ربما كانت "معضلة القطار" هي أبرز الأفكار التي طرحتها الفيسلوفة البريطانية فيليبا فوت، عبر حياتها الطويلة (1920-2010)، أو لنقل أنها على الأقل، أشهر ما قدمت من أفكار، منذ طرحتها للمرة الأولى في منتصف ستينيات القرن العشرين، وهي منذ ذلك الوقت معضلة تزداد شهرة، وتزداد كذلك استخداماً في الأعمال الفنية والفكرية، سواء بصيغة مباشرة أو عبر الاقتباس والتلميح، وآخرها ما اختُتم به قبل أيام حلقات الموسم الأول للمسلسل الأميركي الناجح "ذا لاست أوف أس/ The last of us".
تقترح عليك معضلة القطار، أو معضلة "عربة الترام"، أنك تقود هذه العربة، أو تتحكم في العتلة التي تتحكم في مسارها، وأن عربة الترام تسير باتجاه خمسة أشخاص مقيّدين على شريط السكة الحديدية . وأنك إذا سحبت العَتَلَة، ستتحول العربة إلى مسار ثانوي آخر وسيتمّ إنقاذ الأشخاص الخمسة على المسار الرئيسي. ولكن المشكلة أنه يوجد شخص واحد آخر مُقيّد على المسار الثانوي.
أنت إذاً أمام خيارين: الخيار الأول هو ألّا تفعل شيئاً، ألا تتدخّل على الإطلاق، وتسمح للعربة بمواصلة طريقها وتدهس الأشخاص الخمسة على المسار الرئيسي، الخيار الثاني هو سحب العَتَلَة، وتحويل العربة إلى المسار الثانوي، حيث ستقتل شخصاً واحداً بدلاً من الخمسة، فأي خيار هو الأكثر أخلاقية؟
تفتح "معضلة القطار" أبواباً للكثير من الأسئلة، عن الحياة والموت، والخيارات الأخلاقية؛ معناها وفحواها ودلالاتها المتعدّدة، وعن الإرادة الإنسانية وقيمة الحياة البشرية
تفتح المعضلة أبواباً للكثير من الأسئلة، عن الحياة والموت، والخيارات الأخلاقية؛ معناها وفحواها ودلالاتها المتعدّدة، وعن الإرادة الإنسانية وقيمة الحياة البشرية. خصوصاً أن المعضلة لا تنتهي عند هذا الحد، فهي تواصل طرح الأسئلة كلما تقدمت فيها. فإذا قرّرت – مثلاً – أن إنقاذ حياة خمس أشخاص أهم من حياة شخص واحد، فإنها تقترح عليك التالي: ماذا لو كان الأشخاص الخمسة مجرمين مدانين بجرائم بشعة، بينما الشخص الواحد إنسان بريء.
ثم ماذا لو كان الشخص الواحد هو مجرّد طفل، بل هو ابنك أنت. ثم ماذا لو لم يكن هناك هذا الشخص الواحد المقيد على المسار الثانوي. ماذا لو كان هناك شخص يمشي فوق الجسر ولا علاقة له بالأمر كله، لكن يمكنك أن تدفعه من فوق الجسر إلى مسار القطار فيوقفه وينقذ الأشخاص الخمسة، وماذا لو كان هذا الشخص فوق الجسر شريراً، والأشخاص الخمسة أبرياء، أيبرّر ذلك تدخّلك لاستخدام حياته وسيلة لإنقاذ الآخرين؟
إن تطبيقات هذه المعضلة لا نهاية لها، وتتجسّد في العديد من الصور الأقل تجريداً من مشهد القطار والأشخاص المقيدين. فماذا عن طيار تسقط طائرته في منطقة مزدحمة، ولديه خيار أن يتجه بها إلى منطقة أخرى يسكنها بشر كذلك ولكن أقل ازدحاماً بكثير؟ ماذا عن طبيب في غرفة جراحة عليه أن يختار بين المرضى الذين يستطيع إنقاذهم؟
تفتح تلك الأسئلة وإجاباتها العديد من المسارات لعلم النفس وفلسفة الأخلاق، وهي تبدو في كثير من الحالات ذات إجابات سهلة (إذا يختار الغالبية الكبرى من الناس إنقاذ حياة العدد الأكبر) ولكن تلك الإجابات تتغير بسهولة حين يتغير منظور الشخص الذي يخوض الاختبار (حين تخبره أن الضحية سيكون شخصاً مقرباً إليه).
