق الصغيرة التي راحت تنزح أعمارهم هي التوقعات ثم الآمال، وكان العميل الخفي لهذه الملاعق الصغيرة، شيئاً كامناً داخل كل فرد فيهم اسمه "المنطق". بعد أيام فقط، حين احتقر أحدهم هذا العميل، وقال في لحظة يأس: "إننا لن نخرج من هنا قبل ثلاث سنوات على الأقل"، بدا لي أنه مغرق في سوداويته، قبل أن يتبين أن هذه المدة أقل بكثير من المدة التي قضتها المجموعة.
كما بات يعرف من تابع هذه الحلقات، حين حاول ثلاثة عشر يافعاً سورياً أن يفتحوا عيونهم بجرأة ليتعرفوا على العالم، وجدوا أنفسهم في ممر الزنازين. وهم الآن في طريقهم من ممر الزنازين في فرع الأمن السياسي في حي الميسات، إلى السجن الذي يحمل اسم "كركون الشيخ حسن" في باب مصلى في دمشق.
لماذا إلى السجن وليس إلى الحرية؟ يسأل القلَق. فيجيب المنطق مطمئناً: إنه روتين الدولة، لا أكثر. ويعزّز المنطق إجابته بالقول: الجميع نُقلوا إلى السجن، رغم تفاوت الحالات، هذا يعني أن الملف قيد الدراسة، والإفراج قريب، لأنه لا يوجد في تحقيق أي من هؤلاء ما يستحق السجن. يسكت القلَق ولكنه لا يطمئن.
تقف سيارة المساجين أمام باب حديدي أسود كبير مسمط. ندخل على شكل رتل، إلى ما يشبه البيت الشامي. على اليمين بحرة شامية مضلّعة بنافورة لا تعمل، وفي الوجه باب حديدي رمادي اللون بدرفتين، وعلى الجانبين تتوزع غرف المكاتب. على كرسي خيزران في جوار البحرة، كان يجلس باسترخاء رجل سمين خمسيني، بقميص شيال أبيض، وقد رفع كمي بنطاله إلى حدود الركبة. كان ذلك في ظهيرة يوم قائظ من أيام شهر آب.
حاول ثلاثة عشر يافعاً سورياً أن يفتحوا عيونهم بجرأة ليتعرفوا على العالم، وجدوا أنفسهم في ممرّ الزنازين. وهم الآن في طريقهم من ممرّ الزنازين في فرع الأمن السياسي في حي الميسات، إلى السجن الذي يحمل اسم "كركون الشيخ حسن"... مجاز
قابلنا الرجل (الذي تبين أنه المساعد رئيس مفرزة السجن) بابتسامة رخوة، بدا لي أنها تنم عن متعة. يبدو أنه اكتسب وطوّر هذه المتعة خلال سنوات خدمته في هذا العمل. متعة أنانية تتغذى على فناء أعمار الغير داخل جدران السجن الذي يُشرف عليه، ولاسيما الأعمار الغضّة كأعمار هؤلاء الفتيان الذين تقودهم الأقدار إلى هنا. من الراجح أن حفّاري القبور يطورون أيضاً شعوراً بالمتعة من كونهم شهوداً "أحياء" على فناء الناس، ومن مهنتهم في كونهم الأحياء الذين يسلّمون الموتى إلى جوف الأرض.
يتأملنا المساعد وهو يمشي حولنا بتثاقل. كل ما فيه ثقيل، حركته وملامح وجهه ونظرته والابتسامة الرخوة المحشورة بين شفتيه السميكتين. نحن صامتون تحت ثقل الخوف والترقب، وعناصر الأمن المحيطون بنا صامتون تحت ثقل النظام. فجأة يعلو صوت نبيل، أكثرنا طفولة، معلناً حاجته إلى تواليت. يأتي الرد البارد من بين شفتين سميكتين: "اعملها على حالك وأنت ساكت".
بعد حين يتخذ الثقيل قراره. يقسم المجموعة إلى قسمين، الأول يوضع في الجماعية الفوقانية، وكنت في هذا القسم، والثاني في الجماعية التحتانية.
نمشي في ممر زنازين آخر كي نصل إلى الجماعية. كان وراء الباب عالم مغاير. باب الجماعية يفصل بين عالمين مختلفين تماماً. هنا احتفاء صاخب بنا. أسئلة اطمئنان، نظرات مودة دافئة، حرص على تهدئة نفوسنا. المواقف المشتركة تخلق شوقاً حتى بين أناس لا يعرفون بعضهم البعض. نحن جوعى لهذا الاهتمام والود، وسجناء الجماعية جوعى لوجبة ساخنة من العالم الخارجي. بالنسبة لنا، كان هذا اللقاء مع إمكانية الشاي والقهوة والمتة والطعام في أي وقت، سعادة طاغية بذاتها.
كان معظم سجناء الجماعية من حزب البعث الديموقراطي الاشتراكي العربي، المتعارف عليهم في الوسط السياسي السوري باسم "جماعة 23 شباط"، وهو تاريخ انقلاب صلاح جديد في العام 1966، أو ببساطة باسم "جماعة صلاح جديد". اعتقلوا في خريف 1981، إثر توزيعهم بياناً يدين "حادثة خلع الإشاربات"، أي إقدام عناصر تابعين لرفعت الأسد (شقيق حافظ الأسد) على نزع أغطية الرأس عن النساء في شوارع دمشق.
