توقف عَداد عمري في غزة عند السادسة والعشرين، هذا يعني أنني عشت جميع الحروب والتصعيدات التي امتدّت من عام 1996 وحتى عام أواخر عام 2021. وقد كانت هذه الأحداث جوهراً في تشكيل هويتي النفسية والكِتابية، أي يمكنني القول، إن الدّم والدمار الذي عايشته في غزة صنعني. ومن باب المِثال لا الحصر، فقد عرّفتني حرب 2008 على الخوف، وجرّتني حرب 2012 إلى الأرق، وسجنتني أيام حرب 2014 الخمسين في قفص الكتابة الذي لا فكاك منه، ثمّ جاءت حرب 2021، لترسم آخر خطواتي في البلاد التي قررت مغادرتها.
وعلى الرغم من أنني - على المستوى الظاهري - صرت بعيداً عن شظايا الصواريخ والمدافع التي تسقط على غزة منذ السابع من أكتوبر، إلا أنها طالتني، حتى أن يديّ ملطخة بالدماء التي تسيل هناك، وقدميّ متشققة من النزوح المستمر إلى الجنوب، وروحي مجروحة من العيش في الخيام وتحت زخات المطر والرصاص. أما فكرياً، فقد رسمت هذه الإبادة الجماعية مساراً جديداً في حياتي، مسارٌ مختلف تماماً عما سبق، إنه يشبه الولادة مِن جديد.
ولادة السابع من أكتوبر
إذا كنت أعتقد أن الحروب شكّلت وعيي الذي قادني إلى يومي هذا، فإن السابع من أكتوبر، وما تلاه من إبادة جماعية لأهلي، تسببت في ولادتي من جديد، وهذه الولادة أظن أنها ستلاحقني طوال حياتي، فهي ليست ولادة مجازية، بل حقيقية وكاملة تماماً. فأنا قبل السابع من أكتوبر ليس كما بعده. لقد بعثت إنساناً جديداً، ينظر إلى الحياة بشكل مختلف ولا يرى الأشياء من ذات المنظور القديم. يشبه الأمر أن يحمل الإنسان ذاكرته ويلقي بها من أعلى جبل، هل تعود له ذاكرة؟ أن يلقي أفكاره في بحر فتغرق، هل يعود له أفكار؟
يشبه الأمر أن يحمل الإنسان ذاكرته ويلقي بها من أعلى جبل، هل تعود له ذاكرة؟ أن يلقي أفكاره في بحر فتغرق، هل يعود له أفكار؟
ولأن الإنسان ليس إلا مجموعة من الأفكار المحمّلة على ظهره، فقد أصبحت إنساناً آخر عندما استيقظ في الثامن من أكتوبر، وجدَ نفسه في عالم غريب عنه كلياً، عالم ساقط من مستوى النظر ولا يشبه أيّ عالم رآه من قبل، فلم يعد الغرب ذلك الغرب، ولا الشرق ذلك الشرق، ولا القيم هي ذاتها القيم كل شيء تغيّر. لقد سقطت مئات الكتب وانسكبت آلاف القناعات على أرض مائلة، ولم يعد ممكناً أبداً إيقاف تدفقها إلى الهاوية.
سقوط الأقنعة
بعد السابع من أكتوبر، مزّقت دفتر حياتي ورقة ورقة، تخلصت من كلّ الأحلام التي دونتها سابقاً، ومسحت كلمة "أوروبا" عن جدار غرفتي. استعدت مفهوم الوطن، أي أنني أدركت معنى أن يكون الإنسان منتمياً إلى فكرة ما إيماناً خالصاً، لا تعطّله جنسية ولا يحدّده لون، ما جعل غزة أقرب إلى قلبي من أيّ وقت مضى، فهذه المدينة -أقصد التي كانت مدينة- لم تكن قاسية كما اعتقدت، ولم تطردني منها، ولكنهم هم من فعلوا ذلك، وحين أقول "هم" فأنا لا أتحدث عن القاتل فقط، بل أجمع معه كلّ من شاهد المذبحة واستمرّ في إدانة المذبوح.
أدركت أيضاً، أن جنسيتي تحدد مقدار الإنسانية التي يمكن أن يعاملني بها الآخر، ذلك الآخر الذي كان سبباً مباشراً في حملي لأفكار مقدسة في السابق عن الإنسانية وتقديس الأرواح. أسقطت الحرب القناع عن هذا الآخر، فرأيت لسانه يابساً أمام مشاهد القتل المتكرّرة للأطفال والنساء، بعدما كان مرناً وممتلئاً بالكلمات في مواجهة العنف الأسري والتشرّد وحرية الرأي، وشاهدت كفه البيضاء الخفيفة وقد تحوّلت إلى كف ملطخة بالصمت وغير قادرة على التلويح.
