شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
قبلةٌ تسقط في صحن السمسم

قبلةٌ تسقط في صحن السمسم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والنساء

السبت 3 فبراير 202411:07 ص



جلستا أعلى الهضبة. ليلى بشعرها القصير المذعن لحركة الهواء، ونعيمة بزيف حياتي وببلغة "تافراوت" المزركشة. اعتادت الواحدة منهما إخبار الأخرى أنها ستصعد الهضبة بعيد العصر. غالباً ما تسبق ليلى صديقتها. لقاءاتهما شبه يومية. أحاديثهما شبه مكرّرة، والعنصر الحاضر دائماً: صحن أبيض يتوسطهما، يتمدّد فيه السمسم أو اليانسون تحت خيوط الشمس الناعمة، لتفصل بين الحبات والشوائب يد نعيمة. يد كبيرة تُعرف عن بعد أنها تصلح للخبز وأيضا لنزع الحصى عن سطح الأرضية، حيث يمكثان معاً بعيداً عن مقهى الرجال الشعبي، بعيداً عن "بولسة" الإخوة، وعن خوف الأمهات المبالغ فيه. قريباً من الشجر، من الحجر، من الحشرات التائهة، ومن قطيع الخرفان الرائح قبيل كل غروب.

قالت نعيمة:  

-"سأطلعكِ على سر".

"-هاتي. لم نسمع لك أسراراً منذ زمن يا رفيقة": أجابت ليلى

- "عبد الرحمن، جارنا، اتصل بي أمس. قال إنه يود خطبتي. لم أعرف من أين له برقم هاتفي، لكن لا يهم".

-"عبد الرحمن؟ راعي الغنم؟ أنتِ رفضتِ أغنياء تافراوت. تتزوجين من سرّاح (راعي الغنم)!".

-"راعٍ حاصل على الإجازة في العلوم الاقتصادية. قد يشتغل يوماً محاسباً في الدار البيضاء ويأخذني معه. ثم إنه يرعى قطيعه الخاص".

صمتت ليلى. صمتت نعيمة. سكن الشجر. سكنت الرياح والحشرات، ليتحدث في رأسَيِّ الفتاتين لسان القبيلة السليط، ويقرّر مصير العذارى... مجاز

صمتت ليلى. صمتت نعيمة. سكن الشجر. سكنت الرياح والحشرات، ليتحدث في رأسَيِّ الفتاتين لسان القبيلة السليط، ويقرّر مصير العذارى. العذارى المرشحات لنيل لقب بشع لا أحد يطيقه، لا أحد ينظر إليه بعين سمحة حليمة. لا أحد يتهافت عليه. لا أحد يجرؤ على لفظه إلا إذا كان الهدف الشتم والاحتقار وإلحاق الأذى.

"لقد أصبحت بائرة يا ليلى": قالت نعيمة أخيراً.

-"ماذا؟! بالله عليك أنت في عمر الثلاثين. في عمر الزهور. في مرحلة اكتمال القمر. لا تتسرعي يا أخت!".

-"حتى أنتِ غير مقتنعة بما تقولين".

ضحكت نعيمة، طالبة من ليلى إكمال تنقية الزنجلان (السمسم)، حتى يتسنى لها أن تكتب رسالة نصية لعبد الرحمن على تطبيق الواتساب.

-"ماذا أقول له؟".

-"الأمر بسيط للغاية. كوني فقط لبقة وأنت ترفضين. كأن تكتبي مثلاً: الله يسهّل لك ف بنت الناس تستاهلك. ممم... أو: لا أفكر في الزواج، وإن حدث وفكرت، سأخبرك. لا لا! العبارة الأخيرة قد تجعله يعلق الأمل. وما أكثر الآمال الكاذبة! تصرفي أنتِ".

لا أحد يعلم ما كتبته سوى الراعي وأصابعها التي صبّت على لوحة المفاتيح نرفزة وتردداً، وكثيراً من الخوف من أن تندم يوماً ما. تكتب ثم تمسح. تعيد الكتابة، ثم تعيد مسح الرسالة عن آخره. نهاية الأمر، بدا لليلى التي كانت تلقي نظرها بين الفينة والأخرى على حركات صديقتها الغريبة، أنه نص متوسط الطول، لكنه حتماً مكتظ بمشاعر متضاربة.

