تتزايد المخاوف في تونس من أن تحيّد حملة الاعتقالات والتوقيفات التي نفذتها أخيراً الأجهزة الأمنية ضدّ عدد من الصحافيين والإعلاميين مسار الديمقراطية وحرية التعبير الذي يصبو المجتمع المدني إلى تحقيقه كهدف من الأهداف التي قامت من أجلها ثورة الياسمين أواخر عام 2010، خصوصاً مع لجوء السلطة القضائية بمعيّة رئاسة الجمهورية إلى الاحتكام إلى قوانين مضى عهدها وولّى منذ الإطاحة بنظام الرئيس المعزول زين العابدين بن علي الاستبدادي.
يطرح هذا الواقع عدة تساؤلات أبرزها: هل سجن الصحافيين زياد الهاني وخليفة القاسمي وشذى مبارك وغيرهم دليل على العودة إلى المربع الأول من قمع حرية الصحافة؟ وهل عودة العمل بقوانين ما قبل الثورة السالبة للحرية سيحدّ من دور المؤسسات الإعلامية كسلطة رابعة ونافذة في تونس؟ وهل يكون اعتبار انشغال التونسيين بأزماتهم اليومية ومشاغلهم الحياتية مؤشراً على تذيّل حرية التعبير لقائمة أولوياتهم أم هي سياسة ممنهجة لإخراج حرية الصحافة والتعبير عن مسار التحوّل الديمقراطي الذي قد بدأ فعلاً في تونس وإن كان بطيئاً وفي مرحلته الجنينيّة؟
قمع في وضح النهار
المتمعّن بتفاصيل المشهد الإعلامي من بعيد دون تربّص أو اهتمام، قد لا يُدرك أن ما يمرّ به القطاع من محاولات للجم الأفواه وكتم الأصوات ليس سوى محاولة لجسّ نبض الشارع التونسي وقراءة أوليّة لردّ فعله من مسألة إنشاء قيود على حرية التعبير قبل البدء فعلياً في تنفيذ مخطط العودة إلى استبداد ما قبل الثورة وترميم قوانين النظام السابق بأسلوب منمّق.
يعرب رئيس النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين زياد دبار، في تصريح لرصيف22، عن تخوفه من أن يلجأ القضاء مستقبلاً إلى قوانين مهجورة للترهيب بعد إحالته الصحافيين في الذكرى الثالثة عشرة للثورة ووضعهم في مواجهة شرسة مع جهاز يطبق قوانين نظام بن علي على مجلة الاتصالات والمجلة الجزائية وقانون الإرهاب والمرسوم عدد 54.
القضاء التونسي يلاحق قرابة 20 صحافياً/ةً في "سابقة تاريخية لم تشهدها تونس منذ استقلالها عام 1956"، بحسب تصريحات نقيب الصحافيين التونسيين زياد دبار. هل هي عودة إلى المربع الأول من قمع حرية الصحافة؟ وهل تكتفي النقابات بالدعوة إلى الاحتجاج؟
مثل الصحافي زياد الهاني (59 عاماً) أمام المحكمة الابتدائية بتونس في العاشر من كانون الثاني/ يناير 2024 وصدور حكم ضدّه بالسجن لمدّة ستة أشهر مع وقف التنفيذ لإدانته بالإساءة للغير عبر شبكات التواصل بموجب الفصل 86 من مجلة الاتصالات على خلفية الدعوى التي رفعتها ضدّه وزيرة التجارة كلثوم بن رجب، إثر تصريحات إعلامية أدلى بها في إحدى البرامج الإذاعية. وأوقف الصحافي خليفة القاسمي، مراسل إذاعة موزاييك الخاصة بمحافظة القيروان، في أيلول/ سبتمبر 2023 وتنفيذ حكم استئنافي ضدّه يقضي بسجنه خمس سنوات بتهمة المشاركة في إفشاء معلومات تتعلق بتفكيك خلية إرهابية في المحافظة، بالاستناد إلى الفصل 62 من القانون المتعلق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال والمجلة الجزائية. واستمرت عملية مضايقة والضغط على عائلة الصحافية شذى الحاج مبارك منذ إيداعها بسجن المسعدين في 22 تموز/ يوليو 2023 في ما يعرف بقضية "انستالينغو".