كانوا جميعهم من محافظة درعا، وبينهم شخص واحد من محافظة السويداء. كانوا أكبر منا سناً، وأقل حيوية. ولكن كان بينهم فتى صغير لا يتجاوز الخامسة عشرة من العمر، فلسطيني الأصل، اعتقل وهو في الصف الثاني الإعدادي، لأنه أدخل معه بضعة مناشير إلى المدرسة بطلب من شخص لم يعتقد، فيما يبدو، أن المخابرات يمكن أن تعتقل هذا الطفل وتحتفظ به عشر سنوات.
بقية السجناء كانوا بتهم إسلامية، معظمهم بأعمار قريبة من أعمارنا، يميلون، في غالبيتهم، إلى الانطواء. العدد الأكبر منهم كانوا من مدينة اللاذقية، وقد اعتقلوا في سن المراهقة إثر ما سمي "أحداث الشغب"، أو من ريف اللاذقية وقد اعتقلوا بتهمة تقديم مساعدة لمسلحين إسلاميين اتخذوا من الجبال هناك ملجأ لهم.
لم يكن في الجماعية سوى شيوعي واحد فلسطيني الأصل، اسمه "علي الشهابي"، معتقل على اسم حزب العمل الشيوعي، لكن كان في الواقع رجلاً أكثر حيوية وتمرداً من أن ينضبط في حزب أو أن يستوعبه حزب.
كان معظم سجناء الجماعية من حزب البعث الديموقراطي الاشتراكي العربي، المتعارف عليهم في الوسط السياسي السوري باسم "جماعة 23 شباط"، وهو تاريخ انقلاب صلاح جديد في العام 1966، أو ببساطة باسم "جماعة صلاح جديد"
يرسم علي في سيرته النضالية مساراً ذا عبرة في اليسار السوري. سُجن لأول مرة في العام 1974، قبل أن يبلغ العشرين من العمر، في حمّى اعتقالات المنظمة الشيوعية العربية، وقضى في سجن المزة سبعة أشهر. ثم اختلف مع كل المنظمات الفلسطينية، ونقد كل تنظيمات اليسار السوري، قبل أن يشارك مع آخرين في تشكيل مجموعة يسارية جديدة، لم تستمرّ طويلاً، وانضم مع بعض أعضائها إلى رابطة العمل الشيوعي، وشارك في مؤتمرها الأول الذي عقد في لبنان في 1981، وكان من المعارضين للتيار السائد في المؤتمر، ثم فُصل من التنظيم بعد محاكمة حزبية لأنه فعل ما رأى أنه حقه في أن يضع الناس في صورة التيارات السياسية التي ظهرت في المؤتمر.
ولكنه مع ذلك اعتقل في 1982، على اسم هذا التنظيم وقضى عشر سنوات في السجن. بعد خروجه من السجن، نشط علي في تشكيل تيار سوري مضاد للطائفية أسماه "سورية للجميع" واعتُقل مجدداً بسبب ذلك لمدة ستة أشهر. وحين اندلعت الثورة السورية انخرط علي فيها بكل ما يستطيع واختفى أثره في نهاية 2012، ولا يزال مختفياً حتى اليوم.
واجهنا في السجن ثلاث مشاكل لم نكن نملك أي خبرة لمعالجتها. في غياب الخبرة تغيب المرونة ويلجأ "الغرّ" إلى التطرّف.
المشكلة الأولى كانت التعامل مع المخبرين في السجن. لم أستطع أن أستوعب حينها كيف يمكن لسجين أن يكون مخبراً. وحين نبهوني إلى شخص مسجون بتهمة "بعث العراق" على أنه مخبر. لم ترتو عيناي من تأمله والنظر إليه خلسة وكأنه أعجوبة. وكان رد فعلنا المباشر هو المقاطعة التامة. المشكلة الثانية كانت العلاقة مع الإسلاميين.
قبل السجن، كان الإسلاميون في نظرنا كائنات غائبة، نقرأ عنها ولا نقرأ لها. كان لنا منهم موقف سلبي منته بوصفهم رجعيين تجاوزهم الزمن. في السجن صاروا كائنات حاضرة، ليس فقط بوصفهم حملة فكر معين، بل أيضاً وبوصفهم بشراً "عاديين" يتحدّدون بمواصفات شخصية مستقلة عن السياسة. المشكلة الثالثة هي العلاقة مع اليساريين المختلفين عنا، أقصد عن "حزب العمل الشيوعي" الذي بتنا مسجونين على اسمه. ويمكن الإشارة مروراً إلى أنه في معظم الحالات، "يتقمّص" السجين التهمة التي يسجن بها، والسبب المهم في ذلك هو ضغط الخارج (السجناء الآخرين) عليه من خلال النظر إليه على أنه "ابن التهمة".
كيف ستتطور علاقتنا مع الإسلاميين، وكيف سيتسبب هذا في مشكلة مع شيوعين آخرين؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه