هل لمست الفن، هل نزل عليك سحره؟
رغم انشغالي الكبير بالكثير من الأسئلة عن الفن وأصالته وجدواه ومعناه، تلمّست قبساً من سحره، حدث ذلك في لحظة من أكثر اللحظات العشوائية في حياتي.
في نهاية العام، في شهر ديسمبر قبل سنوات عديدة، كنت تائهة على نحو ما في شوارع وسط البلد بالقاهرة، وأنا ضيفة على شوارع العاصمة المزدحمة لحضور تدريب تابع لعملي كطبيبة. انتهى التدريب وتماهيت في زحمة القاهرة، لأجدني مع صديقة لي، متورطتين في حديث طويل مع أحد باعة الشباشب البلاستيك في منطقة العتبة. حديث أفضي إلى عرض مغري: أن نشتري خمسة أزواج من الشباشب بسعر ثلاثة أزواج منها، عرض مغري أليس كذلك؟
التساؤل هنا الذي لم يخطر وقتها على بالي: ما حاجتي أنا لكل تلك الشباشب، فضلاً عن أني أقيم في مدينة ساحلية "بورسعيد"، يأتيها الناس خصيصاً لشراء السلع المستوردة وغيرها من الأشياء بأسعار أقل وجودة أفضل، لكن فيما يبدو أن القرارات الخاطئة لا ندرك مدى فداحتها حتى نلمسها بيدنا، فلقد انشغلت يداي بحمل شنطتين من البلاستيك الأسود التي لا تختلف عن شنط جمع القمامة، ممتئلتين بالشباشب، ولولا لمحة من سخرية كبيرة انتابتني من ذلك الحال الذي أنا عليه، أراوح بين الشنط وبين علبة صغيرة بداخلها قطعتين جاتوه من حلواني العبد، لعجبت لنفسي وما أنا عليه.
أحب العالم الذي أراه من فوق الرصيف، العالم الذي أكون فيه شخصياً منسياً يتأمل وحسب، دون الحاجة للتصادم مع واقعه
وبينما أنا وصديقتي نحمل بين أيدينا قراراتنا الخاطئة السوداء، حرفياً، تذكرت رغبتي القديمة في حضور حفل في دار الأوبرا، والتي لمحت مبناها العريق من على بعد، فلم أتوان عن المضي نحوها.
ولمّا كان الحال كالذي نحن عليه، سألنا رجل الأمن عن محتوى الأكياس. أجبنا بضحكة خجلة وأريناه إياها، ولم أرد التعمق طويلاً في تحليل نظرة عينيه تجاه هالة الغرابة التي تحيط بنا، فقط أخبرته أن الأمر سيستغرق عشر دقائق، سأحجز تذكرة لحفل اليوم وأعود ثانية، فخفض رأسه موافقاً، لكنه رفض طلبنا أن يبقي الأكياس معه حتى نعود إليه.
ولأن رغبتي في حضور حفل في دار الأوبرا كانت خالصة في معناها غير مبالية في تفاصيلها، فلم يكن لدّي علم ببرنامج حفلات الأوبرا، مضيت بأمل نحو شباك حجز التذاكر أسال عن حفلات اليوم، ليطالعني وجه الرجل بابتسامة أن هناك بعد ساعة ونصف حفلاً موسيقياً على آلة الهارب وحفل أغاني ديزني. حجزت بلا تفكير، ومع ضيق الوقت المتبقي لحضور الحفل، والذي لا يسمح بالعودة إلى مكان إقامتي في القاهرة، لتبديل ثيابي والتخلص من ذلك العرض المغَرّي (نسبة إلى الغِراء) والرجوع إلى دار الأوبرا مجدداً، فالأمر مع الزحام قد يستغرق ساعتين على أقل تقدير، بقي لدّي مشكلتان أساسيتان.
ما هي الجلسة الأكثر راحة بالنسبة لك، وفي أي مكان؟
أولهما وأكثرهما إلحاحاً أني جائعة، لم أتناول شيئاً منذ الصباح سوى قطعتين من البسكويت، وثانيهما أن عليّ أن أتخلص من تلك الشنط القبيحة، فلن يُسمح لي، بأي حال من الأحوال، أن أدخل مسرح دار الأوبرا العريقة وأنا أحملها.