علاوة على ما سبق، وبحسب نقابة الصحافيين التونسيين، فإن القضاء يلاحق قرابة 20 صحافياً/ةً في الفترة الحالية في "سابقة تاريخية لم تشهدها تونس منذ استقلالها عام 1956"، وفق تصريحات سابقة لنقيب الصحافيين.
ويعتبر نقيب الصحافيين التونسيين أن هذه الاستهدافات ليست سوى مؤشر خطير على سقوط حرية التعبير في ما يشبه المنعرج الخطير الذي تكون فيه الرؤية منعدمة نظراً لوجود لافتات قانونية سالبة لحرية المواطن في الإفصاح عن موقفه وإبداء رأيه في مسائل سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية بما يجعله في حالة خوف مستدامة تهيئ المجال لخلق مناخ من التخويف والصنصرة (الرقابة) الهادفة لعرقلة بناء وطن ديمقراطي.
خلال الوقفة الاحتجاجية التي نفذها الصحافيون أمام المحكمة الابتدائية بتونس بالتزامن مع انعقاد جلسة محاكمة زياد الهاني الموقوف منذ أيام، جدّد النقيب زياد دبار المطالبة بتطبيق المرسوم 115 عند إحالة أي صحافي/ة إلى القضاء.
زياد الهاني حافي القدمين
نشرت ثريا الزواري، زوجة الصحافي زياد الهاني، تدوينة على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، كما تساءلت وآخرون عن الأسباب وراء تنكيل القضاء بأدمغة نيّرة في تونس في ظل غياب واضح لمواقف عدد من السياسيين النزهاء ورجال الأعمال والقامات الإعلامية المعروفة على الساحة الوطنية، على خلفية دخول الهاني قاعة المحكمة حافي القدمين. رفض الصحافي المخضرم الذي ذاع صيته عقب معارضته لنظام بن علي، ارتداء نعاله ودخوله حافي القدمين ومكبّل اليدين إلى قاعة المحاكمة بعد أن رفضت القاضية السماح له بارتداء سترته الصحافية.
يرى كثيرون أن تعمّد الهاني المثول حافي القدمين أمام القضاء هو رسالة استشرافية لما سيؤول إليه قطاع الإعلام مستقبلاً من تعتيم وقوانين ردعية ستحد من دور الإعلام والصحافة في القيام بدوريهما الرقابي والتوعوي.
من جانبه، يجزم نقيب الصحافيين، دبار، بأن القول والفعل بحرية الصحافة يقفان عند مفترق طرق لأن الخطاب الرسمي للدولة التونسية يثمّن الثورة وأهدافها في حين تزدري أجهزتها الثورة وتطبق قوانين استبدادية تعود إلى ما قبل 13 عاماً على جنود الصحافة ليتأكد وفقاً لذلك أن المسؤولين والوزراء ورئاسة الجمهورية يهابون - في الوقت الراهن - وجود الإعلام كسلطة مضادة لكل السلطات، ما يدفع إلى التساؤل عن ماهية رؤية الدولة للإعلام التونسي في ظل التغيرات السياسية الكبرى التي تطرأ اليوم على العالم.