ترفع رأسها إلى السماء. تخفضه أرضاً متتبعة مسار النمل واثق الخطى، الذي لا يأبه سوى لنقل حبات سقطت من الصحن الأبيض. تستغرق في التفكير: طوبى لصخرة ما عليها إلا أن تظل صخرة، لم يسبق لأحدهم أن عاتبها على صلابتها وصمَمِها. طوبى لشجرة تنمو، تزهر، أو قد لا تزهر. تورق، ثم يقتل الخريف أوراقها، فيظل الكل موقناً بقدوم الربيع. إنه عدل الفصول. إنه نظام الطبيعة المنصف والمنطقي جداً.

نقرت نعيمة على زر الإرسال. نظرت إليها ليلى بعيون باسمة مطَمْئِنة، دون أن ينطقا ببنت شفة.

لم تمضِ أكثر من ثلاثين دقيقة حتى مثُل عبد الرحمن أمامهما. فزعتا لمجيئه المباغت. التفتتا يمنة ويسرة مخافة أن يرصدهم أحد سكان القرية. هكذا تفعل كل بنات المداشر حين يأتي رجل ليحدثهن. نهضت ليلى مدعية أن عليها الذهاب. استأذنت ثم غادرت.

كانت المرة الأولى التي تنتبه فيها نعيمة لمدى صفاء عينَي الشاب. جنباً إلى جنب، قريبا الكتفين، هي تمد ساقيها المكشوفتين من خلال فُتحتَي تنورتها الطويلة. جلس هو القرفصاء وكأنه بوذا العظيم. لم يكن يبدو خجولاً أو متوتراً. كانا ينظران معاً نحو الأرض. طال الصمت الثقيل. أخذت بين يديها المرتجفتين الصحن. التصق السمسم بأطراف أصابعها المتعرّقة. تذكرتْ أنها سمعت مرة أن كوكب الشرق أم كلثوم دأبت على مسك الوشاح الصغير لتبدّد الرهبة، لتنتصر على الوجل الذي يفرضه الجمهور العريض. هنا، ما من جمهور سوى الخرفان الوديعة، إلا أن نعيمة ترتعش.

لا أقوى على لعبة الحماة و الكنة. لا أقوى على سقوط الأبناء في الآبار. لا أقوى على التجمل كل ليلة لئلا تفكر في امرأة أجمل. لا أقوى على البقاء شابة بلا تجاعيد... مجاز

-"أعرفكِ مذ كنت بظفيرة طويلة تلعبين و تخطين دوائر على التراب بغصن مكسور".

-"ما زلتُ أخطُّ الدوائر. ما زلتُ ألعب".

-"نلعبُ سوياً إذن؟".

-"لا أقوى على لعبة الحماة و الكنة. لا أقوى على سقوط الأبناء في الآبار. لا أقوى على التجمل كل ليلة لئلا تفكر في امرأة أجمل. لا أقوى على البقاء شابة بلا تجاعيد".

-"على ذكر السقوط، الوالدة تقول دائماً إنه حينما كنت أسقط أرضاً، يسقط قلبها أسفل بطنها. يسقط حرفياً".

كان يتحدث وبين الفينة والأخرى، يرمي بالحصى ليرد الغنم إلى مرعاها.

-"انظر! قطيعكَ بزعامة الخروف الضخم يقضم ذرة حقل السي الطاهر!".

-"لحظة من فضلكِ يا نعيمة... سأعود".

هبط مسرعاً نحو الخرفان. عادت إلى مرعاها. ألقى نظره إلى شجرة. تحتها تتربع صينية شاي وخبز وزيتون. جلس وأخذ يأكل في سلام وسكينة. ظلت تتأمل نعيمة المشهد الهادئ. حملت صحنها وقبل أن تغادر صاحت: " لا تصعد مجدداً إليّ يا عبد الرحمن. الأمر متعب، وبلا نتيجة". سمعها. بعث لها قبلة طائرة. أمسكت بها وخبأتها في الصحن الأبيض بين حبات السمسم، قبل أن يحلّ المساء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image