قواعد جديدة
ليست قاعدة واحدة، بل قواعد كثيرة هي التي أنشأتها هذه الحرب في رأسي، أولها أن الفلسطيني لا يقتَل بل يموت، وأنه إذا قتل فلا يذكَر قاتله، وإذا مات فهذا قضاء وقدر. وثانيها أن المساعدات أهمّ من وقف إطلاق النار، فليس من المنطقي أن يقصف الفلسطيني ثمّ لا يجد مخدّراً لبتر قدمه، فبتر قدمه دون شعوره بألم أهم من بقائها سليمة، وليس من المنطقي أيضاً أن يموت الفلسطيني ولا يجد كفناً، فالعالم يهمّه أن يكفّن الفلسطيني. وثالثها أن قصف المستشفيات -الفلسطينية تحديداً- أمرٌ قد يحدث بالخطأ فعلاً مرة في اليوم على الأقل. ورابعها وخامسها وسادسها... إلخ.
فلماذا لم يخبرني العالم بكل ذلك من قبل؟ لو أنه أخبرني فقط لكان الأمر أقلّ وطأةً، لتصالحت على الأقل مع جوع أهلي وموتهم، أما وقد حدث ما حدث، فلم يعد الكلام مفيداً. وصار عليّ أن أجعل احتمالات الموت تهزم احتمالات البقاء، فمن حسن الحظ أنني على قيد الحياة، هذا لم يكن احتمالاً متاحاً على الإطلاق لفلسطيني آخر مثلي. لذلك كله، ليس هناك داع لأن يصوّر أهلي أنفسهم وهم يموتون، عليهم أن يموتوا بصمت، فالعالم لا تهزّه يد طفل فلسطيني عالقة بين الركام، ولكن تهزه دمعة طفل آخر في بلاد أخرى لم تذق طعم الحرب يوماً.
أدركت أيضاً، أن جنسيتي تحدد مقدار الإنسانية التي يمكن أن يعاملني بها الآخر، ذلك الآخر الذي كان سبباً مباشراً في حملي لأفكار مقدسة في السابق عن الإنسانية وتقديس الأرواح
فيلم مسل
حياتي وحياة أخوتي وجيراني ومَن صادفتهم يوماً في طابور المخبز أو في مطعم أو كافيه، ليست شيئاً مهماً على الإطلاق، فهي حياة مقصوصة من فيلم طويل مسل، وإلا لماذا لم يستطع أحد إيقاف الإبادة؟ يشاهده العالم -كل العالم- هذا الفيلم، فيبكي تارةً ويضحك أخرى، ولا يتقدّم خطوة واحدة لإيقاف العرض. إنه لا يفكر في ذلك أصلاً، فالمخرج مبدع تماماً ويعرف كيف يثبّت جمهوره في مكانه.
لقد استطاع لفتَ أنظار الكوكب إلى بقعة لا تتجاوز مساحتها 365 كيلومتر لمدة تجاوزت 95 يوماً، وهذا ما لم يفعله أحد من قبل. ولكن، أيها المخرج لقد تعبنا، أرجوك أعد الفيلم من البداية. لقد كانت الحياة جميلة جداً رغم مرارتها، والأيام التي اعتقدنا طويلاً أنها علقم لم تكن كذلك، كانت أيام جيدة والله، يستطيع الفلسطيني فيها أن يشربَ فنجان قهوة على شباك يطلّ على سماء، أيّ سماء. ألم تكن هذه النعمة كافية لأن يشكر العالم عليها؟
توسلات أخيرة
أيها المخرج، أرجوك، أتوسل إليكَ، أعد الفيلم من البداية. أعده إلى الساعة 6:45 AM من يوم 7 أكتوبر، حيث لم تطلق رصاصة واحدة بعد، ولم يستيقظ أبي من النوم. أرجوك، لقد تركت كومة من الأفكار هناك وأحتاج أن أسترجعها لأستطيع النوم والتعامل بشكل طبيعي مع العالم، أرجوك لقد أصبح التمثيل هزلياً، عقلي لم يعد قادراً على إكمال المشاهد ويدي ترجف من خوف كبير يقترب كلّ يوم، ودماء أحبابي تكاد تغرقني.
أرجوك أعد الفيلم من البداية ولتذهب أفكاري الجديدة إلى الجحيم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.