قبل الحكم بسجنه ستة أشهر مع وقف التنفيذ، دخل الصحافي التونسي زياد الهاني قاعة المحكمة مكبّل اليدين حافي القدمين ورفض ارتداء نعاله بعد أن رفضت القاضية السماح له بارتداء سترته الصحافية. تعمّد الهاني المثول أمام القضاء بهذه الهيئة هو رسالة استشرافية لما سيؤول إليه قطاع الإعلام مستقبلاً من تعتيم وقوانين ردعية ستحد من دور الإعلام والصحافة في القيام بدوريهما الرقابي والتوعوي
ترميم النظام ورصاصة قتل الإعلام
في تعليقه على الممارسات والاعتقالات التي تطال الصحافيين بالتوازي مع الأزمات التي تمر بها البلاد، يقول لرصيف22 سامي الطاهري، المتحدث الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل، إن "ما يحدث اليوم يأتي في إطار ما يسمى تمهيد الطريق لترميم نظام استبدادي وإعادته للواجهة من جديد عبر عملية ترهيب ليس فقط عبر محاكمة الصحافيين وإنما من خلال سياسية تجفيف منابع وسائل الإعلام التي تضررت كثيراً من حيث التمويل وقدرتها على الاستمرارية أو تضييق الخناق عليها سواء عبر التدخل في خطها التحريري مثلما يتعرض له الإعلام العمومي أو التهديدات التي تتلقاها المؤسسات الخاصة".
ويعتبر المتحدث باسم أعرق منظمة شغِّيلة في البلاد أن أولى ملامح إعادة دولة الاستبداد وحكم الفرد تبرز عادة من خلال إسكات صوت الإعلام الحر المنحاز لقضايا شعبه والقادر على كشف الحقائق إذ يضيف: "نحن هنا (في الوقفة الاحتجاجية أمام جلسة محاكمة الهاني) كاتحاد لنذكّر أن المرسوم 54 هو مرسوم لتكميم الأفواه ورصاصة لقتل الإعلام وحرية الرأي ونطالب بإسقاطه وتحرير الصحافيين".
يتوافق رأي المتحدث باسم اتحاد الشغل مع ما يُبديه الأمين العام لحزب العمال التونسي حمّة الهمامي الذي يؤكد لرصيف22 أن سجن زياد الهاني يعدّ ضربة أخرى لحرية الإعلام ووجه من وجوه الاستبداد الذي يسعى الرئيس قيس سعيد لإرسائه من خلال حكم فردي مطلق وهيئات صورية وإعلام مكبل.
مشاغل حياتية أم محاولات لتذييل حرية التعبير؟
يضيف اليساري المعارض، الهمامي، أن "الاستبداد الذي يُمارس على الصحافيين ليس بمعزل عن واقع التونسيين لأن أهداف المُستبد سياسية بامتياز وهو ما نجده اليوم في ميزانية تونس التي عرفت مديونية غير مسبوقة فضلاً عن غلاء الأسعار وندرة المواد الغذائية الأساسية وتدهور الخدمات وانشغال المواطن البسيط في هذه المسائل الضرورية وعدم توفيرها بالنسبة له قد يوقعه في فوبيا التجويع ما يجعل فِكرِه مُنصبّاً بالدرجة الأولى في بوتقة جوفاء تُنسيه الأهداف الحقيقة التي جاءت بها ثورة الحرية والكرامة".
"من الواضح أن هناك سياسة ممنهجة لتغييب الشعب وخلق عداوة بين المواطن التونسي والإعلام مثلما شهدناه سابقاً مع الأحزاب والمجتمع المدني"، هكذا يرى القيادي سامي الطاهري المعادلة التي تسعى من خلالها السلطة الحالية إلى نسج صورة جديدة مشوّهة للإعلام لتمهيد عملية ضرب حرية الإعلام والحد من مساعي التضامن، مُردفاً بأن عملية مسبقة تم الإعداد لها عبر وسائل التواصل الاجتماعي لترذيل الصحافيين وعزلهم عن الواقع الذي يشهد بطبعه تراجعاً في المردود الاقتصادي من خلال ارتفاع الأسعار والمردود الاجتماعي عبر تفشي البطالة ما أدى بطبيعة الحال إلى تحويل الأكل والشرب إلى أولية وضرورة حياتية ونقل حرية التعبير والصحافة إلى أدنى المراتب وكأنها أمر ثانوي.