تفتح أسئلة مسلسل "The last of us" وإجاباتها العديد من المسارات لعلم النفس وفلسفة الأخلاق، وهي تبدو في كثير من الحالات ذات إجابات سهلة، ولكن تلك الإجابات تتغير بسهولة حين يتغير منظور الشخص الذي يخوض الاختبار
على كل حال لم يضيّع جويل (بيدرو باسكال) الكثير من الوقت في تلك الأسئلة، لقد اتخذ قراره ونفذه فوراً (ربما لأنه لم يكن يملك الكثير من الوقت)، واختار إنقاذ الصغيرة إيلي (بيلا رامزي) على حساب الآخرين، على الرغم من أن إيلي لم تكن ابنته (وإن حلت نفسياً محل ابنته الميتة)، وعلى الرغم من أن الآخرين هنا لم يكونوا خمسة أشخاص أو عشرة، بل ربما كانوا البشرية كلها.
تلك كانت إجابة صناع المسلسل الأمريكي "ذا لا ست أوف أس/ The last of us"، على سؤال "معضلة القطار"، المسلسل الذي انتهى عرض موسمه الأول قبل أيام، من إخراج كريج مازن ونيل دراكمان، حقق نجاحاً واسعاً استتبع الإعلان فوراً عن جزء ثان حتى قبل أن ينتهي عرض الحلقات الثلاث الأولى من الموسم الأول. نجاح تخطى عالم ألعاب الفيديو الذي تنتمي إليه قصة المسلسل منذ صدرت أولاً كلعبة فيديو لأجهزة "بلاي ستيشن 3" قبل عشر سنوات.
إنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها اقتباس عمل فني من لعبة فيديو، فتلك صارت إحدى سمات عصرنا، حيث صارت كلمة "عصرنا" نفسها تشير إلى عدد قليل من السنوات بحكم سرعة المتغيرات.
إنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها اقتباس عمل فني من لعبة فيديو، فتلك صارت إحدى سمات عصرنا، حيث صارت كلمة "عصرنا" نفسها تشير إلى عدد قليل من السنوات بحكم سرعة المتغيرات. لكنها قد تكون تجربة الاقتباس الأكثر فنية من عالم الألعاب، وضعت المسلسل سريعاً – على تقييمات المشاهدة والنقاد – في درجة أعمال تلفزيونية على مستوى "لعبة العروش/Game of thrones" و"الموتى السائرون/The walking dead". يتوافق ذلك مع ما أعلنه الإنتاج من أن أحداث الجزء الثاني ستكون "مختلفة تماماً عما يتوقعه الجمهور"، وهي تبدو كإشارة إلى الانتقال النهائي للعمل/ اللعبة من عالم الألعاب إلى عالم الدراما، على الرغم من أن معضلته النهائية، معضلة القطار، كانت خيار السيناريو الوارد في الأصل ضمن اللعبة، وقد انتقل به المسلسل فحسب إلى جمهور أوسع، جمهور قد يكون أكبر سناً أيضا من جمهور اللعبة، لكنه لا يزال يقف حائراً أمام المشكلة التي تطرحها المعضلة.
وربما لذلك، حين يتخذ "جويل" قرار النهائي في الحلقة الأخيرة، مفضلاً حبه الأبوي للصغيرة "إيلي" على إنقاذ العالم، ومقرراً ألا يسمح بقتل الطفلة حتى لو كان ذلك يعني ارتكابه المزيد من القتل، فإنه يعجز عن إخبار "إيلي" بما فعل، ويقرّر الكذب في سبيل حمايتها من الشعور بالذنب، لأنه يعلم – ألسنا جميعا نعلم - أن الحقيقة، الهشة والقابلة بسهولة للتفنيد، قد تكون أصعب من قدرتنا على الاحتمال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...