"كل هؤلاء المدنيين الذين قتلتِهم في ذلك البلد البائس"، تقول إحدى شخصيات مسلسل نتفلكس الجديد "Fool / me once - اخدعني مرة" لأخرى، من دون أن تحدد ماهية ذلك "البلد البائس"، لكن اللقطات التي تعود باستمرار إلى بطلة العمل في شكل فلاش باك، تُظهر ذلك المشهد المألوف: صحراء واسعة وأجواء صفراء، جنود غربيون وهليكوبتر وانفجار ومدنيون في سيارة وقصف جوي، ربما يكون العراق أو أفغانستان أو سوريا، أو أي من "بلداننا" التي يعود منها "الأبطال" الغربيون يؤرقهم الشعور بالذنب.
البلدان البائسة
يعود اسم المسلسل الذي أطلقته "نتفلكس" هذا الأسبوع إلى عبارة منسوبة إلى السياسي البريطاني من القرن السابع عشر "أنتوني ويلدون"، العبارة كاملة هي "اخدعني مرة؛ عار عليك، اخدعني مرتين؛ عار عليّ" "Fool Me Once Shame on You; Fool Me Twice, Shame on Me"، يكتفي اسم المسلسل البريطاني بالنصف الأول من العبارة، وكذلك فعلت الرواية التي اقتُبس منها المسلسل وهي من تأليف هارلان كوبين، والرواية والعمل يصنفان في فئك عالم الغموض والإثارة، لكن للمشاهد المنتمي لأحد البلدان "البائسة" أن يرى في العمل ما هو أكثر من ذلك.
"كل هؤلاء المدنيين الذين قتلتِهم في ذلك البلد البائس"، تقول إحدى شخصيات مسلسل نتفلكس الجديد، من دون أن تحدد ماهية ذلك "البلد البائس"... ربما يكون العراق أو أفغانستان أو سوريا، أو أي من "بلداننا" التي يعود منها "الأبطال" الغربيون يؤرقهم الشعور بالذنب
في ثماني حلقات، نعيش مع مايا ستيرن التي تلعب دورها ميشيل كيغان أحزان فقدها لزوجها جو الذي يقدم شخصيته ريشتارد أرميتاج في جريمة قتل بالرصاص. الدفن والعزاء والاكتئاب والابنة الصغيرة التي نتجت عن الزواج، يتضاعف كل ما سبق مع أحزان فقد مايا شقيقتها "كلير" التي تلعب دورها ناتالي أندرسون في جريمة قتل أخرى أثناء السطو على منزلها (أو هكذا بدا الأمر)، وقعت جريمة قتل أختها الوحيدة قبل أسابيع من مقتل الزوج، يمكن إذن تصور أحزان "مايا" ومشكلاتها النفسية وتشكك الجميع -خاصة عائلة زوجها الثرية- في قدرتها على رعاية طفلتها في هذه الظروف. وتزداد الشكوك حين تحكي "مايا" مشهداً لا يمكن تصديقه، فبعد أن أهدت إليها صديقتها المقربة إيفا التي تقدم شخصيتها الممثلة أديل لونس إطاراً للصور به كاميرا سرية، لتستطيع منها مراقبة المربية أثناء وجودها وحدها مع الطفلة، ترى "مايا" في الكاميرا السرية مشهداً مستحيلاً: زوجها السابق، المقتول "جو" الذي قتل وهي معه، يزور الطفلة ويحتضنها في غياب الأم والمربية.
كيف تتصرف مايا وهي لا تريد المزيد من التشكيك في صحتها العقلية، وهي صحة لم تتأثر بسبب أحزانها العائلية فحسب، بل قبل ذلك، بسبب ما فعلت وأدى إلى تسريحها من الخدمة العسكرية التي قضتها في "البلد البائس"، هنا ينتبه من جديد المشاهد العربي.
قتل المدنيين... بالخطأ
في خدمتها كقائدة هليوكوبتر مقاتلة، بعد أن انفجرت عبوة ناسفة في زملائها من الجنود على الأرض، تقترب سيارة مدنية من موقع المقاتلين، تطلب "مايا" من المراقبة أن تمدها بالأوامر بشأن التعامل مع السيارة التي تقترب، تتأخر الأوامر. ولأن مايا "ليست على استعداد لفقد المزيد من زملائها" تطلق النار على السيارة وتقتل من على متنها. يتضح فيما بعد أن من كانوا في السيارة مدنيون لا شأن لهم بالقتال. يتم تسريب الحادث عبر أحد نشطاء اختراق الملفات السرية، مما يؤدي إلى تسريح مايا من الخدمة العسكرية.
بالطبع فإن السيناريو، في جهده لصنع "مأزق البطل"، قد حاول تكوين المأزق الوجودي بوضع "مايا" بين خيارين كلاهما مرّ، فإما أن تنتظر الأوامر فتُهدد بـ"مقتل المزيد من زملائها" في ذلك اليوم، أو تخاطر بإطلاق النار فـ"تقتل مدنيين أبرياء"، لكن هذا المأزق الذي يبدو مقنعاً للمشاهد الغربي، الذي درج على تحية "أبطاله" الذين "ينقذون العالم" خارج الحدود، ليس مقنعاً بالقدر ذاته لمشاهد عربي، فالسؤال الأهم بالنسبة لهذا الأخير، هو ماذا كانت تفعل مايا في هذا "البلد البائس"؟
في خدمتها كقائدة هليوكوبتر مقاتلة، بعد أن انفجرت عبوة ناسفة في زملائها من الجنود على الأرض، تقترب سيارة مدنية من موقع المقاتلين، تطلب "مايا" من المراقبة أن تمدها بالأوامر بشأن التعامل مع السيارة التي تقترب، تتأخر الأوامر، ولأن مايا "ليست على استعداد لفقد المزيد من زملائها"
فلو أنها لم تكن هناك، ضمن القوات الأجنبية، لما كان هذا الموقف قائماً من الأساس، ولن تكون ثمة حاجة لإنقاذ زملائها، ولن يكون الأمر من شأنها أن تحتوى السيارة التي تقترب على مدنيين أو عسكريين أو حتى على حفنة من الجمال. لكن هذا بالطبع ليس كل شيء.
كلمة للمشاهد البائس
في المسلسل، تتلقى مايا عقاباً صارماً على إطلاقها النار على سيارة المدنيين، رغم "المأزق" الذي كانت فيه، والذي تسبب به جزئياً تأخر الأوامر الناتج عن رغبة التأكد من عدم وجود مدنيين في السيارة، كما أن تسرّب الحادثة قد تحوّل إلى "فضيحة" وإلى عزل من الخدمة وتدمير لحياة المقاتلة الشابة.
لا بد للمشاهد البائس هنا أن يتساءل: هل يتحدث المسلسل عن نفس العالم الذي نعيش فيه؟ هل سمع صناع العمل عن أي عقوبات صارمة على من أصدروا الأوامر أو ارتكبوا الأفعال الوحشية في العراق وأفغانستان و- بالطبع- فلسطين؟ أين الخشية على أرواح المدنيين إلى درجة تعريض حياة جنود غربيين للخطر من أجل "حماية الأبرياء"؟ وأين العواقب ومشاعر الذنب التي يصوّر المسلسل أنها دمرت حياة البطلة إلى درجة إقدامها على خيارات جنونية للتخلص مما تشعر به؟
ربما "خدعتنا مرة" تلك المسلسلات عن "أبطال" الغرب الحسّاسين العائدين من بلادنا، لكن -بعد الإبادة في غزة برعاية حكومات الغرب الكبرى- هل تخدعنا من جديد؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...