"الاستبداد الذي يُمارس على الصحافيين ليس بمعزل عن واقع التونسيين لأن أهداف المُستبد سياسية بامتياز وهو ما نجده اليوم في ميزانية تونس التي عرفت مديونية غير مسبوقة فضلاً عن غلاء الأسعار وندرة المواد الغذائية الأساسية وتدهور الخدمات وانشغال المواطن البسيط في هذه المسائل الضرورية وعدم توفيرها بالنسبة له قد يوقعه في فوبيا التجويع ما يجعل فِكرِه مُنصبّاً بالدرجة الأولى في بوتقة جوفاء تُنسيه الأهداف الحقيقة التي جاءت بها ثورة الحرية والكرامة"
وقفات ودعوات إلى الاحتجاج ... هل تكفي؟
مع تزايد المخاوف من تحوّل السجون إلى مقبرة للصحافيين أو أن يعيش قطاع الإعلام في حالة سراح مؤقت في ظل ما يصفه البعض بالدور المحدود للنقابات الصحافية والجامعات الإعلامية والمنظمات الدولية والحقوقية التي تدافع عن عمل الصحافي ومع محدودية تدخل المجتمع المدني في هكذا قضايا، يؤكد محمد ياسين الجلاصي، ممثل الاتحاد الدولي للصحافيين، في تصريح لرصيف22، أن حرية الرأي والتعبير كانت وستبقى مطلباً أساسياً لفئة كبيرة من المواطنين ومن النخب والمنظمات والشخصيات والأحزاب والنقابات وغيرهم.
ويدافع الجلاصي عن المجهود الذي تقوم به نقابة الصحافيين التونسيين للذود والدفاع عن حقوق الصحافيين قائلاً إن "نقابة الصحافيين تقوم بالدور المنوط بها على الأقل وفقاً للإمكانات المتوفرة لديها من خلال الدعوات والبيانات والوقفات الاحتجاجية والتدخل عبر تجنيد محامين للدفاع عن أهل المهنة".
وهو يردف: "دور النقابات نضالي بالأساس، وهي ليست قوة أمنية أو عسكرية حتى تقتحم السجون وتطلق سراح المسجونين. والمجهود الذي تقوم به النقابة التونسية يأتي بالتوازي مع الحملات العالمية للتعريف بقضايا الناس مُنتَهَكي الحرية مثل منظمة العفو الدولية. كما أن هناك جهود خفية وغير مُعلن عنها ويصعب إدراكها في ظل مناخ ملأه الترهيب، ما جعل المواطن العادي ينظر لحرية التعبير على أنها أمر هامشي وليس أولوية في انتكاسة واضحة للديمقراطية التي أصبحت تتجول بين أروقة المحاكم وغرف البحث والتحقيق".
في الأثناء، يؤكد نقيب الصحافيين زياد دبّار، لرصيف22، أن النقابة تتجه لتصعيد معركتها ضد القضاء والضغط لتطبيق المرسوم 115، مبيناً أن النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين تعمل بالتنسيق مع عدد من النواب في البرلمان على تعديل المرسوم عدد 54 وعلى وضع قانون إطاري لحرية التعبير والدفاع قدر الإمكان على هذا القطاع.
يُذكر أن منظمة العفو الدولية كانت قد طالبت، في التاسع من كانون الثاني/ يناير الجاري، بالإفراج عن الصحافي زياد الهاني، واعتبرت أن إيقافه بموجب الفصل 24 من المرسوم عدد 54 المؤرخ في 13 أيلول/ سبتمبر 2022 والمتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال "يمنح السلطات صلاحيات واسعة النطاق لقمع حرية التعبير". كما أضافت المنظمة أنّ وكيل الجمهورية أحال الهاني إلى القضاء بموجب الفصل 86 من مجلة الاتصالات بتهمة "الإساءة إلى الغير أو إزعاجهم عبر الشبكات العمومية للاتصالات"، وهي تهمة يعاقب عليها بالسجن لمدة تصل إلى عامين وغرامة في حال الإدانة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...