المشكلة الأولى الخاصة بالجوع، لم يكن الخروج من دار الأوبرا لجلب طعام سريع فيها حلاً يذكر، فلن أمرّ ثانية على رجل الأمن ليطالعني مجدّداً بنظرات مرتابة، كان الحل الواقعي أن أهضم جوعي بالجاتوه الذي أحمله معي. جلست على الرصيف آكل الجاتوه، وأنا إن سألني أحد يوماً ما، ما هي الجلسة الأكثر راحة بالنسبة لي؟ لأجبت بلا تردّد: جلستي على الرصيف. تلك الجلسة تحمل لي الرؤية الأكثر إلهاماً في الكتابة وتأمل العالم. لا أحب مشاهدة العالم من منظور مرتفع كنافذة الطائرة، ولا منظور سريع ككرسي السيارة، ولا منظور متحرك كنظرة المشاء. أحب العالم الذي أراه من فوق الرصيف، العالم الذي أكون فيه شخصاً منسياً، يتأمّل وحسب، دون الحاجة للتصادم مع واقعه. ولمّا هدأ الجوع وموعد الحفل اقترب، تفتق ذهني عن تفكيك الشباشب من أكياسها ومحاولة ضغطها بشكل ما يصغّر من حجمها، وفرّغت حقيبة ظهري "الباك باك" من كل شيء، وأعدت وضع أزواج الشباشب داخلها. نجحت الخطة وبدلاً من أكياس سوداء كبيرة أصبحت حقيبتي التى أحملها منتفخة بشكل مريب.
قبل أن تفتح القاعة قبل دقائق من موعد الحفل، جلست على مقعد مبطن، أطالع بأسى تلك اليافطة الأنيقة فوق الستائر القطيفة الحمراء مكان خلع المعاطف، أنظر لمظهري. كان جيداً ومناسباً لكود ملابس الحفلة "سمارت كاجوال" لكنه كان بعيداً كل البعد عما حلمت به يوماً.
انتهى الحفل، وبينما أنا غارقة في افتتاني باللحظة، تسلسل إلى سمعى صوت الشاب المتململ بجواري يخاطب فتاته: "الله، الأوبرا حلوة أوي ياقطتي"
كان لدّي حلم قديم عند زيارتي الأولى لدار الأوبرا، أن أرتدي ثوباً أسود طويلاً، ذا عنق طويل، وأتأبط يد حبيبي، وأنظر بعين الدهشة لأرى قلبي كيف سيتعامل مع سحر الأوبرا الذي طالما شاهدته وقرأت عنه. لحظة كنت أراها في أحلامي كلحظة ساحرة مخبأة، والآن أنفضّ سحرها أمامي بأسخف طريقة يمكن أن تحدث. غرقت في حسرتي حتى بعد دخولى القاعة. جلست على الكرسي المخصّص لي، ليعيق حزني على تفتت حلمي حديث بين شاب وفتاة يجاوراني، يظهر من كلامهما أنهما في بداية قصة حب.
الفتاة كلاسيكية تحب الأوبرا والشاب متململ في زيارته الأولى للأوبرا. تخبره الفتاة عن الموسيقى يحدثها عن أفلام الأكشن، وأنا أنظر لحقيبتي المنتفخة بأسف لضياع الزيارة الأولى والأحلام الكبرى بورطة سخيفة وعبثية خالصة. وبينما نحن على ذلك الحال، فتح ستار المسرح عن فتاة جميلة، جميلة لدرجة مبهرة، ترتدي فستاناً كثياب سندريلا، وبضحكة آسرة، انطلقت تغني أغنية ديزني "once up on December".
كان صوتها عذباً كالماء، طلتها ساحرة كحبات لؤلؤ تتشكل أمامك، بدأ السحر يُصنع. تلاشى الواقع. امتدت القاعة حتى شعرت كأني بمفردي داخلها، خفيفة كريشة سابحة في فضاء ممتد، لا أحلام ضائعة ولا ورطة مؤرقة مع الواقع، لا قرارات خاطئة ولا جلسات تأمل خاطفة فوق رصيف مترب. سحر الفن الذي يسحبك بخفّة من كل شيء. لو تسنى لي يوماً أن أصف سحر الفن لن أكتب أكثر من هذا، سحره هو الذي يفكّك ورطة الواقع وينسيك لوهلة ضياعك الكبير في زحام الحياة الواسعة.
انتهى الحفل، وبينما أنا غارقة في افتتاني باللحظة، تسلسل إلى سمعى صوت الشاب المتململ بجواري يخاطب فتاته: "الله، الأوبرا حلوة أوي ياقطتي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون